وكانت هذه الرسالة مفصلا وتحولا في الحياة السياسية للشيخ ياسين المنحدر من أسرة ريفية فقيرة فرت -حسبما قيل- من مضايقات السلطات المحلية إلى المدينةـ
فقبلها بحوالي عشر سنوات عرف مرشد جماعة العدل والإحسان الراحل أزمة روحية سيتحدث عنها - بأسلوب قد يذكر بـ"المنقذ من الضلال"- في كتابه الإحسان:
"
كنتُ قد شارفت الأربعين عندما تداركني الرؤوف الرحيم بالمؤمنين بهَبة ويقظة، فهام الفؤاد، وغلب التفكير في المبدإ والمعَاد، فوجدتني محمولا على الطلب مدفوعا إليه. كيف السبيل إليك يا رب؟ وعَكفت على كتب القوم، فما منهم إلا من صرفني للبحث عن الرفيق قبل الطريق. بِمن أَستنجد يا رب غيرك؟ وشككت وترددت أهو شرك مع الله؟ لكنني بَعد أن استغرقْت في العبادة والذكر والمجاهدة والتلاوة زمانا تبيّنتُ أن طلب ما عند الله هو غير طلب وجه الله."
وبحثا عن أجوبة التحق "الأستاذ" - كما يفضل مريدوه مناداته- سنة 1965 بالزاوية البودشيشية القادرية مدة ست سنوات. لكن بوادر الاختلاف في التوجه والتفكير مع الزاوية الصوفية ما لبثت أن ظهرت، قبل أن تتكرس قطيعة تامة بنشر كتابيه "الإسلام بين الدعوة والدولة" (1971) و"الإسلام غداً" (1972).
كان الراحل آنذاك ومنذ ما يقرب من أربع سنوات قد غادر-بسبب المرض- وزارة التربية الوطنية المغربية حيث تقلب في عدة مناصب تدريسية وإدارية.
في أعقاب نشر "الإسلام أو الطوفان"، ظل ياسين رهن الاعتقال مدة ثلاث سنوات وستة أشهر أمضى جزءا منها في مستشفى المجانين والأمراض الصدرية. وبعد خروجه من المعتقل، انخرط في النشاط الدعوي بإلقاء دروس في المساجد فكان أن مُنع في سنة 1978، ليتفرغ للنشاط الدعوي وللتأليف. فخلال سنتي 1978 و 1979 قام بجولة التقى أثناءها عددا من العلماء وزعماء الجماعات الإسلامية من أجل توحيد عملها في إطار تنظيمي موحد، لكن النجاح لم يحالفه في هذه المساعي، كما أصدر في تلك الأثناء العدد الأول من مجلة "الجماعة".
ستكون القفزة التنظيمية سنة 1981 تاريخ إنشاء "أسرة الجماعة". وستصير هذه الأسرة "جماعة العدل والإحسان"، وتُعد أكبر جماعة إسلامية في المغرب، لكن لا مجال هنالك للتأكد من هذا الزعم، ربما لكون الجماعة غير معترف بها رسميا، وللتكتم الذي يحيطها.
سيتجدد موعد ياسين مع السجن بعد حوالي السنتين من هذا التاريخ، حينما نشر مقالا منتقدا بعنوان "قول وفعل". ثم سيغادر السجن أواخر سنة 1985، لكن بعد أربع سنوات من ذلك سيُجبر على الإقامة في بيته بسلا – توأم العاصمة الرباط - حتى أواسط سنة 2000. لكن الطبع المشاكس غلب فيما يبدو على كل ما عداه. فأثناء هذه الإقامة الإجبارية سينشر الشيخ رسالة مفتوحة ثانية بعنوان "مذكرة إلى من يهمه الأمر". بيد أن هذه المرة لن يُتابع، بل على العكس من ذلك سيُرفع عنه الحصار.
مطالب ملحّة
ولقد كانت سنة 2000 سنة حافلة بكل المعايير سواء للشيخ أو لجماعة العدل والإحسان. فأثناءها قام كذلك بجولة عبر المغرب استُقبل فيها استقبال القادة، وعُدت رسالة أخرى مفتوحة – لكن مشفرة - ونوعا من التحدي الميداني، أثار أكثر من علامة استفهام.
غير أن مد الجماعة في السنوات الأخيرة سينحسر بعض الشيء - على الصعيد الإعلامي على الأقل- بعد استعراض القوة هذا، وعلى أثر منعها من تنظيم مخيمات شاطئية صيفية أثارت بعض المخاوف. وعلى الرغم من مشاركتها في مظاهرات حركة "عشرين فبراير" - قبل أن تسحب تأييدها- فإن وجود "الجماعة" على الساحة السياسية المغربية جد محدود، إن لم يكن منعدما، لأسباب مختلفة.
[caption id="attachment_55240904" align="alignleft" width="300"] الآلاف من أتباع ومؤيدي جماعة العدل والإحسان الإسلامية المغربية يشيعون جثمان مرشدهم العام الشيخ عبد السلام ياسين [/caption]
لقد وسم ياسين بميسمه "جماعة العدل والإحسان". ولعلها من أكثر الجماعات الإسلامية انعكاسا لشخصية مؤسسها. فهي جماعة تدعو إلى التربية الروحية مدخلا إلى الإصلاح. وفي سيرة ياسين ما يقوي هذا المنحى. فلقد تلقى تعليما تقليديا، عززه حب استطلاع وانفتاح على اللغات الأجنبية، وانكباب على الشأن التربوي تدريسا وكتابة وتدبيرا مدة شارفت على العشرين سنة، ثم انتساب إلى إحدى أكبر الزوايا الصوفية وأوسعها انتشارا في المغرب.
بيد أن هذه الميزة وهذه الخاصية قد تصيران نقطة ضعف في بناء الجماعة السياسي. إذ باستثناء رفع الشعارت والتظاهر، والتظلم، لم تفلح الجماعة في عهد مؤسسها في ابتداع برنامج سياسي عصري متماسك يُلبي بطريقة خلاقة المطالب الملحة للمجتمع المغربي.
وإذا كانت الجماعة تدعو إلى إنهاء "الفتنة" و"الانحدار التاريخي" بالرجوع إلى منهاج السلف الصالح، فإنها تقرأ هذا المنهاج قراءة تبتعد كثيرا عن السياق.
يقول منار السليمي أستاذ العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس بالرباط عن غياب أي حضور رسمي في جنازة ياسين إن "هذا يبين أن الدولة قدمت إشارة سياسية بأنها ستتعامل مع الجماعة بنفس طريقة معاملتها لها في حياة عبد السلام ياسين.. هذه رسالة سياسية".
وعن مستقبل الجماعة بعد وفاة مرشدها، قال السليمي في تصريحات لوكالة رويترز "من الصعب أن الجماعة تستمر بنفس الشكل الذي كانت فيه تحت زعامة عبد السلام ياسين." وأضاف "رغم أن الجماعة قوية تنظيميا لكن من الصعب أن تستمر بنفس الشكل."
وقال إن ياسين سيتحول إلى "تراث فكري.. ومن جانب آخر الصراع الموجود في الجماعة لم يكن ليبرز في عهد ياسين وهو الصراع بين التربوي والسياسي في الجماعة.. هناك قاعدة كبيرة من الشباب في الجماعة لها نزعات سياسية ستحاول ان تضغط لتدفع بالجماعة ان تصبح سياسية أكثر منها تربوية".