* بدأت أول أزمة اقتصادية سعودية كبرى في ثلاثينات القرن الماضي عندما كانت موارد الدولة السعودية تعتمد على موارد الحج وقليل من الزراعة والرعي البدائي * تكسرت صور نمطية، وخرجت المرأة والشاب إلى سوق العمل. وصار لدى بعض الشركات مفهوم الدوام الجزئي لطالبات وطلاب الجامعات السعوديين للجمع بين العمل والدراسة * التاريخ والواقع والإمكانات تبشرنا بانتعاش قادم والمتفائلون النشيطون أول الرابحين
جدة: في أواخر عام 1990، شعر التاجر السعودي عبد الله خالد (اسم مستعار) بأن منشأته التجارية وعالمه الصغير ينهاران، فقد انخفضت المبيعات الشهرية من مليون ريال (260 ألف دولار) إلى أقل من 40 ألفا (10.6 ألف دولار) بعيد شهرين من الغزو العراقي لدولة الكويت. عجز عبد الله عن دفع رواتب موظفيه والمصاريف التشغيلية ولاحقه الموردون مطالبين بسداد ثمن بضائع كاسدة، وكاد أن يغلق منشأته ويمنح عامليه تذاكر سفر بلا عودة، لولا أن أحد أصدقائه المخلصين قال له: «ستمر هذه المحنة، وستحتاج إلى قليل من الصبر وتحمل الألم، فبلادنا قوية ولدينا اقتصاد متين، وستعود الأمور إلى ما كانت عليه، بل وأفضل».
لم تمر بضعة أشهر على تحرير الكويت في فبراير (شباط) 1991؛ حتى عاودت منشأة عبد الله الانتعاش من جديد، وبدأت حقبة جديدة في التوسع والنمو. وتعافى الاقتصاد السعودي تدريجياً؛ رغم وجود أزمة انخفاض أسعار النفط خلال التسعينات.
لم يكن ثلثا السعوديين الموجودين على قيد الحياة الآن قد ولدوا في ذلك التاريخ. ولأن الذاكرة سريعة التبخر، فقد لا يتذكر كثيرون محنة غزو الكويت والتهديد الوجودي للسعودية، وما رافقها من تكبد نفقات وديون مليارية لتمويل حرب تحرير الكويت، إلى جانب إغلاق المنشآت وذهاب عشرات آلاف المقيمين إلى بلدانهم في رحلات خروج نهائي بلا عودة.
وهكذا هي السعودية، تمر بمنعطفات خطيرة، سياسية واقتصادية واجتماعية، وأخيراً صحية بسبب أزمة كورونا. صحيح أن هناك قلقاً وتساؤلاً تجب مناقشته، إلا أن كل ذلك مؤقت، ولا تلبث المملكة طويلاً؛ حتى تتجاوز كل ذلك وتنطلق من جديد، والتاريخ شاهد. بل إن الأزمات تحمل معها دوماً فرصاً جديدة ونماذج جديدة للأعمال وريادتها، تمهد للنمو المقبل.
بدايات لأعمال جديدة
تتحدث ريم، الموظفة في إحدى شركات صناعة الهوية التجارية والبصرية للشركات، إلى «المجلة» بقولها: «منذ منتصف يونيو (حزيران) الماضي، بدأ رواد الأعمال يتوافدون طلباً لإعادة تصاميم الهوية التجارية والبصرية؛ لأن المستهلك المحلي زاد وعيه وصار يبحث أكثر عن القيمة المعنوية للعلامة التجارية، وكيف تناسب أسلوب حياته مع الوصول إلى شرائح أكثر في المجتمع عبر التنافس على القيمة أكثر من السعر».
لقد نشأ جيل جديد من رواد الأعمال القادرين على التكيف مع مختلف الظروف، ومنها صعوبات بيروقراطية أو لها علاقة بتوفير وظائف أكثر لأهل البلاد وتعدد الرسوم التشغيلية. وفي هذه الأيام يبرز دور جديد لمنشآت صغيرة ومتوسطة، للعمل بنماذج أعمال أكثر كفاءة، تتبنى ثقافة دمج المجتمع بتوفير خيارات أكثر بقيمة أفضل.
تتذكر ريم أياماً سابقة، مرت وطأتها ثقيلة على مجتمع الأعمال، عقب الإغلاق شبه الكلي للاقتصاد ومحدودية حركة الأفراد، بقولها: «كانت شهور مارس وأبريل ومايو، مؤلمة لي ولزملائي في الشركة، حيث اقتطعت الشركة 40 في المائة من راتبي، وهي النسبة القصوى التي سمحت بها وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية السعودية. كانت الرواتب تتأخر وتوقف العملاء عن الدفع لأن المتاجر والمنشآت مغلقة أو تعمل بطاقتها الدنيا. كيف سيدفعون لنا؟».
لكن الأمر تغير الآن، فتقول في شهر يوليو حققنا قفزة نوعية في مستوى الأعمال وتحصيل المستحقات من العملاء. لقد انتعشت الحياة من جديد وسنعود إلى رواتبنا السابقة في غضون شهر أو شهرين، وتقول آملة: «قد نعوض بطريقة أو بأخرى عما فاتنا من رواتبنا. ولم لا؟ سننمو حتماً».
مبادرة أم ركون
استغلت بعض الشركات التي تضررت بفعل وقف أنشطتها فترة الحظر لإعادة ترتيب أوراقها. ينتج عن العملية خسائر من نوع ما في الموارد البشرية أو كتلة الرواتب والإيرادات لدى البعض، لكن الشركات التي تحملت الألم وصمدت هي التي ستبقى في السوق.
وفي الوقت ذاته، ستفتح شركات جديدة بأفكار أكثر ابتكاراً وأكثر اهتماماً بتطوير التجربة لتنافس من صمد الآن. هذه سنة الأسواق، صعود وهبوط وتوازن وركود. يفهم أصحاب الأعمال أن من لا يتجددون على مستوى الأفكار والممارسة، سيطردهم السوق، ليحل محلهم من يرثون حصتهم السوقية.
من الشواهد على ذلك، ظهور أعداد كبيرة من المطاعم والمقاهي في جدة، فيما يشبه فورة مفاجئة لسكان المدينة الساحلية على البحر الأحمر، متى بنيت؟ متى أصبحت جاهزة في وقت قصير؟
السر يعود إلى المستثمرين ورواد الأعمال المحليين النشيطين الذين كانوا يعملون على تجهيز متاجرهم ومقاهيهم وشركاتهم أثناء فترة السماح بالتجول القصيرة من 6:00 صباحاً إلى 3:00 عصراً؛ لأنهم يؤمنون أن الثابت في الحياة هو التغيير. وبالفعل، من افتتح عند بدء العودة الحذرة وفتح الاقتصاد قبل نحو شهرين، اكتسب قاعدة عملاء أكبر. وهذا المثال يسري على كثير من مختلف الصناعات والمجالات داخل المملكة.
تبحث الآن كثير من الشركات ضمن رؤاها الاستراتيجية توسيع الأسواق والتصدير وافتتاح فروع لعلامات تجارية محلية في الإقليم أو أبعد من ذلك.
ألم الصدمة والفرصة
لم يكن وزير المالية السعودي محمد الجدعان أكثر صراحة عندما وصف رفع ضريبة القيمة المضافة في مايو (أيار) إلى 15 في المائة بأنه ضمن «إجراءات مؤلمة». وبالفعل، كان تأثير إغلاق الاقتصاد العالمي، والمملكة في قلبه، مؤلماً للجميع. وانتقل جزء من هذا الألم إلى الناس. لم تستثن الخسارة أحداً، وقد يتحمل الشخص عواقب الأمور، لا يعتقد أن له يداً فيها مثل أزمة كورونا.
الأمر ببساطة أن إغلاق أبرز اقتصادات العالم، جعلها تستهلك نفطاً أقل، فتراجعت المبيعات. ما يحدث في شوارع طوكيو أو بكين، يؤثر في شوارع الرياض مباشرة بمعنى الإيرادات النقدية. فاقتصادات الدول مثل اقتصادات الأفراد، تتضرر وتنتعش وتستدين وترد الدين.
شملت الإجراءات المذكورة حجب بعض البدلات، لكنها كانت حجبت سابقاً وعادت عند تحسن الإيرادات في 2018. لكن ارتفاع ضريبة القيمة المضافة مع بداية يوليو (تموز) لم يكن شراً مطلقاً ولا خيراً مطلقاً، فقد شهد شهر يونيو (حزيران) السابق تهافتاً شديداً على وكالات السيارات لشراء مخزونها من السيارات قبل ارتفاع الضريبة.
ويقول المحلل الاقتصادي والمحاسبي عبد الرحمن الأحمد: «زرت إحدى وكالات السيارات الفاخرة في جدة في منتصف يونيو الماضي. ووجد أن طرازات 2020 وما تبقى من طرازات 2019 والسيارات المستعملة، نفدت بالكامل ولن تتوفر الطرازات الجديدة إلا قرابة الربع الأخير من العام. ويقول لقد تحرك قطاع وكلاء السيارات بشكل مذهل وأقبل كل المترددين على الشراء قبل ارتفاع الأسعار بإضافة القيمة المضافة».
ويضيف: «هذا نموذج على استفادة بعض القطاعات، ومنها السيارات والأغذية وتوصيل الطلبات وشركات الاتصالات، أرباحاً مهمة؛ تراجع قطاعات أخرى، سيما تلك المرتبطة بالنفط وصناعاته، وكذلك الترفيه غير الرقمي كالاحتفالات الغنائية ومدن الملاهي والسيرك».
ألم الأزمة جزء منه عالمي ومنه سعودي، بسبب اختلال دينامية الأسواق المحلية وأسلوب تفاعلها مع نظيرتها العالمية مؤقتاً مع تذبذب السلع الأساسية، وتفاوت طرق التجاوب مع الصدمة، بين المستوعب والمبادر والعاجز.
عوامل التفاؤل
النظرة الإيجابية مع سرعة الاستجابة والصبر على المخاسر وتقبلها كجزء طبيعي من الحياة، هو ما يعيد إطلاق الطاقات نحو أفكار من قبيل: «ماذا يريد السوق الآن؟ ما هو الاستثمار المناسب؟ ماهي المهارات الأكثر طلباً من العرض؟».
مع كل تغير اقتصادي في المملكة، يجري الحديث أن الوقت لم يعد ملائماً لتكون رهينة للريع النفطي، وهو أمر ليس محصوراً بالسعودية، بل يشمل جميع الدول المجاورة. لكن من قال إن القطاعات غير النفطية لم تتأثر. ولأن الوقت لا ينتظر، فإن الرهان هو على تركيز الابتكار الاستثماري المؤسسي في أصغر الأشياء وأكبرها، وتشجيع الأجيال الصاعدة من الثلثين الأكبر حجماً من سكان المملكة من شبان وشابات العشرينات والوافدين إلى الثلاثينات.
تكسرت صور نمطية، وخرجت المرأة والشاب إلى سوق العمل. وصار لدى بعض الشركات مفهوم الدوام الجزئي لطالبات وطلاب الجامعات السعوديين للجمع بين العمل والدراسة، وعدم انتظار الوظيفة الحكومية أو شبه الحكومية. تحتل الشابات الآن مواقع، كانت تشغل بالعمالة الأجنبية مثل بيع الملابس والكاشير أو تلك التي كانت حكراً على الرجال مثل القطاعات العسكرية والشرطية. الدخول النسائي في قطاع التجزئة، مؤثر ويؤسس لتجربة واعدة، وهناك نساء منذ سنين يعملن في مناصب تنفيذية عليا من وظائف الفئات المتقدمة في سلم الإدارة الحكومية والخاصة على حد سواء. طاقة المرأة تساهم في شحن الإدارة الحكومية برؤى وأفكار أكثر شمولاً في إدارة المجتمع وقطاعاته.
دعونا ننظر إلى الجانب الآخر من عجز ميزانية الربع الثاني البالغ 109 مليارات ريال (29 مليار دولار). هذا العجز جارٍ ترميمه في الربع الثالث مع تحسن أسعار النفط وفتح الاقتصاد، إلا أنه يشكل فرصة للقطاعات التمويلية والمصارف للعمل في سوق التمويل والسندات والصكوك، ويؤدي إلى انتعاشها، ورب ضارة نافعة!
مختصر تاريخ الأزمات
بدأت أول أزمة اقتصادية سعودية كبرى في ثلاثينات القرن الماضي عندما كانت موارد الدولة السعودية تعتمد على موارد الحج وقليل من الزراعة والرعي البدائي. أحجم الحجاج عن المجيء للحج مع اشتداد وطأة الكساد الأميركي الكبير وتأثيره الكارثي على الاقتصاد العالمي بأسره. لكن ظهور البترول أنعش البلاد والعباد حتى الخمسينات. دخلت المملكة عصر الملك فيصل بأزمة اقتصادية صامتة في الستينات، ورفعت الجمارك على السلع الفاخرة ومنع استيراد الكماليات. بعدها جاء عام 1973 وقطع النفط عن الغرب وحلقت أسعار النفط عالياً، ما أدى إلى نشوء ما سمي آنذاك محلياً وعالمياً بـ«الطفرة» (Oil Boom) التي استمرت حتى مطلع الثمانينات. أزمة أخرى مع انخفاض النفط في الثمانينات وغزو عراقي للكويت وتقشف في التسعينات، أعقبه نمو متواصل مطلع الألفية الثانية حتى بداية عقدها الثاني. أتبعه تقشف وانتعاش وأزمة كورونا الآن.
أليست الأوضاع الآن أفضل 100 مرة عنها وقت إغلاق الاقتصاد؟ الأرقام والمشاعر الإيجابية الأعلى صوتاً الآن، ينبغي أن تسود. وليست الإجراءات الضريبية سوى أداة يمكن تقييمها ومعرفة تأثيرها ولم يصدر تصريح عن أي مسؤول سعودي، يفيد بمنع دراسة تأثيرها أو اتخاذ قرارات أخرى أو حتى الإبقاء على الوضع الراهن حتى إشعار آخر. التاريخ والواقع والإمكانات تبشرنا بانتعاش قادم والمتفائلون النشيطون أول الرابحين.