* أظهر قانون قيصر اهتماماً بالنفط السوري وكيفية حجب إيراداته عن الحكومة المركزية، وهذا الأمر هو ما جعل الاتفاق النفطي ممكناً
* الحالة السورية تتصف بتداخل الأزمات بين الاقتصادي والاجتماعي والسياسي... والاقتصاد لا يولد وظائف كافية لمن تبقى في البلاد أو نزح إلى مناطق السيطرة النظامية
* حالة الاختناق الاقتصادي، تتطلب تقدماً سياسياً لم تنضج ظروفه لتخفيف تداعيات قانون قيصر الذي تم ربط رفعه أو تعليقه بتحقيق ذلك التقدم
* لا تنازلات أو محادثات متوقعة حتى الآن بين الأطراف السورية والرعاة الإقليميين والدوليين. الملف السوري في الثلاجة حالياً
جدة: لم يحدث اهتزاز في بنية الحكم السورية أو استعداده لتحقيق تقدّم سياسي بعد نحو شهرين على تطبيق قانون قيصر، لكن ضحايا القانون كثر، أهمهم المواطنون الذين يزيدون فقرًا ولا يجدون بعض السلع الأساسية، وكذلك الليرة السورية، العملة الوطنية التي صار استخدامها محظوراً في المناطق الواقعة تحت الاحتلال التركي المباشر في مناطق غصن الزيتون أو تلك التي يسيطر عليها تنظيم القاعدة الإرهابي (جبهة النصرة/ تحرير الشام) وحلفاؤه من الجهاديين التركستان والشيشان والعرب في إدلب المدينة وأريافها بتنسيق مباشر مع الدولة التركية.
أما الشرق والشمال الشرقي الغنيان بالنفط، فقد بدآ خطوة انفصالية أو فيدرالية محورية بعقد اتفاق نفطي هام بين قوات سوريا الديمقراطية وشركةأميركية للطاقة، وبخاصة في ظل استثناء مناطق الشمال والشرق والشمال الشرقي من قانون قيصر، أي جميع المناطق غير الخاضعة لسلطة الحكومة المركزية.
نناقش هنا التفاعل الحكومي السوري المركزي مع تداعيات القانون الأميركي الأشد مثل اتخاذ إجراءات قاسية بحق السيولة وتداول الدولار؟ وكيف تحصن النظام في مواقعه للسيطرة على الاقتصاد؟ وما هو سلوك إدارات المناطق غير الخاضعة للسلطة المركزية؟
حروب الليرة السورية
بدأت المضاربات على الدولار مع بداية تطبيق قانون قيصر منتصف يونيو (حزيران) الماضي، وتراجعت قيمة الليرة إلى 3500 لكل دولار، لكن النظام أفرج عن كميات من الدولار، وأعاد تجفيف الأسواق من الليرة السورية، الأداة الأهم في المضاربة، وأعاد السعر إلى نحو 2000 ليرة لكل دولار حالياً. وتزامن ذلك مع التشدد في حيازة الأفراد للدولار ومع عقوبات قاسية في حال ثبوت التداول أو المضاربة.
وبعدها بأيام، بدأت مناطق غصن الزيتون ودرع الفرات وإدلب وبعض مناطق الرقة، باستبدال التعاملات النقدية بالليرة السورية إلى الليرة التركية. هذه الخطوة تأتي لإطباق فكي الكماشة على الشمال السوري عبر «العثمنة الاقتصادية والمالية»من أجل إحكام السيطرة عليه، وربما التجهيز لاستفتاء يؤدي لانضمام إدلب وما جاورها إلى الجمهورية التركية التي انفتحت شراهتها للتوسع في الداخل العربي دون هوادة.
وقبل أيام، أصدرت مؤسسة النقد، كيان البنك المركزي التابع لجبهة النصرة في إدلب وحكومتها الإنقاذية، قراراً بحظر تداول الليرة السورية على الإطلاق مع التعامل بالليرة التركية في مناطقها. من ناحية، يفيد هذا القرار في تقليل المضاربة على الليرة السورية لصالح اكتناز الدولار وإدارة سعر الليرة من مناطق خارج سيطرة الحكومة المركزية، لكنها خطوة متقدمة في تتريك الشمال السوري كاملاً بعد أن فتحت الجامعات والمؤسسات الحكومية التركية فروعاً لها في كل أنحاء الشمال وبدأ حلم الخلافة العثمانية يتحقق على الأرض السورية رويداً رويداً.
تجفيف السيولة
يقول تاجر من دمشق في حديث مع «المجلة»: «لقد شحت السيولة إلى مستويات دنيا. الحكومة تسدد مستحقات المشاريع للقطاع الخاص على شكل حوالات مصرفية. والتجار لا يحبذون التداول بالشيكات بين بعضهم البعض. أما السحب، فهو محدد بنحو 500 ألف ليرة، أي أكثر بقليل من 200 دولار. وكانت قوانين أخرى صدرت بسداد ثمن الصفقات العقارية في البنوك تحت طائلة عدم إفراغها قانونياً لملاكها الجدد».
إذن، تجفيف السيولة كان ضمن وسائل ضبط الإنفاق، وبالتالي تخفيف الطلب على السلع، سواء كانت مستوردة أم محلية، واستنزاف الدولار ومحاولة تقليل التضخم. ولكن في ظل عدم وجود قنوات دفع وتحويل وتداول إلكترونية، فإن قلة النقد في الأسواق، قد تفرمل الحركة التجارية وتضرب النمو في مقتل.
يضيف التاجر الدمشقي: «إن شح السيولة في الأسواق يزيد الطلب على الليرة، وبخاصة مع القيود الشديدة على حيازة وتداول الدولار، وكلاهما يساهمان في تعافي الليرة السورية من حيث القيمة، لكن الكلفة عالية على مرونة الحركة التجارية، حيث التداولات النقدية هي المسيطرة والبنية التحتية للمدفوعات الإلكترونية غير جاهزة بعد».
محاربة التهريب
مع أوائل أيام تطبيق قانون قيصر، شنت سلطات الجمارك ووزارة التجارة الداخلية، حملات على المتاجر التي تبيع بضائع مهربة؛ لأن تلك البضائع تستنزف الدولار الشحيح أصلاً في الأسواق مع مراقبة شديدة للمعابر مع لبنان. صحيح أن تجفيف السوق من المواد المهربة يقلل استنزاف الدولار، لكن الأشخاص الذين يعملون في متاجر مستحضرات التجميل أو الملابس أو المواد الغذائية، سيجدون أنفسهم بلا عمل في اليوم التالي، مما يفاقم مشكلات البطالة.
التهريب آفة خطيرة على أي اقتصاد طبيعي، لكن الاقتصاد السوري ليس في وضع طبيعي، فالبضائع المهربة تغطي جزءًا من حاجة السوق لبضائع مفقودة أو تراجع إنتاجها أو إنها مواد أساسية لصناعات تعطي قيمة مضافة بعد تصنيعها.
البضائع التي يستوردها التجار بشكل نظامي تتعرض لمراحل من الالتفاف على العقوبات، مما يرفع كلفتها. أما البضائع المهربة، فهي أقل كلفة؛ نظراً لعدم مرورها بفلاتر الجمارك والمصارف والمالية. فقد يكون التهريب هو الداء والدواء للاقتصاد السوري!
رسوم دولارية وإعفاءات تحفيزية
ألزمت الحكومة السورية منذ شهر تقريباً، كل شخص يبلغ من العمر 18 عاماً فما فوق، يود زيارة البلاد، أن يحوّل ما قيمته 100 دولار نقداً إلى العملة السورية عبر مصرف سوريا المركزي وبسعر المصرف الذي يقل عن سعر السوق بنحو 40 في المائة، وذلك كشرط دخول إلى البلاد من جميع المعابر البرية والمطارات. هذا الإجراء، قد يناسب أصحاب الملاءة المالية من المغتربين السوريين في دول الخليج أو الغرب، ممن يرغبون في زيارة بلدهم. أما السوريون المقيمون في لبنان، فإن هذا المبلغ قد يفوق طاقتهم ويعوق عودتهم في ظل أزمة اقتصادية ومالية غير مسبوقة في لبنان.
وقد سجلت حالات لم يتمكن فيها سوريون عالقون في لبنان من العودة إلى سوريا بسبب عدم امتلاكهم ورقة نقدية من فئة 100 دولار لتحويلها وإتمام إجراءات الدخول. ولعل مراجعة الأمر وإعادة النظر مسألة هامة في هذه الظروف الدقيقة.
من جانب آخر، صدرت قرارات بإعفاء المزارعين مثلاً من غرامات تأخير مدفوعات الكهرباء عند السداد المبكر. كما جرى إعفاء طائفة كبيرة من المواد الأساسية من الجمارك للمساعدة في النهوض بالصناعة الوطنية. كما جرى تحسين أسعار شراء المحاصيل من الفلاحين للحبوب الاستراتيجية والتبغ.
الحلم الكردي نفطي
عقدت الإدارة المدنية لقوات سوريا الديمقراطية، التي تسيطر على أجزاء واسعة من الشرق والشمال الشرقي، اتفاقاً نفطياً هاماً مع شركة دلتا كريسنت إنرجي(Delta Crescent Energy LLC)الأميركية للطاقة لتطوير أكبر حقول سوريا النفطية والصناعة النفطية.
هذا الاتفاق يكرس استقلالية غير مسبوقة لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) ويقوي موقفها في أية مفاوضات مستقبلية بين الطرفين، إذ إن جمعها وتحصيلها للإيرادات النقدية للنفط السوري، يمنح «قسد»سلطة أقوى ويداً أعلى، سيما أن الحكومة لا تسيطر إلا على المربع الأمني والوزاري مع بعض المرافق الأساسية في مدن القامشلي والحكسة أو ليس لها وجود أصلاً مثل الرقة أو أنها تتقاسم النفوذ في دير الزور بين الريف والمدينة.
أظهر قانون قيصر اهتماماً بالنفط السوري وكيفية حجب إيراداته عن الحكومة المركزية، وهذا الأمر هو ما جعل الاتفاق النفطي ممكناً. على الجانب الآخر، لا الحكومة المركزية السورية ولا تركيا ولا إيران، ترغب في إنجاح الاتفاق. الحكومة المركزية تريد إيرادات النفط. أما إيران وتركيا، فيقيمان الخطوة على أنها إقليم «كردستان سوريا»، شقيق الإقليم العراقي المجاور، ونواة لأية جمهورية «مهاباد»مقبلة، مما يستوجب محاربة «قسد»وعدم المضي في الاتفاق النفطي؛ رغم أن تركيا حالياً هي معبر التصدير الرئيسي للنفط السوري الذي تنتجه «قسد»!
ولم ينقطع التعاون التجاري بين الحكومة السورية المركزية و«قسد»من جهة، وبين تركيا و«قسد»من جهة أخرى. فهي لا تزال تمد الحكومة بالنفط عبر شبكة من الوسطاء، وتصدر ما تبقى من الصهاريج إلى تركيا.
معاناة المواطنين
مع تدهور القيمة الشرائية لليرة السورية بشكل قياسي خلال الشهرين الماضيين، تفاقمت معاناة المواطنين، لأن ذلك ترافق مع نقص في بعض السلع الأساسية التي تدعمها الحكومة. بين الفينة والأخرى، تظهر طوابير المصطفين للحصول على سلع قليلة، لكنها ضرورية.
كما أن تحديد حصص وكميات الشراء، يضيف أعباءً على جيوب السوريين في حال شحت السلع المدعومة وتم شراؤها بسعر السوق، حيث كان متوسط الأجور الحكومية قبل عامين يصل إلى أقل بقليل من 100 دولار، علماً بأن الوظائف الحكومية والعسكرية مع المتقاعدين، تصل إلى نحو 3 ملايين. الآن متوسط الرواتب لا يتجاوز 30 دولاراً لكل أولئك الملايين.
مأزق الاقتصاد
الحالة السورية تتصف بتداخل الأزمات بين الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. والاقتصاد لا يولد وظائف كافية لمن تبقى في البلاد أو نزح إلى مناطق السيطرة النظامية من جيوش الخريجين الهائلة. ويرافق ذلك تغير في بنية الاقتصاد المنزلي والاجتماعي، حيث زاد عدد الأسر التي تعولها المرأة. وخلال 10 سنوات هو عمر الأزمة، نزلت المرأة إلى ميادين عسكرية ومدنية أكثر من ذي قبل بسبب الحرب التي زهقت فيها أرواح المقاتلين الشباب، مما أضفى أعباءً اجتماعية غير مسبوقة على المرأة السورية.
وقد حصل نمو طفيف خلال السنوات الماضية وعادت السلع الغذائية السورية تتدفق إلى دول الخليج، وتحركت الأسواق. وبعد اتفاق 2018 مع المعارضة لإخلاء جميع مواقعها والانتقال إلى إدلب، زاد عدد الزوار وانتعش القطاع السياحي والتجاري. لكن أزمة كورونا، فرضت قيوداً على حركة الاقتصاد والسفر والسياحة، مما يعني نقص المردود السياحي من العملة الصعبة.
الغريب في الأمر، أن الأوضاع الاقتصادية كانت أفضل أيام المعارك واحتلال الفصائل المسلحة أرياف دمشق ودرعا وحمص. فقد كانت الفصائل تتلقى تمويلات نقدية دولارية هائلة، مما زاد في رصيد العملة الصعبة في البلاد مع عدم مسؤولية الدولة عن توفير الخدمات الأساسية لمناطق سيطرة المعارضة، ووجود تبادل تجاري خفي لشراء وبيع السلع في الاتجاهين. سكان المدن هم من كانوا يحظون بالاهتمام الحكومي. وبعد رحيل المعارضين المسلحين، تفاقم الوضع لأن الحكومة أصبحت ملزمة بتوفير الخدمات التي كانت تتولاها المعارضة مع شح في الدولار والإنتاج المحلي من السلع والخدمات.
موجز تاريخ الأزمات
مطلع الستينات، دخلت سوريا في موجة من التأميم لمنشآت القطاع الخاص لتأكيد اشتراكية الدولة، مما خلخل الأسواق وهرب رؤوس الأموال إلى لبنان وعمان. وبعدها، فقدت سوريا جزءًا معتبرًا من سلة غذائها بعيد الاحتلال الإسرائيلي للجولان عام 1967. ودخل الاقتصاد فترة ركود حتى انتهت الحرب عام 1974 وتدفقت الأموال الخليجية لإعمار البلاد والمساعدة في مجهودها الحربي وانتعش الاقتصاد. في أواخر السبعينات، وضعت سوريا على قائمة الدول الراعية للإرهاب، ودخلت القوى الأمنية حرباً ضروساً مع تنظيم الإخوان المسلمين الإرهابي حتى استئصال الأخير، كما أيدت القيادة السياسية الجانب الإيراني أثناء الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988) فخضعت البلاد لعقوبات خليجية وغربية.. مرت حقبة الثمانينات قاسية وتدهورت قيمة الليرة؛ حتى اجتاحت القوات العراقية الكويت، ووقف الرئيس الراحل حافظ الأسد إلى جانب دول الخليج ومصر والمغرب في حرب تحرير الكويت. وتدفقت المساعدات الخليجية في التسعينات التي كانت عصراً ذهبياً للاقتصاد السوري مع تصدير المزيد من النفط. مع بداية الألفية، كان الركود قد تسلل إلى شرايين الاقتصاد وقل إنتاج النفط. وجاء قانون محاسبة سوريا الذي أقره الكونغرس ليمنع الطيران السوري من الذهاب إلى الولايات المتحدة والشركات من الاستثمار في سوريا. بعد 2005 والانسحاب السوري بعيد اغتيال الحريري، دخلت متغيرات آيديولوجية إلى حزب البعث عبر تبني اقتصاد السوق الاجتماعي. وانتعشت البلاد بين 2005 ومطلع 2011، ثم دخل الاقتصاد في حقبة الانكماش والحرب وحزم متنوعة من العقوبات الأميركية والأوروبية والعربية حتى يومنا هذا.
التقدم السياسي
حالة الاختناق الاقتصادي، تتطلب تقدماً سياسياً لم تنضج ظروفه لتخفيف تداعيات القانون الذي ربط رفعه أو تعليقه بتحقيق ذلك التقدم. فلا يزال النظام يؤمن بقوة بعودته إلى آخر مخفر حدودي مع تركيا وأن يكون مختار أصغر قرية في أقصى الشمال الشرقي، يأخذ تعليماته من سلطة الحكومة المركزية. وهناك المناطق التي أحكمت تركيا سيطرتها عليها ولم يعد التخلي عنها سهلاً. أما قوات سوريا الديمقراطية، فليست بوارد التخلي عن المناطق، والتحول إلى حزب سياسي، يمارس الانتخابات والصحافة تحت سقف النظام. سيستمر القانون الأميركي بتضييق الخناق وتفاقم الأوضاع الاقتصادية، لكن لا تنازلات أو محادثات متوقعة حتى الآن بين الأطراف السورية والرعاة الإقليميين والدوليين. الملف السوري في الثلاجة حالياً!