هذه الفترة الوجيزة يمكن اعتبارها الأسرع والأكثر سخونة وتأثيرا منذ عقود، وقد يكون مقدار أهميتها قدر الفعل السياسي طيلة 50 سنة منذ
استقلال البلاد سنة 1956
وتحكّم "الدساترة" (نسبة للحزب الاشتراكي الدستوري تحت رئاسة الحبيب بورقيبة أول رئيس بعد الاستقلال والتجمع الدستوري الديمقراطي المنحل تحت رئاسة بن علي) في زمام الأمور طيلة تلك الفترة، فجوهر الصراع الدائر اليوم لم يعد بين تأبيد للدكتاتورية ومحاولات تكريس انفتاح، وليس التعددية أو حق الوجود للقوى السياسية، وإنما هو صدام "المشاريع المجتمعية" الذي تبشر به النخب الصاعدة اليوم وتتنافس من أجل تطبيقه.
الطريق خلال هذه الفترة الوجيزة من تاريخ تونس، شهدت إشكالات كبيرة، تعثرات وصعوبات جمة، تناقضا ووفاقا، عنفا وتهديدات، تأزما اقتصاديا واحتقانا اجتماعيا شديدا، وتدخلا للقوى الأجنبية (عربية وغربية) وغموضا أيضا في المحركين الرئيسين للعملية السياسية، وأحداثا مهمة ستكون فاصلة في تاريخ البلاد.. ولكن الأهم هو رفض مختلف المكونات لعودة نظام ما قبل 14 يناير (كانون الثاني).
خلال تلك التحركات الشعبية المطالبة بسقوط نظام بن علي، وبعد فراره برزت التشكيلات اليسارية الثورية والقوى النقابية المؤثرة، والتحمت وأطرت هذا الحراك الجماهيري، كما انطلق عمل الإسلاميين وخاصة أبناء حركة النهضة الإسلامية المحظورة قبل 14 يناير، الحزب الأكثر شعبية، لتبرز هي الأخرى في المشهد الثوري الجماهيري، وخلال اعتصامات القصبة 1 والقصبة 2 (التسمية نسبة لمقر الحكومة الكائن بقصر القصبة بتونس العاصمة) حيث تمكنت الجماهير والقوى التي أكدت تمسكها بأهداف الثورة، من فرض خيار انجاز انتخابات مجلس وطني تأسيسي، وذلك لتفكيك المؤسسات التي قام عليها نظام الحكم البائد، والتي أصبحت "مهترئة" وموجودة لحماية "الدكتاتورية" وتبريرها.
الحراك الجماهيري الثوري كان قويا، إلى درجة أن البلاد لم تهدأ أبدا خلال هذه الفترة، وبعد مرور عامين، ولكنها لم تحمل رموزا ولا بدائل سياسية واجتماعية، فكان الفاعلون الثوريون قادرين على تأطيرها وفق أجنداتهم، وكانت الجماهير مستعدة في كل وقت لتهشيم وإزاحة أي مؤسسة أو رمز يشك في انتمائه للنظام البائد، أو الاستماع لبديل قادر على تأطيرها ومخاطبتها.
مرحلة انتخابية
بعد الحسم في مسألة إقامة انتخابات تأسيسية، وكان ذلك إثر عناء وتجاذب سياسي عسير، وانطلاق العملية الانتخابية بحصر الناخبين ودعوتهم للانتخاب أعضاء المجلس الوطني التأسيسي، لاحت الصراعات بين مكونات المشهد السياسي، وبدأت تتشكل تحالفات سياسية صغيرة ارتبطت باللحظة السياسية انذاك.
[blockquote]
نتمسك بالديمقراطية كإطار للعملية السياسية ولإدارة وحل الخلافات بين الأطراف الاجتماعية والسياسية وكآلية للتداول السلمي على السلطة، فليس في الإسلام عند التأمل في تعاليمه ومقاصده وتجربة تطبيقه ما يمنع الترتيبات التي جاء بها النظام الديمقراطي
نورالدين البحيري - وزير العدل عن حركة النهضة
[/blockquote]
في الأثناء بدأ يبرز أيضا صراع، بين مشاريع مجتمعية مختلفة، فظهرت تحركات تنادي بالهوية، وأخرى تؤكد على علمانية الدولة، وقد كانت حادثة المواجهة المسلحة بين عناصر الجيش التونسي، وقوات الأمن بعناصر من تنظيم القاعدة ببلاد المغرب بمعتمدية الروحية من ولاية سليانة، إضافة إلى دعوة بعض التيارات إلى إقامة الخلافة الإسلامية، فعرض فيلم "لا الله لا سيدي" لمخرجته العلمانية المتطرفة نادية الفاني، الأثر الكبير على بروز وتصدر الموضوع أولى اهتمامات الساحة السياسية، فقسمت الساحة السياسية بين علمانيين وإسلاميين.
وبعد أن تكرس العفو التشريعي العام، خرج مئات من الشباب السلفي من السجون، حيث كانوا يقبعون أيام حكم بن علي، وبدأت تحركاتهم تظهر للعلن وبدأ تأثيرهم يتضح، رافضين إطلاقا، مقولة علمانية الدولة وفصل الدين عن السياسة، ودعمت فيما بعد أغلب مكونات هذا التيار حركة النهضة في الانتخابات، عن طريق تصريحات رموزه أو بالدعوات في المساجد التي احتلوا في ظرف وجيز أكثر من 400 منها حسب إحصائيات وزارة الشؤون الدينية التونسية، في المقابل رفض أغلب مكونات المشهد العلماني ليبراليين ويساريين استعمال المساجد في الانتخابات، وبرز خطابهم المعادي لأي تداخل بين الدين والسياسة.
هذه القضية كانت الأبرز في تلك المرحلة، ولكن الأحزاب بمختلف مشاربها، ركزت أيضا نشاطها في خوض معارك سياسية عرضية، أو بحثت عن المكاسب الانتخابية مع اقتراب موعد الانتخابات، إلى أن أصبحت المحطة الانتخابية الشغل الشاغل لهذه الأحزاب، حيث بانت بعض السلوكات التي يمكن اعتبارها سلبية ومن ذلك تبادل الاتهامات، التشويه، العنف في بعض الأحيان، وهي وقائع شهدتها العلاقة بين الأحزاب فيما بينها، كما استمع التونسيون عبر الإذاعات وشاهدوا عبر الشاشات وقرأوا عبر الصحف، خوفا من الآخر وتجريما له، وعدم ثقة في الشراكة. ولم يتوان عدد من الأحزاب في محاولة توظيف "براغماتي" لبعض الأحداث الخطيرة "العروشية"، وأخرى تمس المسألة "العقائدية" لكسب المناصرين، وواصلت أخرى الاشتغال وفق أجندات أيديولوجية عبر خطاب معقد أثبت اخفاقه في نتائج صناديق الاقتراع.
سلطة ومعارضة
بعد الانتخابات مباشرة، كانت صدمة العلمانيين بمختلف توجهاتهم ـ يساريين وليبراليين ـ كبيرة بعد أن تمكنت حركة النهضة بقيادة راشد الغنوشي من الفوز بثلث مقاعد المجلس الوطني التأسيسي، ونجاحها في ظرف وجيز في تكوين تحالف مع حزبين من يسار الوسط، هما المؤتمر من أجل الجمهورية الذي يقوده الرئيس التونسي الحالي منصف المرزوقي، والتكتل من أجل العمل والحريات الذي يقوده رئيس المجلس الوطني التأسيسي مصطفى بن جعفر، وتمخضت عنه حكومة ائتلافية هي "الترويكا" بقيادة حمادي الجبالي الأمين العام لحركة النهضة، ولم تكن المفاوضات حول تشكيل ائتلاف حاكم عسيرة، حيث إن عددا من القوى رفضت الانخراط في الحكومة، وأعلنت معارضتها لها، لضمها حركة النهضة.
حركة النهضة وبقية الأحزاب المكونة للترويكا، رفضت من جانبها الحديث عن الوفاق بعد بداية اشتغال الحكومة، معتبرة أنها تكون حكومة "شرعية" جاءت بها صناديق الاقتراع بعد انتخابات حرة ونزيهة، رغم أن هذه الانتخابات التأسيسية كان الهدف منها بالأساس وضع دستور جديد للبلاد والتحضير لانتخابات تشريعية ورئاسية وفق طبيعة نظام الحكم الذي سيتم اعتماده.
وعلى الرغم من أن حركة النهضة لم تحض بأكثر من 40 في المائة من مقاعد المجلس الوطني التأسيسي المتنوع المشارب، فإنها استحوذت على المنصب الأهم في الدولة وهو رئاسة الحكومة إضافة إلى بقية حقائب الوزارات السيادية، وتمكنت الحكومة من انتزاع صلاحيات كبيرة جعلتها تمثل السلطة التنفيذية الحقيقية بعد أن كانت هذه السلطة بيد رئيس الجمهورية، أيام حكم بورقيبة وبن علي وفق نظام رئاسوي، وانطلقت مباشرة في استبدال الإطارات الإدارية والسياسية على مستوى المركز والجهات أيضا بآخرين قريبين من الحركة، وهو ما أثار بقية مكونات المشهد السياسي المعارضة التي انطلقت هي الأخرى في معارضة حكومة النهضة بشراسة، خيفة استحواذ النهضة على مفاصل الدولة، والبلاد تعيش مرحلة انتقالية.
[blockquote]
الشريعة الإسلامية ليست بشيء منبت عن المجتمع الإسلامي ولا وجود لمبرر للتخوف منها فهي شريعة سمحاء تنظم حياة الأمة، ويجب ألا تفهم على كونها قانون العقوبات، وحسب اعتقادي، فإن إدراج الشريعة هو حماية وضمان للمسلمين وللمجتمع التونسي
محمد خوجة - رئيس حزب جبهة الإصلاح السلفي
[/blockquote]
وعلى الرغم من الخلافات التي شابت عمل الترويكا، غير أن حركة النهضة أثبتت مرونة ونجاحا في المحافظة على التحالف الحكومي الذي جمعها مع حزبين من وسط اليسار، كما تمكنت النهضة من الاقتراب وكسب ثقة عدد من الفئات الاجتماعية وأغلب التيارات الدينية بالبلاد، وفي الأثناء تم الترخيص لحزبين سلفيين، ولم تتعامل بعنف مع تحركات السلفيين التي أصبحت جماهيرية واستقطبت كثيرا من الشباب، منادية بتطبيق الشريعة ورفض مدنية الدولة.
المعارضة العلمانية من جهتها، تكونت من دستوريين كانوا قريبين من نظام حكم بن علي ونخب سياسية علمانية عارضت هذا النظام، إضافة إلى القوى اليسارية التقليدية الثورية، ومع استشعار "خطر تغول المد الإسلامي"، اقتربت المعارضة شيئا فشيئا فيما بينها، وأصبح رموزها ينادون بتحالفات وعمل مشترك للوقوف أمام خطر "أسلمة" الدولة المدنية، والمس من أركان الجمهورية.
أي دستور؟
المهمة الأبرز التي قامت من أجلها انتخابات المجلس الوطني التأسيسي هي كتابة الدستور، فبدا واضحا واثر انطلاق عمل المجلس، أن عملية صياغة الدستور كانت المحطة الأبرز في الصراع الشديد بين القوى السياسية المنقسمة في تونس، فالدستور الجديد الذي تتم صياغته سيكون محددا لطبيعة النظام المعتمد في البلاد في المرحلة المقبلة، فما بين نظام برلماني أو نظام رئاسي معدل، يدور الصراع بين حركة النهضة وبقية مكونات المشهد السياسي.
ولكن الخلاف الأهم كان عند انطلاق تحديد الفصل الأول من الدستور التونسي، الذي ينص على "هوية" الدولة، فعبرت القوى السلفية والإسلامية الصاعدة بوضوح عن تمسكها بهوية إسلامية للدولة، وبأن تكون الشريعة المصدر الوحيد للتشريع، في حين تحركت عدد من القوى العلمانية الراديكالية، وطالبت بمبدأ الفصل التام والكامل بين الدين والدولة والسياسة، ولكن وبعد احتداد الصراع، وإقامة التحركات والمسيرات الشعبية والجماهيرية بتأطير كلا القطبين، تمكنت مكونات المشهد السياسي بما في ذلك حركة النهضة من الاتفاق على الابقاء على الفصل الأول للدستور القديم، الذي يؤكد على جمهورية الدولة وعلى هويتها الإسلامية والذي ينص على أن "تونس دولة حرة مستقلة ذات سيادة، الإسلام دينها، العربية لغتها، والجمهورية نظامها".
ووعلى الرغم من الاتفاق على إبقاء الفصل الأول من الدستور التونسي كما كان عليه في الدستور السابق، غير أن محطات كثيرة حول قوانين تجرم المس من المعتقدات وحول الهيئات الدينية وضمان حياد المؤسسات الدينية من مساجد وهيئة إفتاء، وأيضا قضية المساواة بين المرأة والرجل كرس تناقضات واضحة فى الرؤى بين الإسلاميين والعلمانيين، وتم من أجل فرض الأجندات، تجييش الشارع التونسي وخلق حالة استقطاب شديدة شقته لاستخدامه كورقة ضغط قوية على المجلس التأسيسي عند صياغته لهذه المبادئ الدستورية وفق ما يطرحه كل من القطبين، وما يريد فرضه كل جانب بخصوص "هوية" النظام السياسي الجديد الذي يعيش طور التكوين.
ووفق ما وصل اليه الحال في البلاد من حالة انقسام حاد، خاصة بعد أن أسس الباجي قائد السبسي، حزبا ضم آلافا من أنصار مدنية الدولة، وتمكن من التموقع في طليعة القوى المعارضة في ظرف وجيز، فإن البلاد تعيش حالة استقطاب ثنائي في هذه المرحلة الانتقالية التي تفرض توافقا بين مختلف القوى السياسية المكونة للمشهد، قصد تحضير دستور جديد توافقي ووضع اللبنات الدستورية للنظام الجديد الذي ستحكم عبره البلاد في المرحلة المقبلة، ولكن يبقى الخطاب السياسي لمختلف القوى المتناقضة التي تنشد جميعا تحولا ديمقراطيا في البلاد، وضمانا لتعايش المختلفين هو المجمع المعلن الوحيد، إضافة إلى تواصل نفس الخيارات الاقتصادية والاجتماعية التي لم تتغير الى اليوم في تونس.
قوتان متصارعتان
المد الثوري للجماهير لم يكتف بفرض انتخابات مجلس وطني تأسيسي، فقد أرادت القوى الحية التونسية أن تحقق أهداف الثورة كما حددتها الجماهير باقتلاع النظام الحاكم، والـتأسيس لآخر، فجاء دور النخب السياسية الطلائعية للاهتمام بذلك.
ولكن سرعان ما تحول هذا الدور إلى صراع بين القوى السياسية الصاعدة للوصول إلى الحكم بداية، ثم ليصبح بعد ذلك حول مشاريع مجتمعية متناقضة، خاصة أن المرحلة فرضت التأسيس لنظام حكم للمرحلة المقبلة، وصياغة دستور جديد هو المحدد لهوية البلاد ومشروعها المجتمعي.
وبرزت قوتان رئيستان هما الحركات والتيارات الإسلامية التي تمكنت من بلوغ الحكم وتحقيق فوز نسبي في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، وتحول حزب حركة النهضة الذي كان محظورا في زمن بن علي إلى حزب حكم بعد الثورة.
[blockquote]
نحن نرفض الغزو الثقافي والفكري، وخاصة القوالب الجاهزة التي يريد فرضها العلمانيون واليسار الحاقد، فتونس ليست مدرسة لتشي غيفارا ولا لأيمن الظواهري.. الأصل هو الإسلام والخصوصية التونسية تتمثل في المدرسة الزيتونية التي تمازج بين الأصل والعصر
عادل العلمي - رئيس الجمعية الوسطية للتنمية والإصلاح
[/blockquote]
والثانية هي القوى العلمانية، من دساترة ويسار وتموقعت بالمعارضة للتفادي ما يعتبرونه "محاولات التفاف على أهداف الثورة من قبل الحكام الجدد" وتصديا لمحاولات "أسلمة المجتمع" كما يذهب إلى ذلك محمد الكيلاني الأمين العام للحزب الاشتراكي وأغلب رموز هذه القوى.
هذا الصراع تأجج وتطور وأصبح يهدد البلاد بالانقسام، إلى درجة أن أبا يعرب المرزوقي الفيلسوف المقرب من حركة النهضة والوزير المستشار المكلف بالثقافة والتربية لدى حمادي الجبالي رئيس حكومة الترويكا التي تتزعمها النهضة، ذهب الى أن البلاد «تعيش صراعا بين ثقافتين» بل «نموذجين متصارعين يشقان الواقع».
وخلافا لذلك، فإن الائتلاف الحكومي الذي يحكم اليوم بعد انتخابات المجلس الوطني التأسيسي متكون من حركة النهضة ذات التوجه الإسلامي، وكل من حزب المؤتمر من أجل الجمهورية ذي التوجه العلماني، والذي حظي برئاسة الجمهورية بتقلد المنصف المرزوقي زعيم الحزب هذا المنصب، وأيضا حزب التكتل من أجل العمل والحريات والذي فاز بمنصب رئيس المجلس الوطني التأسيسي.
ويذهب المتابعون الى أن ائتلاف الأحزاب المشاركة في الحكم أو حكومات الرئاسات الثلاث، ينحصر تقاربها في توزيع المناصب الحكومية لا غير، وأن حركة النهضة تمكنت من السيطرة على السلطة التنفيذية وعلى وزارات السيادة ومن إضفاء طابع إسلامي على السلطة الجديدة.
وأمام هذه التعقيدات التي يشهدها المشهد السياسي بالبلاد، يبقى الصراع الدائر بين القوتين الرئيستين المؤثثتين لهذا المشهد (الإسلاميين والعلمانيين)، لتغليب أجندة طرف منهما في ما يخص الدستور الجديد المرتقب للبلاد، وفرض نمط مجتمعي بعينه، المحرك الرئيسي للعملية السياسية بالبلاد في هذه المرحلة. فأي مشروع مجتمعي لتونس بعد بن علي؟ وما هي أبرز التحديات التي تواجه البلاد في هذه المرحلة؟
ولكن يجب الإشارة إلى أن المقصود بـ"المشروع المجتمعي"، هو مشروع كلي الذي يروم إعطاء تصور جديد للمجتمع وللفرد والحرية، ناهيك عن إعطاء تصور للنظام الاقتصادي للمجتمع، وبنيته السياسية، وعلاقاته الاجتماعية وقيمه الأخلاقية وتصوراته الميتافيزيقية. فإعداد مشروع مجتمعي يتطلب توفرا متكاملا لمثل هذه المجالات في تفاصيلها لا في صورتها التخطيطية العامة، خاصة مع بروز قوى سياسية جديدة، وتمكن الإسلاميين من البلوغ إلى سدة الحكم.
الإسلاميون.. قلوبهم شتى
الإسلاميون مثلوا نخبا صاعدة في المشهد السياسي الجديد، حيث تمكنت حركة النهضة الإسلامية من الفوز في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي بنسبة 40 في المائة من عدد المقاعد، باستعمال خطاب سياسي مجدد حيث تعتبر النهضة نفسها ملتزمة بمبادئ الإسلام في عملية إحداث التغيير الاجتماعي الشامل، تعتمد في إطار تعاملها مع نصوص الوحي من الأصول والقواعد ما يلبي احتياجات الحياة المتجددة، تحقيقا لمصلحة الإنسان من دون إهدار أو تعطيل لنصوص الكتاب والسنة، ومن دون إلغاء لدور العقل في فهمها وتنزيلها في واقع الحياة".
ومع خيارها ذلك فإنها تسعى إلى التأكيد على احترامها لمدنية الدولة، وهوما مكنها من إقناع فئات اجتماعية كبيرة، وتمكنت من أن تصبح الحزب الأكبر في البلاد في ظرف وجيز بعد عودتها للعمل العلني المقنن إثر سنوات من المنع وملاحقة مناضليها.
من ناحية أخرى، ولطابعها "الإسلامي، فإنها حظيت بثقة التيار السلفي، الذي يشهد تطورا في عدد المنتسبين له وقدرة على استقطاب الشباب، حيث أكد الدكتور التاريخ ناجي جلول أن السلفيين "يقارب عددهم الآن في تونس العشرة آلاف، ويبلغ عدد أنصارهم الثمانين ألفا"، وينقسم هؤلاء بين سلفيين علميين وسلفيين جهاديين، ولكن كلا الفريقين، كان مساندا لحركة النهضة في الانتخابات الأخيرة، ويعادي منتسبو هذا التيار صراحة "النخب المغتربة العلمانية" وكذلك "الديمقراطية" علنا وسرا.
[blockquote]
الحديث عن استهداف لمقومات المجتمع المدني الحداثي في تونس ليس فيه مبالغة ولا شحن للعاطفة ولا تحريض.. إنه حقيقة واضحة أمام الجميع تستدعي المزيد من اليقظة و الأخطر من كل ذلك هو أن هذا الاستهداف تجاوز حقوق المرأة ليمسّ أيضا الحريات العامة والفردية
خميس كسيلة - عضو الهيئة الموسعة لحزب نداء تونس
[/blockquote]
وعلى الرغم من أن العلاقة لم تشهد انسجاما متواصلا بين حركة النهضة كحزب حاكم والتيار السلفي، وخاصة منه الجهادي، وذلك لميله للعنف في بعض الأحيان، فإن النهضة مكنت حزبين سلفيين من تأشيرة العمل القانوني. ويعتبر المتابعون لهذا التيار بمختلف تفريعاته، ذراعا تلجأ له النهضة في معاركها الأيديولوجية، وخاصة في تجييش الشارع ضد المشاريع المختلفة معها، فكلا الفريقين يتفق على أن مسألة الهوية الإسلامية هي البديل، وأن التهديد يكمن في قوى "التغريب" و"العلمانية"، ليبرالية كانت أو يسارية، وهو نفس الشأن بالنسبة لحزب التحرير الإسلامي، حتى إنه صاغ مشروع دستور للبلاد سمي بـ"مشروع دستور دولة الخلافة"، ويعمل على مآزرة الحكومة، بعد أن تمكن من الحصول على تأشيرة العمل القانوني.
الحق في الاختلاف
في مداخلته على هامش عقد مؤتمر حزب العمل التونسي، أكد نور الدين البحيري عضو المكتب السياسي لحركة النهضة ووزير العدل الحالي في حكومة حمادي الجبالي أن هذه الثورة ليست ثورة حزب أو مجموعة ولا جهة، وهناك من يريد الانقلاب عليها وإعادة منظومة الاستبداد التي كانت تحكم البلاد لأكثر من خمسة عقود.
وأضاف "نحن نعيش مرحلة الانتقال الديمقراطي، ومشروعنا يقوم على أساس المواطنة، ويحترم التعدد والتنوع والحق في الاختلاف.
وأوضح البحيري أنه لا مجال في هذه البلاد لهيمنة حزب ولا الرأي الواحد والزعيم الواحد، قائلا "نحن نعمل على صياغة دستور توافقي، فالمطلوب ليس دستورا فئويا، ونحن نعمل على توفير خارطة طريق لتفادي المشاحنات والنزاعات الأيديولوجية، وذلك لتحقيق انتقال ديمقراطي في إطار توافقي وتشاركي ودون هيمنة أحد على أحد".
وجاء بلوائح حركة النهضة في مؤتمرها الأخير المنعقد منذ بضعة أشهر أنها "نتمسك بالديمقراطية كإطار للعملية السياسية ولإدارة وحل الخلافات بين الأطراف الاجتماعية والسياسية وكآلية للتداول السلمي على السلطة، فليس في الإسلام عند التأمل في تعاليمه ومقاصده وتجربة تطبيقه ما يمنع الترتيبات التي جاء بها النظام الديمقراطي"، وبأن "لا ديمقراطية بدون احترام التعددية الفكرية والسياسية والتداول على السلطة واستقلال القضاء وحرية التعبير والتنظيم واحترام سيادة الشعب، وحقه في اختيار من يمثله ويحكمه عن طريق الانتخاب الحر النزيه.
كما تسعى الحركة إلى تكريس احترام حقوق الإنسان الفردية والجماعية وضمان حرياته الأساسية، واعتبار ما ورد في المعاهدات والمواثيق الدولية كسبا بشريا وتطورا مهما قاد إلى الاعتراف بهوية إنسانية مشتركة بين كل الناس، مستعلية على كل ضروب التمايز والاختلاف في اللون أو العقيدة أو الجنس أو الوضع الاجتماعي.
إقامة شرع الله
يعتبر محمد خوجة رئيس حزب جبهة الإصلاح وهو أول حزب سلفي تونسي أن النمط الاجتماعي لا يمكن أن يتغير في سنة أو سنتين ولا في عشر سنوات، وأيضا التغيير في وضعية وعقيدة المسلم ونظرته للإسلام، خاصة بعد عقود من سياسة تجفيف الينابيع التي شهدهما عهدي بورقيبة وبن علي، ولذلك يسعى حزبه إلى الجلوس مع كل شرائح المجتمع ويحاول اقناعهم بأن المشروع الإسلامي ليس بجديد، ومقتنعون بأنه هناك مراحل يجب أن نتدرج فيها.
صعود الإسلاميين في هذه المرحلة، أمر طبيعي لتتصالح الأمة مع هويتها، فوجود أحزاب إسلامية ذات مرجعية تأصيلية هو أمر طبيعي، لأن المجتمعات لابد أن تتصالح مع هويتها ومرجعيتها الحقيقية ألا وهي انتماؤها الإسلامي ويمكن الإشارة الى أن الأحزاب الإسلامية أرادت أن تنشط في وقت سابق، لكن تعرضها للقمع حال دون وصولها.
ويضيف "نحن نسعى إلى إقامة شرع الله، وهذه وجهة نظرنا فنحن لا نفرق بين الدين والدولة، لا نفرق بين الحياة الاجتماعية والسياسية، فكل شخص يقوم بعمل هو عبادة بالنسبة إلينا، فالسياسة هي في نهاية الأمر عمل وحزبنا هو منفتح على جميع شرائح المجتمع التي تؤمن بمبادئنا ومقتنعة بعملنا، وهناك آلاف الجماهير التي خرجت مطالبة بإدراج الشريعة، فالشريعة الإسلامية ليست بشيء منبت عن المجتمع الإسلامي ولا وجود لمبرر للتخوف منها فهي شريعة سمحاء تنظم حياة الأمة، ويجب ألا تفهم على كونها قانون العقوبات، وحسب اعتقادي، فإن إدراج الشريعة هو حماية وضمان للمسلمين وللمجتمع التونسي".
من ناحية أخرى يؤكد خوجة أن "الإعلام التونسي ليس بيد الإسلاميين في هذه المرحلة، وهو بصدد إبعاد الناس عن المشروع الإسلامي، وهذا لم يعد ينطلي على الشباب المهتم بدينه، ونحن نعتبر أن الإسلام وحدة متكاملة في كل المستويات وله بدائل لكل شيء.
أما فيما يخص المجموعات غير المنظمة والتي تمارس العنف، وهي تتكون في غالبيتها من شباب متحمس، فقد نسي هؤلاء أننا في مرحلة بناء وإصلاح، ويجب ألا ننسى أيضا أن هناك من له مصلحة في تأجيج الوضع واظهار الإسلاميين بمظهر عنيف".
خصوصية تونسية
من جهته يرى عادل العلمي رئيس الجمعية الوسطية للتنمية والإصلاح (وكان اسمها سابقا جمعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) أن التونسيين "مسلمون وهذا متفق عليه، ولكن مع مراعاة الخصوصية التونسية، وبها من المعالم العلمية الضاربة في التاريخ، ومن ذلك التعليم الزيتوني ومن هنا المنطلق، فالطبيعة تطبع على طبيعة الإنسان، ونحن نؤكد أن المشروع الذي يجمع عليه التونسيون ليس مسقطا، فلا هو شرقي ولا غربي، وهو يكمن على الانفتاح على الآخر مع الاعتزاز بالخصوصية التونسية عبر التاريخ".
[blockquote]
التهديد الحقيقي هو سعي قوى من الحكم وبعض من خارجه لتأسيس دولة الاستبداد التي تستهدف الحريات الكبرى ومن ذلك حرية الإعلام وحرية الإبداع وحرية البحث الأكاديمي وحرمة الجامعة وحرية المعتقد والضمير من خلال سعي هذه المجموعة لفرض نمط من السلوك واللباس والتدين الغريب عن المجتمع التونسي
شكري بلعيد - الأمين العام لحزب الوطنيين الديمقراطيين
[/blockquote]
ويضيف "هي قيم ديننا الحنيف السمح والوسطي، ونحن نرفض الغزو الثقافي والفكري، وخاصة القوالب الجاهزة التي يريد فرضها العلمانيون واليسار الحاقد، فتونس ليست مدرسة لتشي غيفارا ولا لأيمن الظواهري". موضحا أن "الأصل هو الإسلام وكتاب الله وسنة الصحابة، والخصوصية التونسية تتمثل في المدرسة الزيتونية، التي تمازج بين الأصل والعصر، ونحن لا نريد التخلي عن ثوابت أصلنا وعرفنا، وعن القانون الوضعي الذي يخالف تعاليم الإسلام نحن ضده، أما الديمقراطية كآلية فمرحبا بها للاتفاق حول النخب والقيادات، ولكن أن تصبح دينا فهذا مرفوض".
ويؤكد العلمي "نحن نعتمد على النصح والإرشاد أساسا.. بتنظيم الندوات والتوجه للناس مباشرة، أما على مستوى الحكومة وتوجه الدولة فستكون لنا سلطة على الحكومة فلو لمسنا مشكلا كبيرا على مستوى توجهات الدولة، فسيكون من واجبنا الذهاب إلى المسؤول وإعلامه بالأضرار التي عايناها .. وإن لم تتفاعل الحكومة، عندها نتجه إلى التشهير بالحكومة عن طريق الإعلام، وإن لم نجد صدى نأخذ ترخيصا من أجل تحرك احتجاجي في الشارع، في إطار مسيرة جماهيرية، وهذا هو التحرك الأقصى".
العلمانيون.. اتجاهات متعددة
العلمانيون وهم النخب السياسية التي لم تنجح في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، ويمكن اختصارهم في ثلاثة اتجاهات، وهي يسار الوسط واليسار الراديكالي و"الدساترة"، والأخير يعتبر نفسه وريثا للحزب الدستوري، الذي بناه بورقيبة وحكم البلاد، إلى أن حوله بن علي لحزب التجمع الدستوري الديمقراطي المنحل بعد الثورة.
وللدساترة وزنهم في الساحة السياسية في البلاد، وسرعان ما تبرأوا من عهد بن علي، وأكدوا أنهم وريثو دولة الاستقلال التي بناها الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة، وأيضا للاشتراكيين الديمقراطيين موقعهم ووزنهم، وكانوا موجودين في الساحة السياسية، وناضلوا في أغلبهم ضد بن علي عبر التغلغل في المجتمع المدني، من أجل دولة مدنية ديمقراطية حديثة.
ومن أبرز الأحزاب الممثلة لهذه التيارات نذكر حزب نداء تونس الذي يقوده الباجي قائد السبسي، وهو حزب تأسس بعد انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، ويعد في ظرف وجيز، الحزب رقم واحد من حيث عدد المنخرطين والأنصار في صف المعارضة، ونذكر أيضا الحزب الجمهوري الذي يقوده أحمد نجيب الشابي، وحزب المسار الاجتماعي بقيادة أحمد ابراهيم، وهذان الحزبان الأخيران يعدان من أبرز معارضي بن علي في الداخل زمن حكمه.
أما اليسار التقليدي، فهي الحركات التي تتبنى ما يطلق عليها بـ"الاشتراكية العلمية"، وأبرز ممثلي هذا التيار هي كل من حزب العمال الشيوعي التونسي بقيادة حمة الهمامي، وحزب الوطنيين الديمقراطيين الذي يقوده شكري بلعيد، وتنضاف لها الأحزاب العروبية والقومية اليسارية، وهي جميعا أحزاب لم تكن تتمتع بالعمل القانوني زمن حكم بن علي، وكانت نضالاتها تبنى عبر التموقع في النقابات والمنظمات، وانخرطت في المسار الثوري الشعبي أيام الثورة التونسية وتبنت مطالب الجماهير، ولكنها لم تتمكن من بلورة خطاب وبرامج تحظى بثقة الشعب زمن انجاز انتخابات المجلس الوطني التأسيسي وركزت على الديمقراطية وعلى حرية الاعتقاد وفصل الدين عن الدولة، لذلك لم تحظ بمواقع تذكر بالمجلس، وتعمل هذه الأحزاب الثورية على بلورة مشروع جبهة واسعة تمثلها.
وعلى الرغم من الاختلافات التي تشق هذه الأحزاب خاصة في ما يخص البرنامج، فإن مسألة الحريات الأساسية وخاصة حرية الاعتقاد ومكاسب المرأة وأيضا مدنية الدولة، تجمعها في مختلف المحطات، وتعتبر جميعها أن الحركات الإسلامية خطر على الانتقال الديمقراطي في البلاد، وتعتبر مشروعها مشروعا "ماضويا" وتسلطيا، يود أسلمة المجتمع.
مجتمع منفتح
يرى خميس كسيلة عضو الهيئة الموسعة لحزب نداء تونس وعضو المجلس الوطني التأسيسي أن الحركة الديمقراطية "تعمل من أجل بناء مشروع مجتمع واقتراحه على التونسيين، يجمع كل التونسيين للدفاع عن مكاسب دولة الاستقلال وعلى نمط المجتمع المنفتح المتسامح المدني العصري، ويدافع أيضا عن الذين يريدون الدفاع عن أصالتهم ودينهم، ولكن يعيشون عصرهم" حسب ما جاء على لسانه في تصريح إعلامي.
[blockquote]
المجال اليوم مفتوح لكل القوى السياسية للانخراط في "التيار الإصلاحي" للمساهمة والدفع في اتجاه بعث "القوة الثالثة" بعيدا عن الاستقطاب الثنائي بين "النهضة" وتوابعها و"نداء تونس" وتوابعه.. الكل يدرك مخاطر انفراد النهضة بالحكم واحتمالات الاستبداد لديها كما جرّب الشعب استبداد حزب التجمّع
د. أحمد بوعزّي - أستاذ جامعي من التيار الإصلاحي
[/blockquote]
ويرى كسيلة أنه "يجب الدفاع عن الأفكار التالية، وهي البند الأول من الدستور الذي يعتبر علم تونس ومجلة الأحوال الشخصية وأيضا الالتفات العاجل والبحث عن حلول للوضع الهش بالجهات المحرومة".
وتعمل حركة نداء تونس ضمن مهامها على "الانتصار للدولة المدنية، التي تكفل مبدأ الصراع، لكن في ظل منظومة تعاقدية متطوّرة، قابلة للتجديد توافقا مع المقتضيات المتحوّلة للواقع، وصونا لمختلف الالتزامات الوطنيّة والدولية" وأيضاالالتزام بمأسسة الديمقراطية على قاعدة لامركزية صنع القرار سدّا للذّرائع المفضية لتغوّل الدولة والتّعهّد بتحقيق التناوب في المسؤوليّات باعتماد الجدارة، مع صون الحقوق الفردية بجعل المواطنين سواسية إزاء القانون".
ويعرب كسيلة عن أسفه لأن الشعب التونسي يجد نفسه بعد عامين تقريبا على ثورته، مطالباً بالدفاع عن مكتسباته المدنية وعن حريته، بدلاً عن المضي لتحقيق أهداف واستحقاقات الثورة.
ولفت كسيلة إلى أن الحديث عن استهداف لمقومات المجتمع المدني الحداثي في تونس "ليس فيه مبالغة ولا شحن للعاطفة ولا تحريض"، معتبرا أنه "حقيقة واضحة أمام الجميع تستدعي المزيد من اليقظة".
واعتبر أن "الأخطر من كل ذلك هو أن هذا الاستهداف تجاوز حقوق المرأة ليمس أيضا الحريات العامة والفردية، من خلال تكبيل حرية الإبداع والفكر بنصوص قانونية وربطها بالأخلاق وبالمقدّسات".
المسار الثوري
من ناحيته يقول شكري بلعيد الأمين العام لحزب الوطنيين الديمقراطيين اليساري، "في الأصل المسار الثوري أعطى الأسس الكبرى لتونس الجديدة، وكان مسارا ثوريا ضد نظام استبدادي دكتاتوري، وعليه فإن المشروع المطلوب هو مجتمع ديمقراطي، كما أن الشعب انتفض ضد سلطة الفساد والاستغلال، لذلك كان البديل الذي طلبه الشعب سلطة عمومية شفافة، وقد انتفض أيضا ضد منوال تنموي يكرس التبعية والإلحاق، ولذلك طالب المجتمع بسيادة وطنية للشعب التونسي، وبالتالي فإن المد الثوري أراد تأسيس جمهورية مدنية ديمقراطية اجتماعية".
كما يرى بلعيد أن "الشعب التونسي راكم منجزات كبرى، هي مدنية التعليم ووحدته، وذلك خلافا للبلدان العربية التي تشهد ازدواجية تعليم، وكذلك راكم لقضاء عدلي موحد، ومجلة أحوال شخصية تضمن الحد الأدنى لحرية المرأة واستقلاليتها، كما أن من المكاسب المحققة أنه وحتى في زمن الاستبداد كانت الدولة محكومة بمنظومة قانونية وضعية، ولذلك يمكن تأكيد أن المسار الثوري انبنى على مكاسب وطرح مهام طبق مقتضيات المرحلة".
ويقول بلعيد محذرا: "هذا المشروع مستهدف من قوى تعمل على نسف المكتسبات، لذلك فإن حكومة الترويكا أو حكومة الالتفاف على الثورة، داخلها أطراف تسعى الى تكريس ازدواجية التعليم، وبالتالي ازدواجية الشخصية الوطنية وتستهدف وحدة القضاء، وذلك من خلال ضرب المنظومة القانونية الوضعية، كما تستهدف مكاسب المرأة والأسرة، وبالتالي تعمل على أحياء العلاقات الاجتماعية التقليدية المعادية للعصر والحداثة".
ويضيف "التهديد الحقيقي هو سعي قوى من الحكم والبعض من خارجه لتأسيس دولة الاستبداد، التي تستهدف الحريات الكبرى، ومن ذلك حرية الإعلام وحرية الإبداع وحرية البحث الأكاديمي وحرمة الجامعة وحرية المعتقد والضمير من خلال سعي هذه المجموعة لفرض نمط من السلوك واللباس والتدين الغريب عن المجتمع التونسي. كما أن المشروع المجتمعي المدني الديمقراطي الاجتماعي مستهدف من قبل اليمين المستتر بالدين، ومستهدف من قبل منوال تنمية ليبرالي يواصل منوال التنمية لحكومة بن علي ويعرض البلاد لمصادرة قرارها الوطني".
الخيار الثالث
في تحرك معاكس للاستقطاب الثنائي الذي بدأ يطغى على الساحة السياسية، يؤكد الأستاذ الجامعي الدكتور أحمد بوعزي عن "التيار الإصلاحي" أن هناك ثلة من المناضلين الديمقراطيين، اختاروا بعث مشروع سياسي جديد يستجيب لتطلعات عديد التونسيين الذين ينادون بتجميع القوى الديمقراطية في حزب ديمقراطي اجتماعي يحقق مطالب الثورة. وقد أرادوا أن يقطعوا مع الماضي "التجمعي" من دون الانزلاق في مغامرات غير محسوبة العواقب تؤدّي إلى انتصاب استبداد جديد، إذ هم يعارضون فرض نمط اقتصادي واجتماعي ومذهبي على التونسيين، من الناحية الاقتصادية يطلق العنان لليبرالية المتوحشة تمحق الإنسان لتنمية ثروة المضاربين من دون نتائج تذكر على التنمية الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية، ومن الناحية الدينية يفرض التشدد والغلوّ على شعب أنجب تاريخه على مرّ القرون علماء جذّروا الإسلام في هذه الربوع وأثـروه باجتهاداتهم النيّرة التي تدرَّس في المشرق والمغرب.
[blockquote]
نحن نرتكز على جدلية القطيعة والتواصل، قطيعة مع الاستبداد السياسي والحيف الاجتماعي، وتواصلا مع مكتسبات الشعب التونسي، وهويته العربية الإسلامية، كما يرتكز تصورنا لمنظومة الحقوق والحريات العامة والفردية على مبدأ شمولية وعدم قابلية حقوق الإنسان للتجزئة
سمير الشفي - الأمين العام المساعد للاتحاد العام التونسي للشغل
[/blockquote]
ويؤكد هذا التيار حسب بوعزي على القيم الثلاث التي جعلها شعارا، فالحرية بالنسبة لمناضليه تشمل الحريات الفردية والجماعية ودولة القانون المدنية الديمقراطية التي تفصل بين السُّلط وتوازن بينها وتحترم حقوق الإنسان بأجيالها الثلاثة. أما في ميدان العدالة الاجتماعية فهم يعتقدون أنه يجب تصوّر منوال تنمية جديد قائم على إنتاج الخيرات وتوزيعها بعدل بين الفئات والجهات، ورغم أنهم يؤمنون بواجب تدخّل الدولة للتعديل كلما لزم الأمر، فإنهم يعتبرون أن النجاعة الاقتصادية يوفرها البحث عن الربح ويعتبرون المواطن ورفاهته هما القيمة القصوى. ويؤمن باعثو المشروع بضرورة الانغراس في الهوية العربية الاسلامية باعتبارها وجدان الشعب ولسانه، ولا يعني ذلك الانزلاق نحو الانغلاق أو التطرف أو أي فكرة شوفينية رجعية أخرى، وبكلمة أخرى فتونس بالنسبة لهم مثل شجرة الزيتون لا يمكن أن ترتفع للسماء من دون أن تكون لها جذور عميقة لتستلهم من التراث المستنير في الحضارة العربية الإسلامية وتستفيد منه، ويستوجب ذلك احترام هذا الشعب واحترام ثقافته ومخاطبته بلغته الوطنية في كل الميادين. هذا مع احترام الأديان والفلسفات الأخرى والإطلاع عليها وتعلّم اللغات الأجنبية بنجاعة أكثر.
ويضيف بوعزي"المجال اليوم مفتوح لكل القوى السياسية للانخراط مع باعثي المشروع، للمساهمة في تأسيس هذا الحزب والدفع في اتجاه بعث "القوة الثالثة" بعيدا عن الاستقطاب الثنائي بين "النهضة" وتوابعها و"نداء تونس" وتوابعه. لأنهم يدركون مخاطر انفراد النهضة بالحكم واحتمالات الاستبداد لديها، كما جرّب الشعب استبداد حزب التجمع. إذ أن خلافهم مع بعض مكونات المعارضة أنهم يبررون التوجه إلى "حزب نداء تونس" بسبب الخوف من انفراد "النهضة" واستبدادها، وهم إذ يشاركونهم هذا الخوف، فلا يمكن أن يبرّروا تحالفا مع استبداد حاصل بخوف من استبداد محتمل أو مفترض".
الاتحاد العام التونسي للشغل
يعد الاتحاد العام التونسي للشغل وهو منظمة نقابية تظم أكثر من 600 ألف منخرط، لها جذورها في تاريخ البلاد، وساهمت في مختلف المحطات السياسية التي شهدتها، فمن يعود إلى تاريخ الاتحاد، يلمس بما لا يدع للشك أن منظمة الشّغلية لم تهتم، فحسب بالشأن النقابي وتحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للشغالين بالفكر والساعد فحسب، وانما كان مجال تدخلها في أغلبه سياسيا. إذ كان الاتحاد منذ تأسيس دولة ما بعد الاستعمار شريكا فاعلا في بناء تونس الحديثة زمن بورقيبة، بل فرض الخيارات السياسية والاجتماعية التي كانت تتبناها الدولة ومن ذلك التجربة التعاضدية التي مرت بها البلاد في الستينات.
لقد ظلّت سياسة الاتحاد يحكمها دوران الأول رسمي معلن مهادن، يتحرك تحت غطاء الشراكة والوحدة الوطنية وهو الدور الذي تقوم به القيادة النقابية أساسا. وأما الثاني فهو يقوم على سياسة معادية للدكتاتورية والسلطة، يتبنى خلاله النقابيون القواعد وبعض القيادات الوسطى قضايا شعبية وسياسية حارقة.
وأيام الثورة كان للقواعد والقيادات الوسطى بالاتحاد العام التونسي للشغل دور كبير في الاطاحة بنظام بن علي، فكانت النقابات مراكز تجميع للجماهير وتأطير لتحركاتها، وقد عجلت الاضرابات العامة التي نفذها الاتحاد بعدد من المدن الكبرى التونسية بزعزعة أركان نظام بن علي أيام الثورة، وتواصل مساهمة الاتحاد بعد ذلك في تشكيل المشهد السياسي الجديد عبر تبني التحركات الاجتماعية من اعتصامات واضرابات شملت البلاد، ولكن باتخاذ موقع سياسي محايد ومن دون المشاركة في السلطة أو الاستحقاقات الانتخابية.
ومع احتداد التصارع بين مختلف المشاريع المجتمعية، أكد الاتحاد أنه ينتصر للمشروع المجتمعي العقلاني الديمقراطي من دون المساس بهوية الشعب التونسي العربية الإسلامية، وبحث عن سبل تحقيق مخرج لتعمق الخلاف الشاق للصف عبر اطلاق مبادرة ترمي للوفاق الوطني بين مختلف الخصوم السياسيين للتوافق على أرضية مجمعة على مطالب الثورة التونسية.
ولكن يبقى الاتحاد خارج دائرة سلطة القرار، رغم قدراته وتأثيره الشديد على مجرى الأحداث، ويبقى قوة ضغط شديدة على السلطة الحاكمة باتخاذه موقعا ضمن المجتمع المدني والنقابي، ويتواصل الصراع في هياكله القاعدية بين القوى المتصارعة للظفر بمواقع صلبه تغير الكفة.
جمهورية ديمقراطية شعبية
يعتبر سمير الشفي الأمين العام المساعد للاتحاد العام التونسي للشغل، أن الاتحاد يساهم في رسم ملامح النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتأسيس لجمهورية ديمقراطية اجتماعية أساسها سيادة الشعب وجوهرها الحرية والعدالة الاجتماعية، وندافع عن ديمقراطية اجتماعية تجد تجلياتها السياسية والمؤسساتية ضمن دستور ديمقراطي اجتماعي.
مضيفا "نحن نرتكز على جدلية القطيعة والتواصل، قطيعة مع الاستبداد السياسي والحيف الاجتماعي، وتواصلا مع مكتسبات الشعب التونسي، وهويته العربية الإسلامية، كما يرتكز تصورنا لمنظومة الحقوق والحريات العامة والفردية على مبدأ شمولية وعدم قابلية حقوق الإنسان للتجزئة".
[caption id="attachment_55240410" align="alignright" width="260"] راشد الغنوشي[/caption]
ويعتبر الشفي أن "الخيارات الاقتصادية والاجتماعية التي يدافع عنها الاتحاد يستحيل مناقشتها في ظل أجواء استبدادية ولا تستقيم إلا في نظام سياسي قائم على الفصل بين السلط والتداول السلمي على السلطة والتعددية، كما أن التنمية تمثل مسارا اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وسياسيا شاملا، وهو حق أساسي من حقوق الانسان، يتمثّل في تحقيق المساواة والفرص للتمكين من الموارد الأساسية وكذلك التقاسم العادل للثروة".
ويؤكد الشفي أن "التهديدات التي تمس من المشروع المجتمعي المنشود، هي محاولات العودة الى تغول السلطة والتوغل في كافة أرجاء الادارة ومفاصلها، وهذا اشكال كبير يهدد الانتقال الديمقراطي وأيضا تنامي المقاربات التي من شأنها المساس بالنسيج الاجتماعي للمجتمع التونسي، ومن ذلك ظاهرة التعصب الطائفي والمذهبي الغريبة عن الشعب التونسي وهي ظاهرة غير مألوفة بالبلاد، ونلاحظ مظاهر تهديد للآخر عن طريق نزعة العنف المنظم والممنهج، وهذا يعتبر خطرا حقيقيا على مهام الثورة، وله عديد الأوجه ومن ذلك العنف الذي تسلطه أجهزة الدولة وأيضا والمجموعات المتعصبة، وهذا انعكاس طبيعي للتغول وتهديد لدولة الحرية والكرامة والعدل الاجتماعي النموذج".
أي مشروع مجتمعي؟
وفي التمعن في خصوصية كلا القطبين المتصارعين (الإسلاميين والعلمانيين) يمكن استشفاف أن ما يفرق كلا القطبين غالب على ما يمكن أن يجمعهما، وهو ما أدى بدوره إلى بروز حالة استقطاب ثنائي حاد يشق البلاد.
ولكن وعودة إلى الإطار المرجعي في تعريف الاستقطاب الثنائي، فيعد هذا فعلا وأداة للممارسة السياسية ارتبطت بمرحلة أيديولوجية وتفترض اختلافا وصراعا عميقا على البرامج بين المتصارعين السياسيين وبين مشاريع مجتمعية مختلفة ومتناقضة بدرجة حادة، وهو ما تؤكده اختلاف مرجعيات وبرامج كلا القطبين المتنافسين.
فعلى الرغم من الاختلافات التي تشق الإسلاميين، بين ما تمثله حركة النهضة من قوة الحد الأدنى في التعبير عن الهوية والمرجعية الدينية الإسلامية مع القبول بمدنية الدولة والديمقراطية كآلية حكم، وما يمثله السلفيون كقوة قصووية في العمل على تركيز الشريعة الإسلامية وفرضها، فإن هذه القوى تعتبر العلمانيين قوى تعمل على تغريب البلاد والانحراف بها عن هويتها ومعادية لتأصل البعد الإسلامي بها.
وهنا يقول علي العريض القيادي البارز بحركة النهضة ووزير الداخلية التونسية في حوار أجرته معه التلفزة التونسية أخيرا "إن هناك تجمعا يتشكل الرابط الوحيد الذي بينه هو كره ومحاولة استئصال النهضة، وهي على شاكلة الحزب الحاكم القديم بنفس العقلية".
في المقابل، فإن العلمانيين باختلافاتهم، بين يسار راديكالي وقوى وسطية اشتراكية ديمقراطية، يعتبرون أن دولة الاستقلال تمكنت من فرض مكاسب تتمثل في مدنية الدولة وبناء نظام تعليمي موحد، وقضاء يستشف عمله من قوانين وضعية وأيضا من تحرير للمرأة واقترابها من نيل مساواتها التامة مع الرجل، ويؤكدون أن طبيعة المرحلة ديمقراطية تتطلب مواصلة بناء تحول ديمقراطي في دولة عصرية مدنية، تحفظ الحريات الأساسية بما في ذلك حرية الاعتقاد والتدين من دون فرضه، ويعتبرون أن القوى الإسلامية بمختلف تشكيلاتها تهديد مباشر لهذا المشروع.
بينما يرى محمد الكيلاني أمين عام الحزب الاشتراكي "أن الاسلاميين يؤسسون لدكتاتورية جديدة، بغطاء ديني هذه المرة، ويهددون مختلف المكاسب التقدمية التي حققها الشعب التونسي".
وهذا الصراع تبلور بشكل حاد مع انطلاق المجلس الوطني التأسيسي في صياغة الدستور الجديد بالبلاد، وحاول كلا الفريقين ترويج الصراع إلى مختلف الأطر الثقافية والإعلامية وإلى الشارع أيضا، وهو ما تسبب في خلق حالة توتر وانقسام حاد بين التونسيين، حول المشروع المجتمعي المنشود، إن إسلاميا أو علمانيا.
وهو ما ذيل طرح البدائل التنموية والمشاريع الاقتصادية التي تتماشى وطبيعة المرحلة، وحافظ على تركيز الصراع في إطار ثقافي، سيكون محددا للقوة المهيمنة في المرحلة المقبلة، خاصة أن نظرية «التدافع الاجتماعي» لصاحبها راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة تفيد اختصارا بإعادة الفرز بطريقة أكثر وضوح و"تترك الدولة المجتمع يتدافع ويتنافس ويتجاوز باختيار من يريد"، إن توفرت مقومات اللعبة التنافسية النزيهة، وهذا غير متوفر في ظل غياب ما يطل عليه بالضوابط الاجتماعية.
غياب الضوابط
وإذا ما كان هدف الهيمنة على مفاصل الدولة وفرض المرجعيات الثقافية وجه من أوجه الصراع الذي يشق المشهد السياسي التونسي اليوم، فإن تكون الأحزاب والقوى المتصارعة حقيقة كان بعد 14 يناير يدعم ذلك اثر حصول فراغ سياسي، كان نتيجة حل الحزب الحاكم السابق.
وفي ظل تواصل ضعف أجهزة الدولة، وهو ما يعني غياب الضابط الاجتماعي من أمن ومؤسسات، فإن ذلك يزيد في تدهور الوضع وتزايد الاحتجاجات، ومحاولات توظيفها خدمة للمصالح السياسية والأجندات المتناقضة بين أطراف الصراع.
تجدر الإشارة إلى أن غياب الضابط الاجتماعي يعني غياب الجهاز التعديلي، من مؤسسات للدولة تحفظ قواعد لعبة التنافس على السلطة، بما يجعل الصراع الحاصل اليوم، دون ضوابط واحترام لمعايير المنافسة بين المختلفين.
[caption id="attachment_55240411" align="alignleft" width="300"] الباجي قائد السبسي[/caption]
فما يحصل اليوم من تنافس حاد بين القطبين هو تزاحم من أجل الهيمنة الأيديولوجية أولا، والتحكم في مفاصل الدولة ثانيا، وخلق استعدادات للعنف ثالثا، وهو ما يعد قفزا على السياق العام الذي تمر به البلاد، فهي في مرحلة تأسيسية انتقالية تكمن المهام السياسية الرئيسة في صياغة دستور جديد للبلاد وتحديد لطبيعة نظامها الجديد الذي سيعتمده قيادات البلاد في المرحلة المقبلة.
وهذا ما يفسر بدوره، أغلب أحداث العنف الحاصلة أو الصراعات الدائرة التي انخرط فيها كلا القطبين، فظهر العنف المسلط على المثقفين، وحملات التشويه والتخوين لرموز هذه الجهة أو تلك ومن منع لاجتماعات هذا الطرف أو ذاك بالقوة، وأيضا التخوف من المال السياسي المتدفق على أطراف الصراع، والأخطر تغذية النخبة السياسية لواقع الانقسام الحاد.
وتهافت الأحزاب المتعاركة على الرصيد المجتمعي (أي جمع عدد أكبر ما يمكن من الأنصار والمتعاطفين)، ومحاولات تطويع لمؤسسات الدولة أو العمل على استقطاب الجمعيات والمنظمات وإغرائها للتقارب والانضمام للصف.
وهذا العراك و«التدافع» المتواصل، وهي نظرية راشد الغنوشي رئيس حزب حركة النهضة ويقول فيها ".. يكلف التونسيين خسائر اقتصادية واجتماعية جمة، ويغذي الاحتقان المتواصل الذي تشهده مختلف أرجاء البلاد وقطاعاتها، ويؤجل عوامل الاستقرار، والنظر في التحديات الكبيرة التي تواجهها البلاد في هذه المرحلة.
تحدّيات بالجملة
تواجه تونس الجديدة تحديات عدة، تنطلق من طبيعة العلاقة التي تربط مختلف القوى السياسية العاملة على الساحة، رغم الإقرار بأن البلاد نجحت فى عبور اختبار الديمقراطية الأول، في المرحلة الانتقالية الأولى بعد تنظيم انتخابات ديمقراطية شفافة، لكن التحديات التى تفرضها المرحلة الانتقالية الثانية تبدو فى مجملها وأبعادها أكثر تأثيرا على مسار الانتقال الديمقراطي من المرحلة التي تلت انهيار النظام السابق، وهو ما يفرض على القوى السياسية الجديدة ضرورة الحفاظ على حالة التوافق التي بدت في طريقها إلى بناء الديمقراطية المنشودة، وهذا مرتبط بتوفر إرادة سياسية للقوى المؤثرة في المشهد.
من ناحية أخرى، فإن البلاد تواجه صعوبات جمة، فنسب البطالة يبلغ أكثر من 18 في المائة خاصة بين أصحاب الشهادات العاطلين عن العمل، كما أن نسب الفقر اكتسحت ربع سكان تونس، وأغلب العاطلين والفقراء وذوي الوضعيات الهشة، هم أبناء الجهات الداخلية والمناطق المحرومة التي لم تهدأ إلى الآن، وتتحرك بين ليلة وأخرى في احتجاجات متواصلة، كما أن هذه التحركات تطفو بين الفينة والأخرى في عدة مناطق، في الساحل وفي أحزمة العاصمة وأحيائها الشعبية أحيانا.
وبما أن البنية الذهنية للمجتمع التونسي تحكمها «عقلية انتظارية» كما يذهب إلى ذلك الدكتور المنصف وناس في كتابه الشخصية التونسية، تنظر للعطاءات والهبات الملموسة والمشاريع والحلول الواقعية المقدمة، فإن عدم الانخراط الفعلي في العمل وفي إيجاد الحلول للواقع المتردي الذي تعيشه كثير من الجهات، أدخل المجتمع في حالة من الهيجان والانخرام الاجتماعي، والانفلات الأمني.
كما تعاني البلاد مشاكل اقتصادية كبيرة، يؤكدها الارتفاع الكبير لنسب التضخم الذي بلغ حدود الـ6 في المائة، إضافة إلى تباطؤ نسق الاستثمار بصفة ملحوظة، وعدم بلوغ 2 في المائة من نسبة نمو وطني عام، وتواصل العجز التجاري، والاعتماد على الاقتراض، وهو تحد هائل يجب على القوى التي تطرح مشاريع اجتماعية شاملة أن تجد له حلولا عاجلة.
من ناحية أخرى، فإن البلاد تعيش على وقع تأثيرات خارجية جمة، على مستوى حدودها وعلى مستوى تنافس القوى الاقليمية تقليدية التأثير بالبلاد مذ زمن الاستعمار، وما تلاه وأيضا من قبل قوى أخرى جديدة التأثير بالساحة، وقد أدى ذلك الى احتداد الصراع والتجاذب بين مصالح هذه القوى التي تريد فرض الشق المتعاون معها، وهو ما أدى مع غياب مؤسسات الدولة الذي مازال هشا اثر زعزعته أيام الثورة، إلى تدخل مباشر وقوي عبر المال السياسي والضغط بالداخل والخارج لفرض مصالح تظمنها هذه القوة أو الأخرى.
وختاما فإن رهانات المرحلة الانتقالية، تتعلق بحشد الجهود السياسية فى ملفات محددة يجب معالجتها وهي ملفات صياغة الدستور وبلوغ الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي، وفتح ملفات الفساد السياسي والمالي والإداري في عهد النظام السابق، وإعادة هيكلة المؤسسة القضائية وتطهيرها، ومعالجة البطالة، وإصلاح النظم التربوية والثقافية والإعلامية، على أن يتم ذلك في تواز مع التمهيد للانتقال نحو الديمقراطية المنشودة والتي يتوافق حولها مختلف القوى المؤثثة للمشهد، وتوفير حد أدنى من شروط التنافس بين المشاريع المجتمعية المتصارعة، التي يبدو أنها لم تحقق إلى اليوم نتائج على المستوى الواقع الملموس المعيش للتونسي، ولم تكن بمستوى الرهانات والتحديات التي تواجهها البلاد، وقد يكون الآتي أفضل.