كيف يتعامل السودان مع ملء سد النهضة الإثيوبي؟
القاهرة والخرطوم أمام الأمر الواقع
كيف يتعامل السودان مع ملء سد النهضة الإثيوبي؟
* وزارة الري والموارد المائية السودانية تؤكد «إغلاق بوابات سد النهضة»، مشيرة إلى تراجع منسوب مياه نهر النيل الأزرق بما يعادل 90 مليون متر مكعب
* خبراء: ما دام السودان ومصر قبلا تشييد السد، دون قيد أو شرط، فالراجح قبولهما بملء السد دون قيد أو شرط... لأن السد يشيد ليملأ
* تعمل القاهرة على إعادة التوازنات في منطقة القرن الأفريقي ومحاولة توظيف محيطها الجغرافي، ولعل ذلك يرتيط بزيارة الرئيس الإريتري للقاهرة مطلع الشهر الحالي
الخرطوم: وضعت إثيوبيا، السودان ومصر أمام الأمر الواقع، بعد أن أظهرت صور بالأقمار الصناعية بدء عملية ملء سد النهضة على نهر النيل الأزرق، مما أثار ردود فعل متباينة من قبل السودان ومصر على الخطوة الإثيوبية التي جاءت بعد يومين فقط من تعثر الجولة الأخيرة من المفاوضات بين الدول الثلاث، برعاية الاتحاد الأفريقي، بهدف الوصول إلى اتفاق مرضٍ حول ملء وتشغيل السد.
وشكَل سد النهضة مصدرا للتوتر مع الخرطوم وبصورة أشد مع القاهرة، منذ أن بدأت إثيوبيا عمليات الإنشاء عام 2011، واعتبرت الخطوة الإثيوبية مثيرة للقلق بشأن إمدادات مياه نهر النيل الأزرق إلى السودان ومصر.
ونقل التلفزيون الرسمي الإثيوبي عن وزير المياه والري والطاقة الإثيوبي سيليشي بكيلي بدء ملء سد النهضة، بيد أن المسؤولين الإثيوبيين صرحوا بمعلومات غير واضحة بشأن حقيقة ملء السد، وقال بكيلي إن تصريحاته التي أدلى بها في وقت سابق للتلفزيون الوطني الإثيوبي كانت تشير إلى «صحة صور الأقمار الصناعية للسد»، نافيا في الوقت ذاته أن تكون أديس أبابا «بدأت فعليا عمليات الملء».
ونقلت وكالة «أسوشيتد برس» عن بكيلي قوله إن «الصور تعكس الأمطار الغزيرة وتدفقها الكبير، حيث كان معدل تدفق الأمطار إلى البحيرة أعلى من معدل خروج المياه منها»، حسب ما نقلته وكالة «أسوشيتد برس».
كما أكد بكيلي صحة صور الأقمار الصناعية التي نشرت حديثا للسد وتظهر امتلاءه بالمياه، لكن من دون تحديد مصدرها، وأضاف قائلا: «ما وصلت إليه أعمال البناء في السد تمكنه من بدء الملء».
وحسب الخطة الفنية لعمليات الملء، فإن هذه المرحلة الأولى تسمح بتخزين 4.9 مليار متر مكعب من أصل 74 مليار متر مكعب هي السعة الإجمالية للبحيرة خلف السد.
وفي أول رد فعل رسمي للسودان، أعلنت وزارة الري والموارد المائية السودانية في بيان تلقت «المجلة» نسخة منه، أن المعلومات المتوفرة تؤكد «إغلاق بوابات سد النهضة»، مشيرة إلى تراجع منسوب مياه نهر النيل الأزرق بما يعادل 90 مليون متر مكعب.
وأوضحت أنه بعدما تناقلت وسائل الإعلام المحلية والعالمية معلومات وصورا ملتقطة بالأقمار الصناعية تشير إلى بدء إثيوبيا في ملء سد النهضة بالمياه قبل التوصل لاتفاق حول الملء الأول والتشغيل، طلبت وزارة الري والموارد المائية من أجهزتها المختصة قياس مناسيب النيل الأزرق بالتحري عن صحة هذه المعلومات.
وذكر البيان: «اتضح جليا بواسطة مقاييس تدفق المياه في محطة الديم الحدودية مع إثيوبيا أن هناك تراجعا في مستويات المياه بما يعادل 90 مليون متر مكعب يوميا، مما يؤكد إغلاق بوابات سد النهضة».
وجدد البيان رفض السودان لأي إجراءات أحادية الجانب يتخذها أي طرف، خصوصا مع استمرار جهود الاتحاد الأفريقي ورئيس جنوب أفريقيا، سيريل رامافوزا، للتوصل إلى توافق ما بين الدول الثلاث في النقاط الخلافية العالقة والتي يمكن الاتفاق حولها إذا توفرت الإرادة السياسية.
وأكد أن الحكومة السودانية ووزارة الري والموارد المائية ستتابع هذه التطورات بما يؤمن المصالح القومية السودانية.
وفي رؤيته لهذه التطورات، يرى استشاري تكنولوجيا البيئة وإدارة الموارد البرفسور تاج السر بشير درار، أن الخطوة كانت متوقعة من خلال التصريحات والمعلومات التي كانت متوفرة في وسائل الإعلام والمواقف حول طاولة مفاوضات الدول الثلاث.
لكن درار يؤكد في حديث مع «المجلة» أنه لا مفر من العودة إلى طاولة المحادثات لحل القضية قبل استفحالها أكثر من ذلك، مشيرا إلى أن الوضع ليس بالخطورة التي تعبر عنها أحيانا مصر بشكل واضح، وأن الحل في بناء شراكات ذكية بين الدول الثلاث وخصوصا مصر والسودان لتجاوز الأخطاء الفادحة التي ارتكبت في الماضي بشأن إدارة الموارد المائية.
ورأى أن مصر فقدت الكثير في موضوع سد النهضة نتيجة تخبط سياساتها الأفريقية بشهادة خبرائها، وأن مصر والسودان لا يملكان أوراق ضغط على إثيوبيا في ظل الاهتمام والنظرة الإيجابية للتطور الاقتصادي الإثيوبي ومساندته دوليا.
كما شدد درار الذي شغل في السابق منصب المنسق لكرسي اليونيسكو للمياه في السودان، على أن الخطوة الإثيوبية لم تراع الجانب الأخلاقي للتعامل مع المياه في المعاهدات الدولية التي تنص على أن لا تقوم أي دولة بخطوة أحادية دون موافقة ومشاركة دول المصب حتى لا تتضرر أي دولة.
أما الخبير السوداني في القانون الدولي الدكتور أحمد المفتي فقد رأى أن إثيوبيا فرضت واقعا جديدا بملء السد وأن الحل المعقول الوحيد، هو سحب التوقيع على إعلان المبادئ الموقع بين الدول الثلاث عام 2015م، واللجوء إلى مجلس الأمن بطلب بموجب الفصل السابع، ليس للتدخل العسكري، وليس لفرض عقوبات علي إثيوبيا، ولكن فقط للطلب بأن لا تبدأ الملء الكامل إلا بعد الوصول إلى اتفاق شامل وملزم، وفي ذات الوقت طرح رؤية لتكملة المفاوضات بتصور جديد، خلال ثلاثة أشهر.
وحسب المفتي فإن الطلب لمجلس الأمن، لن يحول دون الاستمرار في البحث عن حلول ودية، حتى من قبل مجلس الأمن نفسه، بثقله الدولي المعروف، وذلك قبل أن يبت في الأمر، بموجب الفصل السابع.
واعتبر أن سحب التوقيع على إعلان المبادئ، ومخاطبة مجلس الأمن بموجب الفصل السابع من شأنه كسب الرأي العام العالمي، بإخطاره بأن الحلول السلمية، التي ينص عليها الفصل السادس، قد تم استنفاذها بالكامل، حيث استمر التفاوض الودي حوالي 8 سنوات، وتمت الاستعانة بجهات دولية معتبرة، وهي الولايات المتحدة الأميركية، والبنك الدولي، والاتحاد الأفريقي، والاتحاد الأوربي.
وقال إن من شأن خطوات كهذه أن تعطي إثيوبيا، رسالة واضحة، لا لبس فيها ولا غموض، بأن البدء في ملء السد، من دون الوصول إلى اتفاق شامل وملزم، غير مقبول، وذلك لأنه حتى هذه اللحظة لم توجه تلك الرسالة إلى إثيوبيا.
ولم يستبعد المفتي أن يكون استنتاج إثيوبيا طيلة الفترة السابقة، هو أنه ما دام السودان ومصر، قد قبلا تشييد السد، من دون قيد أو شرط، فإن الراجح هو قبولهما كذلك بملء السد دون أي قيد أو شرط، لأن السد يشيد ليملأ، وليس للتغزل فيه، حسب التعبير الذي جاء في منشورات الخبير القانوني السوداني الذي ينشط في هذا الملف منذ الإعلان عن تشييد سد النهضة.
بيد أن الباحث السوداني في الشؤون الأفريقية عباس محمد صالح يرى أن الجانب الإثيوبي ينظر إلى خطوة البدء في ملء سد النهضة بأنها خطوة لتوحيد الإثيوبيين من مختلف الاتجاهات، رغم خلافاتهم الخطيرة فيما بينهم. كما أن سد النهضة نفسه يعتبر مكونا مهما للترويج لفلسفة المشروع السياسي الجديد («مدّمر»، وتعني التآزر أو معا باللغة الأمهرية)، الذي يسعى رئيس الوزراء آبي أحمد لتنفيذه في البلاد التي تعصف بها حاليا التوترات العرقية الخطيرة، حيث إنه يقوم على تعظيم المشتركات بين المكونات المختلفة.
لكن صالح يقول لـ«المجلة» إن للخطوة تداعيات إقليمية تزيد من احتمالات التوترات الإقليمية وربما نزاعات المياه ولكن ليس خيار الحرب المباشرة، وذلك بالنظر إلى تجاهل إثيوبيا الأطراف الأخرى، وتحديدا مصر والسودان، إلى جانب «الاتحاد الأفريقي»، الذي يجد نفسه في حرج دبلوماسي كبير، إذ راهنت عليه الدوائر المعنية بنزع فتيل هذا التوتر الإقليمي، وبهذه الخطوة ستضعف مواقف الدول الأخرى في أي مرحلة من التفاوض حول السد، خاصة مصر.
بالنسبة لمصر، فقد أعلنت وزارة الخارجية أنها طلبت إيضاحاً رسمياً عاجلاً من الحكومة الإثيوبية بشأن مدى صحة ما تردد إعلامياً عن بدء إثيوبيا ملء خزان سد النهضة.
ونقلت وسائل إعلام مصرية عن المستشار أحمد حافظ، المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية، أن مصر تواصل متابعة تطورات ما تتم إثارته في الإعلام حول هذا الموضوع.
وحسب المحلل السياسي المصري، أحمد جمال، فإن الخيارات تضيق أمام القاهرة بعد أن بدا واضحا أن خيار المفاوضات ليس مجديا، غير أنها تتمهل في إيضاح خطواتها المستقبلية من دون أن تنفي أيا من الاحتمالات سواء كانت دبلوماسية أم عسكرية.
وأوضح جمال لـ«المجلة» أن الوضع الراهن يشي بأن القاهرة سوف تعاود التركيز على ورقة مجلس الأمن الذي بدوره قد يشكل لجنة خبراء لقياس مدى أضرار السد على كل من مصر والسودان غير أن القاهرة تتخوف من أن تؤدي هذه الخطوة إلى لا شيء، تحديدا وأن الصين مثلا ترى أن القضية أفريقية تقنية بالأساس ولا تشكل تهديدا على الأمن الإقليمي، بجانب أن هذه الورقة تعني العودة إلى نقطة البداية وإضاعة مزيد من الوقت وهو أمر يصب في مصلحة إثيوبيا.
ويشير في هذا الخصوص إلى أن القاهرة تعمل بالتوازي مع ذلك على إعادة التوازنات في منطقة القرن الأفريقي ومحاولة توظيف محيطها الجغرافي الذي يشهد حالة من عدم الاستقرار مع إريتريا تحديدا، ولعل ذلك يبرهن على زيارة الرئيس آسياس أفورقي إلى القاهرة مطلع الشهر الجاري.