* كان يمكن للراعي أن "يبقّ البحصة" وأن يدين من باع كرسي بعبدا بثلاثين من فضة في اتفاق مار مخايل وأن يرفض ويدين إلحاق لبنان بالمحور الإيراني وجعله مقاطعة تحت إمرة خامنئي.
ربما كان هذا الرفض وتلك الإدانة أعادا بعضاً من بريق مجد غابر.
جلس الراعي، بطريرك الموارنة على كرسيه يستمع إلى شكوى وفود رعيته التي تزوره. الهجرة، البطالة، الإفلاسات التي تضرب كل القطاعات، اليأس، التسيب المدرسي المحتمل مع بدء العام إن بدأ، الجوع، الدولار وانهيار الليرة، التضخم المخيف، انقطاع المواد الأولية والكهرباء. جاع القطيع، وأكثريته تريد الهجرة. لن يبقى موارنة بعد عشرين عاما في لبنان هذا ما أكده أحدهم. أو قل سيكونون أقلية لا قيمة مضافة لهم في الحياة السياسية أو الاقتصادية. لن يترك لسلفه مجد لبنان.
تجهم وجه الراعي. ما العمل؟ كيف وصلنا إلى تلك الهاوية؟
يذكر جيداً أن باسيل قال له إن عون رئيسا سيكون «ديغول» الشرق. سيغير ويصلح. دعم الكنيسة له ولتياره أكثر من ضروري. وحده عون قادر من بين كل الزعامات المارونية تنفيذ وعوده. الكل «بدو رضاه». حزب الله بحاجة إلى غطاء مسيحي. ماذا سيحصل للحزب من دون غطاء مسيحي؟ سأل الراعي، لم يسال قبلا أحد هذا السؤال. خوفا ربما من اكتشاف أن «الغطاء المسيحي» هو مزحة سمجة. لزوم ما لا يلزم السيد حسن. مجرد كوميديا لبنانية تشبه إحدى مسرحيات الأخوين رحباني حيث الظاهر وردي. فالحزب المرتبط عضويا بايران، المؤتمر بقيادة الحرس الثوري وفيلق القدس مباشرة، المنتشر في كل أنحاء العالم، المصنف إرهابيا من كثير من الدول، المتهمة عناصره بقتل رفيق الحريري، الذي يحارب على أكثر من جبهة في الإقليم، المدجج بالسلاح والمال، هل سينهار إن لم يحظ بغطاء مسيحيي عون؟
تابع باسيل أما الحريري ممثل السنة، فقد ربط مصيره السياسي بالجنرال. لا داعي للقلق فهو كالخاتم في إصبعه. ماذا لو قرر الحريري التحرر من تلك القبضة؟ ينتهي. قالها باسيل بكثير من الثقة. سنعيد للموارنة حقوقهم المسلوبة سيدنا. عون وحده قادر على إرجاع تلك الحقوق المهدرة بالطائف. ولكن لماذا سيقبل من يتحكم بلبنان، حزب الله، اليوم إعادة عقارب الساعة إلى ما قبل الـ91؟ لشو يريد «شريك مضارب»؟
انتهى اللقاء، دخل مكتبه فورا، وهو يفكر بالبطاركة الذين سبقوه على كرسي أنطاكيا وسائر المشرق للموارنة. هل يعرف عددهم باسيل هذا؟ تاريخهم؟ تاريخ الموارنة؟ كيف سلمنا أمر الطائفة لهؤلاء؟
بدأ بكتابة عظة الأحد.
«إن أسوأ ما نشهده اليوم عندنا هو أن معظم الذين يتعاطون الشأن السياسي، لا يعنيهم إلا مكاسبهم الرخيصة ومصالحهم وحساباتهم، وحجب الثقة عن غيرهم، وإدانة الذين يتولون السلطة في المؤسسات الدستورية. والأكثر ضررًا أنهم يعملون جاهدين على أن يكون الولاء لأشخاصهم ولأحزابهم، لا لبنان».
ألم يحذره يوما من مقاطعة دول الخليج لنا إذا ما استمر فخامته بدعم مواقف حزب الله العدائية تجاهها وهي التي كانت دائما سندا للبنان؟ ألم يحذره من إغضاب الأميركي؟ سنبني اقتصادا «مشرقيا» سيدنا. ايران العراق اليمن سوريا لبنان. اقتصادا منتجا ومقاوما لمن يريد اقتلاعنا من هذه الأرض. نحن لسنا بحاجة لدول الخليج. أليست هي تلك الدول الداعمة للحركات الأصولية المعادية «للمسيحية المشرقية» التي تمثل؟ هم- دول الخليج- لن يساعدوننا على كل الأحوال طالما يدعمون أعداءنا. أما الولايات المتحدة فنفوذها بدأ بالأفول في المشرق. الرئيس ترامب لا يهتم إلا بالانزواء وجعل أميركا عظيمة. مصلحتنا مع الشرق سيدنا. ولكن ماذا عن العقوبات؟ ألن تنال من «الاقتصاد المشرقي؟»، ثم كيف الاتكال على دول مفلسة أصلا جراء عقوبات الولايات المتحدة الأميركية أن تنعش اقتصادنا؟ سياسة المحاور لم تجلب لنا «أبناء مارون» سوى الويلات.
«نناشد فخامة رئيس الجمهورية العمل على فكّ الحصار عن الشرعية والقرار الوطني الحرّ. ونطلب من الدولِ الصديقةِ الإسراعَ إلى نجدة لبنان كما كانت تفعل كلما تعرّضَ لخطر. ونتوجّه إلى منظَّمة الأمم المتّحدة للعمل على إعادةِ تثبيتِ استقلالِ لبنان ووحدتِه، وتطبيق القرارات الدولية، وإعلانِ حياده. فحيادُ لبنان هو ضمانُ وِحدته وتموضعه التاريخيّ في هذه المرحلةِ المليئةِ بالتغيراتِ الجغرافيّةِ والدستوريّة. حيادُ لبنان هو قوّته وضمانة دوره في استقرار المنطقة والدفاع عن حقوق الدول العربية وقضية السلام، وفي العلاقة السليمة بين بلدان الشرق الأوسط وأوروبا بحكم موقعه على شاطئ المتوسّط.
هناك أشياء كثيرة لم يكتبها الراعي في هذه العظة:
أولا لم ينتقد النظام القائم في لبنان ولم يحمله المآسي التي يمر بها البلد، ولم يطلق الدعوة إلى التفكير في نظام بديل يمنع الطوائف كل ما نفختها جهات خارجية من الاستئثار بالبلد ومصيره من خلال توظيفه لصالح تلك الأخيرة ومصالحها الاستراتيجية فيصبح ولاء الطوائف لتلك الجهات الخارجية أكبر وأقوى من ولائها للوطن. ثم الأقلية التي تريد مواطنا محررا من القيد الطائفي لم تكن تنتظر من رئيس كنيسة الانتقال إلى ضفة العلمانية.
حسنا، ولكن كان يمكن للراعي أن يبقّ البحصة وأن يدين من باع كرسي بعبدا بثلاثين من فضة في اتفاق مار مخايل وأن يرفض ويدين إلحاق لبنان بالمحور الإيراني وجعله مقاطعة تحت إمرة خامنئي.
ربما كان هذا الرفض وتلك الإدانة أعادا بعضا من بريق مجد غابر.