فؤاد السنيورة : قرار التخلي عن الدولار والتوجه إلى الشرق غير قابل للتنفيذhttps://www.majalla.com/node/94936/%D9%81%D8%A4%D8%A7%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%86%D9%8A%D9%88%D8%B1%D8%A9-%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AE%D9%84%D9%8A-%D8%B9%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A7%D8%B1-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%88%D8%AC%D9%87-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B1%D9%82-%D8%BA%D9%8A%D8%B1-%D9%82%D8%A7%D8%A8%D9%84-%D9%84%D9%84%D8%AA%D9%86%D9%81%D9%8A%D8%B0
* كيف نطلب مساعدة إيران وسوريا وهما يعانيان من مشكلات مالية وعقوبات دولية * معالجة الأزمات الراهنة لن تتم بالمراهم بل بجراحة عاجلة لاستئصال الأمراض التي يعاني منها لبنان * الحكومة قررت عدم سداد الديون من دون خطة كاملة متفق عليها * لم يسمح حزب الله للحكومة ولم يوافق على أن تبدأ مفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي إلاّ متأخراً. في الوقت الذي كان الوهن والضعف يتفشّى وينتشر في جسم الاقتصاد اللبناني وفي ماليته العامة * الخطة التي نشرتها الحكومة والتي شارك في إعدادها بعض البيوتات المالية الدولية المختصة، لم يشترك أو يشارك فيها مصرف لبنان، ولا حتى جمعية المصارف ولا الفعاليات الاقتصادية * أما كان من الحكمة ومن الدراية أن يذهب لبنان فوراً إلى المعالجات الصحيحة للمشكلات عندما كان ذلك ممكناً وضرورياً * ما يحتاجه لبنان الآن وفوراً هو تأمين تدفقات مالية تسهم في تعزيز الثقة بالأوضاع النقدية * أثبتت الحكومة، للقاصي والداني، أنها ليست صاحبة القرار في لبنان، وأنها لا تتمتع بأي نوع من أنواع الاستقلالية * هناك حاجة ماسة لإصلاح منظومة الشراء العام، فالشراء العام هو أحد أبرز الإصلاحات الهيكليّة الضروريّة لتعزيز الحوكمة المالية وتحسين جودة الخدمات العامة
بيروت: واجه لبنان عبر تاريخه أزمات كثيرة، مر بحروب أهلية عدة واجتياحات إسرائيلية ووصاية سورية، تعرض لضغوط مختلفة واختبر الإفلاسات المصرفية، ولا سيما بنك أنترا في أواخر الستينات وعاني من انهيار سعر صرف الليرة وموجات التضخم المتفلت بين أعوام 1982 و1992 وعانى أيضا من تراكم العجوزات المالية والمديونية العالية والمكلفة.
اليوم يواجه لبنان أزمة أخرى تضاف إلى أزماته، ويشعر المواطن بالقلق ويعبر عن التشاؤم وفقدان الثقة بالحكم والحاكم وخوفه من الفشل في تجاوز الأزمة الحالية كما تجاوز الأزمات «المجلة» استضافت الرئيس فؤاد السنيورة الذي عاصر الكثير من الأزمات الماضية وهو في موقع المسؤولية سواء في وزارة المالية التي تسلمها أكثر من مرة أو في رئاسة الحكومة التي شغلها أعوام 2005 و2009.
السابقة، ما يطرح سؤالا عريضا وعاما: هل الأزمة الراهنة هي الأكبر والأصعب؟ هل هي الأسوأ؟ وهل هناك مخرج منها؟
وكان هذا الحوار الشيق والطويل، حيث تناول فيه الأوضاع المالية والاقتصادية والسياسية التي عرقلت ولا تزال تعرقل الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة من المجتمع الدولي ومن صندوق النقد الدولي والدول الخليجية والغربية الداعمة للبنان، كما تناول موضوع المفاوضات مع صندوق النقد الدولي والارتباك الذي ظهر من المسؤولين اللبنانيين المفاوضين والخلافات التي استعرت بين المستشارين، والمخاطر التي تحيط بلبنان بعد دخول «قانون قيصر» الأميركي حيز التنفيذ، وما يحتاجه لبنان للخروج من الأزمة العاصفة.
وهنا نص الحوار...
* هل تعتقدون أن قرار الحكومة اللبنانية بالامتناع عن سداد الدين كان لمصلحة لبنان والاقتصاد، وما هي الاضرار التي نتجت عن هذا القرار، وما هي السبل لمواجهته والتعاطي معه بشكل يخفف الأضرار؟
- لا بدّ لي بداية من أن أعود إلى التذكير بالمسار التاريخي السياسي للبنان خلال الأشهر التسعة الماضية، والتي كان لها انعكاسات وتداعيات تمثّلت بما أصبح يعانيه لبنان من مصاعب في الآونة الأخيرة. وفي مقدمة ذلك كان اندلاع الانتفاضة الشبابية في 17/10/2019، والتي استقال بنتيجتها الرئيس سعد الحريري في 30/10/2019. وبدلاً من أن يصار إلى المسارعة في إجراء الاستشارات النيابية الملزمة لتأليف الحكومة، كانت المماطلة والتلكؤ والتأخير المخالف للدستور من قبل فخامة الرئيس في عدم إجراء تلك الاستشارات النيابية الملزمة، والتي امتدّت لفترة تقارب الخمسين يوماً. ولقد جرى بعدها تكليف الرئيس حسان دياب بتشكيل الحكومة في 19/12/2019. وتألفت الحكومة بتاريخ 21/01/2020، ونالت الثقة بتاريخ 11/02/2020.
هذه التواريخ تبيّن أنه قد مضى أكثر من مائة يوم ما بين استقالة الرئيس سعد الحريري وبين تاريخ حصول حكومة الرئيس حسان دياب على الثقة في مجلس النواب. وفي أصل هذه المائة يوم كان نصفها تماماً هي الفترة التي أمضاها فخامة رئيس الجمهورية في القيام باستشارات مخالفة للدستور لأنها اكتسبت صفات التأليف قبل التكليف.
هذا المسار يعطي صورة واضحة عن الوقت الذي جرى تضييعه وتفويته على لبنان في أدقّ مرحلة من مراحل تاريخه الحديث. ذلك في الوقت الذي أصبح فيه جهد اليوم الواحد للبنان يعادل عمل سنة بكاملها. وذلك للدلالة على أهمية المسارعة. ومنذ استقالة الرئيس الحريري لوضع الأمور في نصابها في لبنان. ذلك مما حال دون البدء بتنفيذ المعالجات السريعة في الوقت الذي كان لبنان في أمسّ الحاجة إليها. وبالفعل، فقد تقصّد بعض المسؤولين وحاولوا بأدائهم التذاكي على اللبنانيين، ظناً منهم أنهم قادرون على ابتداع واختلاق أعراف جديدة. ذلك في الوقت الذي كانت تتفاقم فيه الأوضاع السياسية والاقتصادية المالية والنقدية في لبنان وتتدهور بتسارع غير مسبوق لتأخذ البلاد نحو السقوط في الهاوية.
تسلّمت الحكومة مسؤولياتها في مرحلة دقيقة ومفصلية، وهي كانت تعلم تمام العلم أنّ هناك قرارات هامة تنتظرها في شتّى المجالات، ولا سيما في المجالات الاقتصادية والمالية والنقدية والمعيشية. فضلاً عن حاجة لبنان الماسة إلى تصويب ورأب التصدع في العديد من الأمور السياسية، ولا سيما ما يتعلق بالعلاقات المتردية للبنان مع المجتمعين العربي والدولي.
أحد تلك الأمور المالية والاقتصادية العامة التي كان يقتضي البتّ بها سريعاً، كان في ما يتعلق باتخاذ قرار لجهة تسديد أو عدم تسديد الاستحقاق الداهم لبعض إصدارات سندات دين الخزينة Eurobonds بالعملة الأجنبية.
المُحيِّر أن الحكومة ورئيسها كانا على علم بأهمية وضرورة التوصل إلى قرار سريع بهذا الشأن. ذلك ما كان يقتضي برئيس الحكومة البدء بدراسة الأمر فور تكليفه لتشكيل الحكومة. وبعدها كان عليه أيضاً أن يقوم بذلك فور إحراز حكومته الثقة من مجلس النواب.
كذلك أيضاً، فقد كانت الحكومة ورئيسها على علم كامل برصيد مبالغ الاحتياطات الموجودة المتوفر للدولة اللبنانية في المصرف المركزي.
ومن المعلوم أنّه كان لدى رئيس الحكومة عدد من المستشارين، وكذلك كان من حوله وزيرا المالية والاقتصاد. هذا بالإضافة إلى وجود عدد من الأشخاص الأكثر معرفة بتلك المواضيع الداهمة، وهما حاكم المصرف المركزي ومدير عام وزارة المالية. مما كان يفترض بالحكومة ممثلّة برئيسها ووزيري المالية والاقتصاد ومدير عام وزارة المالية. وكان من المفروض على رئيس الحكومة أن يبادر فوراً إلى عقد الاجتماعات المكثّفة على صعيد السلطة التنفيذية مع من يراه مناسباً وضرورياً من أجل التوصل إلى اتخاذ القرار اللازم والحاسم من ضمن رؤية واضحة.
لقد عبّرت عن رأيي خلال الأسبوع الأول لنيل الحكومة الثقة أنه من الضروري المسارعة إلى مقاربة ملف الاستحقاقات الداهمة لسندات الخزينة Eurobonds بكل دقة ووفق رؤية صحيحة، حتى تتمكّن الحكومة من اتخاذ القرار المناسب. وهذه المسؤولية، وبشكل أساسي، تقع على عاتق الحكومة التي يجب أن يتولاها رئيسها بالتعاون مع مصرف لبنان والخبراء الماليين والقانونيين، وبالتشاور مع ممثلي الهيئات الاقتصادية وفي مقدمهم جمعية المصارف. كذلك أيضاً وبالتعاون مع خبراء صندوق النقد الدولي الذين لديهم مخزون كبير من التجارب الدولية والتطبيقات العملية لمواجهة أزمات مماثلة، وذلك استناداً إلى ما تعرّضت لها دول أخرى في أوقات سابقة. وجميع هؤلاء كان يجب أن يعملوا كفريق واحد برئاسة رئيس الحكومة من أجل الخروج بموقف واحد موحد يكون هو موقف الدولة اللبنانية.
شخصياً، كنت أرى ونصحت بعدم الدفع، ووجهة نظري في هذا الخصوص أنّ أضرار الامتناع عن التسديد هي أقل من تلك المترتبة على استنفاد جزء هام من الاحتياط النقدي الموجود لدى المصرف المركزي. ولكن رأيي بذلك كان ينبني على شرط أساسي وهو أن يكون القرار بعدم التسديد مستنداً إلى خطة لبنانية متكاملة لإعادة جدولة الدين بالتفاهم مع الدائنين الذين ينبغي على الحكومة أن تكون لديها المقاربة الصحيحة في التفاوض معهم. وبالتالي، إقناعهم بأنّ لبنان وفي تخلّفه عن التسديد، فإنّه جادّ ومصمّم على استثمار فترة السماح او التأجيل التي يطلبها منهم لاتخاذ إجراءات جذرية تُفضي الى تصحيح الأوضاع المتعثّرة من خلال جملة من الإصلاحات التي كان ينبغي البدء والمثابرة على تنفيذها، وذلك تمهيداً لمعاودة الإيفاء بالمتوجبات المالية على لبنان في مواعيدها المؤجلة.
لقد كان رأيي ونصيحتي للحكومة، بعدم تسديد قيمة السندات السيادية التي كانت ستستحق على الدولة اللبنانية، ناتجاً عما آلت إليه الأوضاع المالية والنقدية للدولة اللبنانية، والتي كان تردّيها يملي على الحكومة اللبنانية التوقف عن دفع المبالغ التي سوف تستحق من سندات اليوروبوند.
لقد أكّدت مراراً على أنّ هذا التوقف عن تسديد المبالغ المستحقة لا يجوز أن يكون بشكل غير منظّم، بل يجب أن يكون من ضمن التوافق على برنامج وخطة واضحة تبين فيها الحكومة من جهة أولى، للبنانيين وللدائنين وللمجتمعَيْن العربي والدولي وللمؤسسة الدولية المعنية حقيقة الأوضاع المالية والنقدية التي يعاني منها لبنان، وذلك بصورة واضحة. ومن جهة ثانية، أيضاً أن تبيّن ما ستقوم به الحكومة من إصلاحات تمكنها من الانطلاق نحو تصويب أوضاعها المالية والاقتصادية والنقدية وأيضاً الإدارية والقطاعية.
وشدّدت في حينها على أنّه لم يعد بالإمكان معالجة الأزمات الراهنة للبنان بالمراهم، وأن هناك حاجة إلى إجراء جراحة عاجلة لاستئصال تلك الأمراض التي أصبح يعاني منها لبنان، من خلال معالجات تستخدم فيها الحكومة مجموعة من الأدوية المالية والنقدية والإدارية والسياسية.
الخطة المتكاملة التي كنت أشجّع على اعتمادها كان يفترض بالحكومة اللبنانية المسارعة إلى البدء بتنفيذ الجوانب الإصلاحية منها، بما يمكن الدولة اللبنانية الاستفادة من حسنات إعادة برمجة المستحقات والدين العام بالعملات الأجنبية من جهة أولى التقليل من الانعكاسات والتداعيات السلبية لهذه العملية برمتها.
كما أبديت في حينها استغرابي لذلك الميل لدى البعض نحو شَيطنة صندوق النقد الدولي الذي تكمن أهميته الأساسية في أنه قادر على منح لبنان ختم الصدقية، خصوصاً بعد أن انحسرت مستويات الثقة والصدقية بالدولة اللبنانية، وكنت أعني بذلك الأحزاب التي تتكون منهم وفي مقدمها حزب الله.
ولذلك، فقد اقترحت على الحكومة، وقبل أن تتخذ القرار بعدم التسديد، أن يكون ذلك من ضمن تفاهم مع صندوق النقد الدولي. ومن هناك كانت بداية المشكلة وليس منتهاها. إذ أضاعت الحكومة على لبنان واللبنانيين فترة هامة لا تتكرر إن جرى تفويتها، إذ كان من الممكن استثمارها للبدء بالمعالجات الصحيحة لتلك الأوضاع المتدهورة.
السبب من ذلك، كان بداية نتيجة للتلكؤ والارتباك وقلّة الخبرة والدراية وانتفاء الرؤية وغياب القدرات القيادية لدى الحكومة ولدى من كانوا وراءها. وكذلك بسبب الضغوط والخطوط الحمر التي وضعها حزب الله على الحكومة اللبنانية لمنعها من التواصل أو التعاون مع صندوق النقد الدولي. كذلك أيضاً بسبب الاستعصاء المزمن على الإصلاح الذي ورثته هذه الحكومة ليس فقط من الحكومات السابقة، لا بل وأيضاً من ذات الأحزاب التي كانت ممثلة في تلك الحكومات السابقة، والتي تحتكر التمثيل في هذه الحكومة بكونهم كانوا وما زالوا يستعصون على الإصلاح، وكانوا يقفون حجر عثرة دونه على مدى سنوات طويلة وحتى الآن، وهم الذين حالوا في السابق دون تنفيذ البرامج الإصلاحية قبل أن يصبح تنفيذ هذه البرامج أكثر كلفة وأشدّ إيلاماً وأوجاعاً.
لم يسمح حزب الله للحكومة ولم يوافق على أن تبدأ مفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي إلاّ متأخراً. في الوقت الذي كان الوهن والضعف يتفشّى وينتشر في جسم الاقتصاد اللبناني وفي ماليته العامة، والذي أدّى إلى هذا الانهيار الكبير في الثقة ما بين المواطنين اللبنانيين والدولة والعهد والحكومة.
وما زاد في عمق المشكلات وتفاقمها الخلافات التي استعرت بين المستشارين وبين كل من وزارة المالية ووزارة الاقتصاد والبنك المركزي وجمعية المصارف حول طبيعة المقاربات لمعالجة المشكلات وعلى كيفية تحديد أرقام الخسائر المتراكمة.
الحقيقة أنّ تلك الخلافات ما كان ينبغي أن تنفجر لو أنّ رئيس الحكومة، والذي ينبغي أن يكون إلى جانبه، وزير المالية، وحاكم المصرف المركزي، حسموا أمرهم ومن البداية بالتوصل إلى تفاهم كامل ومتكامل حول الأرقام وحول المقاربات والسياسات التي يجب أن تتبناها الدولة اللبنانية، وبالتالي في تكوين القاعدة الصلبة لمباشرة الحديث والتباحث مع صندوق النقد الدولي والمجتمعين العربي والدولي. وبالتالي تجنب السماح للتباين والخلاف أن يظهر إلى العلن ليكون للبنان موقف موحّد يمكن أن يتم التفاوض على أساس منه.
ذلك كلّه لم يحصل، لا بل وياللأسف اندلع الخلاف ودخل على الخط ليس فقط كل من كانت له صفة ومنهم في مجلس النواب، وبل أيضاً كل من لم يكن وليس لديه أي صفة أو معرفة أو خبرة مالية.
وذلك كان يحصل وياللأسف بعد أن أخذت الحكومة قرارها بالتخلّف عن الدفع دون أن تكون لديها خطة تلتزم بها. وهي الآن أصبحت في وضع لم تعد تعلم ماذا عليها أن تقوم به. ذلك أنّ الخطة التي نشرتها الحكومة والتي شارك في إعدادها بعض البيوتات المالية الدولية المختصة، لم يشترك أو يشارك فيها مصرف لبنان، ولا حتى جمعية المصارف ولا الفعاليات الاقتصادية، وهم الذين كان يفترض مشاركتهم في صناعة تلك الخطة.
المشكلة الأدهى، أنّ هذه الحكومة، وبعد أن اتخذت القرار بالتخلف عن الدفع ومن دون وجود خطة متكاملة متفق عليها مع كل الفرقاء المعنيين للخروج من المأزق الكبير الذي أصبح لبنان في خضمه، وذلك بما يجنبه الوقوع في إشكالات لاحقة، فإنّ الحكومة لم تبادر إلى إجراء الإصلاحات، ولا سيما تلك التي كانت جاهزة أو التي تسمى الثمار القريبة التناول (Low Hanging Fruits) وهي معروفة. ومن ضمنها وعلى سبيل المثال لا الحصر الكهرباء والقضاء وآلية التعيينات.
هذا مع العلم أنّ الحكومة كانت تعلم تمام العلم أنّ اللبنانيين، وكذلك الأشقاء والأصدقاء في العالم كانوا قد سئموا وضجّوا وضاق صدرهم وهم يطالبون الحكومة اللبنانية بالمبادرة بالبدء بتنفيذ عدد من الإصلاحات ودونما أي تأخير. لكن تلك النصائح كانت تذهب أدراج الرياح ومن دون أي تجاوب من قبل العهد ولا من قبل الحكومة.
كذلك، فإنّ العهد كان قد سمع قبلاً وسمعت الحكومة فور تأليفها أن لا أمل يرتجى من قبل لبنان واللبنانيين، لجهة الحصول على أي دعم من أشقائهم وأصدقائهم قبل أن تبادر الحكومة اللبنانية إلى إجراء الإصلاحات: «ولكن على من تقرأ مزاميرك يا داوود».
الطامّة الكبرى هي أنّ الحكومة وحتى هذا التاريخ لم تبادر إلى القيام بأي خطوة إصلاحية في هذا المجال.
فهي قد أخذت القرار بالامتناع عن الدفع دون أن يكون لديها شبكات الأمان اللازمة، ومن ضمنها البدء بالتباحث مع صندوق النقد الدولي وأيضاً المسارعة إلى التعبير العملي عن الالتزام والجدية من خلال المباشرة في تنفيذ الإصلاحات.
بدلاً من ذلك، انشغلت الحكومة في مطاردة الأشباح (Witch Hunting)، وذلك في إلقاء التهم يميناً ويساراً على فترة ثلاثين سنة ماضية، مع أنّ تلك الأحزاب الممثلة في هذه الحكومة كانت قد شاركت في معظم حكومات تلك الفترة وهم يتحملون الجانب الأكبر من ذنوب الاستعصاء على الإصلاح.
وبدلاً من العمل على استنهاض الرأي العام الداعم لموقف الحكومة من خلال المبادرة إلى العمل على التواصل مع جميع الفرقاء في لبنان بما يجتذب الجميع إلى الوقوف إلى جانبها، فهي قد انشغلت بإطلاق سلسلة من الاتهامات التي أدّت إلى توتير الأجواء ولم تحقق أي نتيجة عملية. ومع ذلك، استمرت الحكومة في الاستعصاء وما زالت كذلك حتى الآن. هذا في الوقت الذي تزداد فيه الأزمات استفحالاً وعمقاً، وتزداد الأكلاف والأوجاع والمعاناة التي يتحمّلها لبنان ولا يطيقها.
هذه الحال أشبه ما تكون بطرفة تُروى عن حال مذنب ثبتت إدانته وحكم عليه القاضي بالتالي بتنفيذ عقوبة. ولكن القاضي أتاح للمذنب المجال ليختار واحدة من بين ثلاث عقوبات الثالثة منها كانت غرامة نقدية. إلاّ أنّ المذنب، وبسبب سوء تبصره اختار العقوبة الأولى دون أن يعي مقدار تحمله لهذا الخيار الأول، ونظراً لصعوبته اضطر المذنب إلى التخلي عنه ليقبل بتحمل العقوبة الثانية التي كانت أقسى من الأولى، والذي اضطرّ بعدها المذنب للتخلي عنها ليقبل بالعقوبة الثالثة، وهي دفع الغرامة النقدية. ولكن كان ذلك بعد أن ناله ما ناله من مشقّة وعذاب قاسى منهما الأمرين في تحمله للعقوبة الأولى والثانية ليضطر المذنب بعدها إلى أن يرضى بالعقوبة الثالثة، وهي الغرامة النقدية التي اقترحها القاضي.
المضحك المبكي في ذلك أنّ المذنب كان بإمكانه أن يذهب فوراً ويختار العقوبة الثالثة، وهي العقوبة النقدية مع مشقاتها دون أن يضطر وبسبب سوء تبصره إلى أن يتحمل كذلك المعاناة والمشقة لتنفيذ العقوبتين الأولى والثانية.
أما كان من الحكمة ومن الدراية أن يذهب لبنان فوراً إلى المعالجات الصحيحة للمشكلات عندما كان ذلك ممكناً وضرورياً وأن يقبل بأن يتحمل بعض المشقة في ذلك آنذاك بدلاً من اضطراره لأن يتحمل المشقات الثلاث الآن. وبالتالي أن يبدأ بتنفيذ الإصلاحات التي طال انتظارها من قبل اللبنانيين ومن قبل أشقائنا في العالم العربي وأصدقائنا في العالم وهم الذين يرغبون بمساعدتنا ولكنهم يطلبون منا بداية أن نساعد أنفسنا وهو ما لم يفعله المسؤولون في لبنان عندما كان بإمكانهم أن يقوموا بذلك.
قانون قيصر والمخاطر
* ما هي المخاطر التي تحيط بلبنان بعد دخول «قانون قيصر» حيز التنفيذ، وما هي الخطوات المطلوبة لإبعاد شبح العقوبات عن البلد؟
- قانون قيصر هو قانون أميركي تنفذه الإدارة الأميركية، وهو ليس قانوناً دولياً. ومن ثمّ، فإنّ هذا القانون ليس ملزِماً لأحد من الناحية القانونية لأنه ليس قانوناً دولياً يتوجب على جميع دول العالم الالتزام به.
قانون قيصر قانون أقرّه الكونغرس ومجلس الشيوخ الأميركي، والذي تفرض بموجبه الولايات المتحدة الأميركية عقوبات على كل من يتعاون مع النظام السوري وأي من مؤسساته.
وعلى ما يبدو فإنّ الإدارة الأميركية قادرة على تنفيذ هذا القانون بشكلٍ مباشر أو غير مباشر على كل من يتعامل مع الولايات المتحدة الأميركية بشكل مباشر أو غير مباشر. ذلك بما يشير إلى اتساع مساحة مروحة الدول والشركات والمؤسسات والأفراد الذين يطالهم هذا القانون وتطالهم انعكاساته وتداعياته، وبالتالي اضطرارهم جميعاً إلى التقيد بموجباته.
ذلك مما يعني أنه من الصعوبة بمكان كبير التهرب من تطبيق هذا القانون. وبالتالي، فإنّ جميع الدول التي تنظر في امر الالتزام او عدم الالتزام بهذا القانون، فإنّ ذلك يكون استناداً إلى تقييمها لمصالحها، واستناداً إلى مقدار التأثر بهذا القانون والحاجة إلى الالتزام به والمخاطر الكبيرة الناتجة عن عدم القيام بذلك.
لا شكّ أنّ لبنان بكونه بلدا عربيا، وبسبب وجوده كجار لسوريا من ناحية الجغرافيا، فإنّ الالتزام أو عدم الالتزام بهذا القانون له انعكاسات وتداعيات كبيرة على لبنان لأنّ هناك الكثير من المصالح والعلاقات المباشرة بين لبنان وسوريا.
وبالتالي، فإنّه ينبغي على الحكومة اللبنانية أن تدرس بعناية كيفية التعامل مع هذه الحالة الشديدة الصعوبة، والمفخخة بالكثير من الألغام، والتي تحمل معها الكثير من المخاطر على لبنان.
لذلك فإنه ينبغي على الحكومة اللبنانية، وفي ضوء تقييمها للأمور، ولا سيما في ضوء حرصها على أداء واجباتها وتنفيذ التزاماتها في حماية اللبنانيين وحماية مصالح لبنان، وحتى لا يتأثر لبنان سلبا بذلك، أن تتبصر بكل خطوة تخطوها في هذا المجال.
ولا شكّ أن بدء الالتزام بقانون قيصر سيكون له انعكاساته السلبية على سعر صرف الليرة اللبنانية وحتما على سعر صرف الليرة السورية، وكذلك أيضاً على مروحة واسعة من الأمور والقطاعات التي تطالها مفاعيل هذا القانون.
تجدر الإشارة هنا إلى أنّ ما يعانيه لبنان فيما خصّ ارتفاع سعر صرف الدولار تجاه الليرة اللبنانية ليس ناتجاً عن قانون قيصر فقط. فلبنان كان يعاني من مشكلات كبيرة على مدى سنوات طويلة بسبب استعصاء الحكومات والمجالس النيابية عن القيام بالإصلاحات المطلوبة التي يحتاجها لبنان من أجل أن يتلاءم مع المتغيرات والتحولات الاقتصادية والمالية والسياسية في العالم، وأن هذه الصعوبات آخذة في الازدياد والتفاقم نتيجة التقاعس والتلكؤ وعدم المبادرة وقلّة الدراية والرؤية والمقدرة القيادية.
باختصار أرى وجوب أن تبادر الحكومة اللبنانية إلى دراسة الأمر بعناية، وبالتالي أن تبادر إلى إجراء الاتصالات بالجهات المعنية في الولايات المتحدة للنظر في إمكانية حصول لبنان على استثناءات محددة تكون في صالح لبنان واللبنانيين فيما خصّ علاقته مع سوريا.
التجربة الفنزويلية
*هناك من يطالب الدولة بالتخلي عن التعامل بالدولار الأميركي والانفتاح على الشرق والتعامل بالعملة اللبنانية، ما رأيكم في هذا الحل؟
-لا يصنّف هذا الكلام في خانة الكلام الجدّي. فليس بالإمكان لبلد مثل لبنان بحجم اقتصاده وبوضعه أن يتخلّى عن الدولار الأميركي، أو عن العملات الدولية الأخرى كاليورو والفرنك السويسري والين الياباني والجنيه الإسترليني، ولا سيما أنّ الدستور اللبناني ينصّ على أنّ النظام الاقتصادي اللبناني حرّ ويكفل المبادرة الفردية والملكية الخاصة.
من جانب أول، فإنّ الغالبية الساحقة لمستوردات لبنان، حتى تلك المستوردة من دول الشرق الأقصى، مثل الصين وكوريا واليابان، هي مسعّرة بالدولار الأميركي أو بباقي العملات الأوروبية أو الين الياباني. هذا بينما غالبية صادرات لبنان السلعية تصدر إلى بلدان تعتمد الدولار الأميركي كأساس لتسعير عملاتها.
من جانب آخر وبما يتعلق بالتدفقات المالية التي يحصل عليها لبنان لقاء صادراته من الخدمات التي يقدمها أو من خلال التدفقات المالية الأخرى، فإنّ غالبيتها الساحقة هي محررة بالعملات كالدولار الأميركي أو اليورو أو الفرنك السويسري والجنيه الإسترليني. ولذلك، فإنّ هذا الطرح ليس جدياً وغير قابل للتنفيذ. ولبنان يكفيه ما يعانيه من مآس وويلات وهو ليس بحاجة إلى تجارب جديدة تكون فاشلة أن يتسبب لنفسه بالتالي بمشكلات جديدة.
أما أن يتحول لبنان إلى دول مثل سوريا وإيران لطلب المعونة والمساعدة، فإنّ هذان البلدان يعانيان أصلاً من صعوبات مالية واقتصادية جمة. كما أنهما يعانيان من مشكلات وعقوبات دولية قد ترتد على لبنان إذا لم يقم لبنان بالتبصّر في تحديد طبيعة العلاقات الاقتصادية مع هذين البلدين.
كذلك، ومن جهة أخرى، فإن الإمكانات الاقتصادية والمالية لهذين البلدين هي جدّ محدودة، وبالتالي لا أمل يرجى من ذلك بغضّ النظر عن الضجيج الإعلامي الذي يروجه البعض بشأن هذا التعاون ومنافعه.
هناك مثل عامي يقول: «إذا استجار المهري بالمستوي فلا أمل كبيرا في أن يحصل أي منهما على النتائج التي يرجوها». وهذا يعني أنّ لبنان إذا كان يريد الذهاب لطلب المعونة من إيران أو سوريا حتى تساعد كل منهما، فإنه وعلى الأرجح لن يلقَ ما يَسُدُّ به رمقه.
ما هو المجال أو طبيعة المساعدة الذي يمكن ان تقدمها إيران أو سوريا إلى لبنان؟ أكاد لا أرى أنّ هناك ما يمكن ان تقدمه كل من إيران وسوريا له، ولا سيما ما هو بحاجة إليه الآن من تدفقات مالية لاستعادة الثقة بعملته المنهارة. على العكس من ذلك، ليس لدى أي من البلدين، وعلى الصعيد الاقتصادي والمادي إلاّ المزيد من المشكلات التي تزيد من حجم المشكلات المتعاظمة لدى لبنان، وهما في هذه الأحوال السائدة الآن لا يقدمان للبنان شيئاً أساسياً سوى المزيد من الإفقار، والمزيد من التردي، والمزيد من التخريب لنظام لبنان الاقتصادي ولنظامه السياسي.
السيد حسن نصر الله يتحدث عن أهمية التعامل واللجوء إلى الصين. من المفيد هنا التذكير أنّ أهم وأكبر شريك تجاري للبنان في العالم هي الصين. وبالتالي لا حاجة للحديث عن انفتاح لبنان على التجارة مع الصين. فهذا كان من أهمّ سمات النظام الاقتصادي اللبناني ومنذ الخمسينات من القرن الماضي، حيث كان لبنان من أوائل الدول في العالم التي انفتحت على الصين بالذات.
أما إذا كان السيد نصر الله صحيحاً في تحليله عن استعداد الصين لمساعدة لبنان، فإنه وبدل أن يحدثنا عن أوهام المساعدات، لماذا لا يستعمل نفوذه وسلطته، فلربما يمكن له أن يقنع الصين بأن تودع عدة مليارات من الدولارات في البنك المركزي اللبناني من أجل تعزيز الثقة بالأوضاع النقدية في لبنان وبما يؤدي إلى استعادة الثقة والاستقرار النقدي الذي يفتقده لبنان الآن.
هذا إذا كان فعلياً أن السيد حسن نصر الله يريد أن يساعد لبنان، وحتى لا يصار إلى الضياع في متاهات الأوهام التي لا تنتج شيئاً ملموساً.
أما بشأن مشاركة الصين في المشاريع الإعمارية، فهو أمر مطلوب ومرغوب ولا صحة لأي قول إن لبنان يضع العراقيل في وجه الصين لمشاركتها بذلك. وإن كنت أعتقد أن الصين لا تمول تنفيذ مشاريع للبنان في هذا الوقت الذي يعاني منه لبنان من عدم استقرار، ولا سيما بعد النكوص الأخير للبنان في عدم تسديد المستحقات على سندات الخزينة، وأيضاً بسبب عدم قيام الحكومة اللبنانية بأي إصلاح حتى الآن. وعلى أي حال، وأياً كانت طبيعة تلك المساعدة أو المشاركة التي يمكن أن يحصل عليها لبنان من الصين لجهة تنفيذ مشروعات تنموية على أن يتم تمويلها بقروض أو من خلال منظومة BOT أو غيرها، فإنّ هذا الأمر لا يمكن أن يتم دون أن يبدأ لبنان باستعادة استقراره ومن ذلك مباشرته عملياً في تنفيذ برامجه الإصلاحية. ومن ضمن ذلك التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي الذي يوفر للبنان ختم استعادة الثقة Seal of Confidence.
في الحقيقة، فإنّ ما يحتاجه لبنان الآن وفوراً هو تأمين تدفقات مالية تسهم في تعزيز الثقة بالأوضاع النقدية. هذا يعني أن الأمر الملح الآن ليس من يشارك في تنفيذ بعض المشاريع الإنشائية على أهميتها.
وبالتالي، فإنّ حصول لبنان على التدفقات المالية المنشودة أو على من ينفذ المشاريع الإنشائية ومن ذلك عروض مؤتمر سيدر، فإنّ ذلك كلّه يقتضي أن يبادر لبنان فوراً إلى تنفيذ الإصلاحات بما يؤدي إلى تحسين المُناخات الاستثمارية في لبنان. وهذا ما يطالب به جميع المستثمرين في الصين أو في باقي دول العالم الشقيقة والصديقة.
أمر آخر، الصين لم تثبت يوما بأنها «كرمٌ على درب»، ولا بأي بلد بالعالم تعاملت معه الصين. طبيعي هذه هي سياستها وأنا لا أريد أن أتدخل أو أشيد أو انتقد سياساتها. فهي في العادة تتعامل مع جميع البلدان على أساس تجاري بحت. ولذلك، فنحن لم نرَ ولا في بلد في العالم ان تصرفت الصين بهذا الكرم الحاتمي ولم يُشْهد لها في أي بلد بالعالم بهذا التصرف. هذا علماً أنّ الصين عندما تقوم بتنفيذ مشاريع إنشائية في العالم، فإنها تأتي بعمال صينيين على مختلف المراتب والمستويات. وهي لا توظف أو تستخدم إلاّ النذر اليسير من مواطني البلد الذي تنفذ فيه هذه المشاريع.
بالمناسبة، لدى الصين مشاريع عديدة تعمل على تنفيذها في المنطقة العربية، وهي قد كسبتها بشكل تنافسي. ولا أعتقد ولا يجوز أن يكون هناك ما يحول دون مشاركتها في تنفيذ أي مشاريع إنشائية بشكل تنافسي بأي من الطرق التي يمكن أن تكون ملائمة للبنان.
لذلك، وبدل أن يقول السيد حسن نصر الله للبنانيين اذهبوا إلى الصين فكم من المفيد أن يقول للبنانيين تعالوا أنا وإياكم لنذهب سوية إلى عملية الإصلاح الحقيقي. تعالوا لنذهب أنا وإياكم من اجل تعزيز دور الدولة اللبنانية وبسط وتعزيز سلطتها على كامل الأراضي اللبنانية. المؤسف أنّ ما يمارسه السيد حسن نصر الله يتركّز في عمله على تعزيز قبضة حزبه على الدولة اللبنانية حتى تصبح الدولة رهينة الدويلة التي أنشأها حزب الله.
هذا هو الإصلاح الواجب القيام به، وإذا كان حزب الله يريد أن يسهم في تحقيق الإصلاح المنشود فهذه هي الطريقة الوحيدة وعبثاً في حال انتفائها يبني البناءون.
الخروج من المأزق
* ما هي برأيكم التوجهات الاقتصادية والمالية الواجب اتباعها لخروج لبنان من المأزق الحالي الاقتصادي والمالي؟
- هناك مشكلات كبيرة ومستفحلة يعاني منها لبنان، ولا يمكن للبنان تحمّل استمرار هذه المشكلات أو تفاقمها دون أن يبادر إلى القيام بالمعالجات المطلوبة. فالحالة اليوم في لبنان قد أصبحت مثل حالة المريض الذي تكاثرت عليه مجموعة من الأمراض وأصبح لديه ما يسمى بالاشتراكات. ولكي تتم معالجة هذا الوضع الخطير، فإنّ الواجب يقضي بالمسؤولين في لبنان التوجه نحو وضع لبنان في الاتجاه الذي يمكّنه من البدء باستعادة اللبنانيين للثقة بالدولة اللبنانية، وكذلك استعادة الأشقاء العرب والأصدقاء في العالم للثقة بها. هذا يعني أنّ هناك مجموعة من الأدوية على لبنان واللبنانيين أن يستعينوا بها ويتناولونها وأن يداوموا عليها حتى يبرأوا من هذه الأمراض المالية والاقتصادية والنقدية المتكاثرة عليهم. وهذا يعني اتخاذ الإجراءات الضرورية التي تتضمنها تلك الأدوية: الأدوية المالية، والأدوية النقدية، والأدوية القطاعية، والأدوية الإدارية، والتي من المفروض أن يعتمدها لبنان لكي يسلك الطريق الطويل المؤدي إلى استعادة عافيته.
للأسف، إنّ جميع هذه الأدوية التي يجب تناولها جميعها من ضمن ضميمة واحدة قد أصبحت غير كافية. فالذي كان بالإمكان معالجته قبل سنوات باستعمال بعض المراهم أصبحت تلك المراهم الآن غير كافية ولا يجدي استعمالها لوحدها.
وبالإضافة إلى جميع تلك الأدوية، فإنّ الحاجة أصبحت ماسة أيضاً وأيضاً لاستعمال وتناول الأدوية السياسية، وهي التي تأخذ لبنان واللبنانيين نحو الاتجاه الصحيح من خلال تصويب بوصلته ولكي يكون للبنان إدارة صحيحة لشؤونه العامة، وبما يعطي الانطباع لدى اللبنانيين ولدى أشقائهم وأصدقائهم في العالم أن دولتهم عازمة فعلاً على معالجة مشكلاتها. فهناك مشكلات تتعلق بمقاربات الحكم والحكومة للأمور، والتي ينبغي النظر فيها ملياً لاستعادة السكينة والاستقرار لدى اللبنانيين، وأيضاً لاستعادة التوازن الصحيح الذي اختل في الداخل، وكذلك لاستعادة التوازن الذي اختلّ في الخارج، ولا سيما في علاقات لبنان مع باقي الدول في المجتمعين العربي والدولي.
هناك رسائل محددة على المسؤولين البدء بإرسالها، وهي كفيلة بتظهير التوجهات الصحيحة، وبما يؤكد أن لبنان لديه الإرادة والتصميم بأنه سوف يستمر في سلوك الطريق نحو التقدم على المسارات الإصلاحية.
على سبيل المثال، هناك رسائل ينبغي على فخامة رئيس الجمهورية وعلى الحكومة أن يبادرا سوية إلى إرسالها بطريقة واضحة وصريحة، وهي رسائل تعطي صورة واضحة ويقينية عن أن لبنان عازم ومصمّم على أن يعالج مشكلاته.
الأمر الأول، التوقف عن بهدلة القضاء وشرشحته، كما يجري الآن، والتوقف عن استزلام القضاء للسياسيين. فهذه التشكيلات القضائية المجمّدة مضافاً إليها كل الممارسات التي تسهم ببهدلة وشرشحة واستتباع القضاء للسياسيين يجب أن تنتهي وأن تتوقف فوراً.
التشكيلات القضائية يجب أن تتم وأن تتم اليوم قبل الغد، وذلك حتى يصار إلى إرسال رسالة واضحة إلى اللبنانيين والى المجتمَعْين العربي والدولي بأن لبنان بلد يحترم نفسه ويحترم قوانينه ويحترم استقلالية القضاء.
الأمر الثاني، هو أن تنفذ الحكومة القرارات الإصلاحية الصحيحة بشأن موضوع الكهرباء. في هذا الشأن، لم يبقَ أحد في لبنان، ولا لدى الأشقاء في العالم العربي، أو لدى أصدقاء لبنان في العالم، إلا ونصح اللبنانيين والحكومة اللبنانية بضرورة معالجة مشكلة الكهرباء، والمسارعة إلى تطبيق قانون الكهرباء. للأسف، لم تكن هناك من استجابة لدى العهد ولدى الحكومة للقيام بذلك. وهذا الواقع ما زال مستمراً على مدى العديد من السنوات الماضية وما زال الاستعصاء قائماً حتى الآن.
المؤسف أنه وقبل أسبوعين، تجرأت الحكومة وأخذت قراراً خلال اجتماع رسمي بموضوع معمل كهرباء سلعاتا الذي أصبح عملياً أمراً غير قابل للتنفيذ، وذلك بأن بادرت الحكومة إلى صرف النظر عن إنشاء هذا المعمل. ولكن الأمر لم يطل بعد ذلك بيومين، وهو الأمر الذي يظهر مدى العناد والاستعصاء الذي يعاني منه لبنان. فلقد أُجْبِرتْ الحكومة من قبل فخامة رئيس الجمهورية على التراجع عن القرار الذي أخذته. وبذلك أثبتت الحكومة، للقاصي والداني، أنها ليست صاحبة القرار في لبنان، وأنها لا تتمتع بأي نوع من أنواع الاستقلالية. وفي ذلك يتبين أنّ تراجعها عن هذا القرار وعدم مبادرتها لإصلاح قطاع الكهرباء حتى الآن ما هو إلاّ عيّنة من عينات الأدوية القطاعية التي ينبغي على الحكومة أن تقوم بتنفيذها.
هناك مثلاً ثلاثة قوانين قطاعية أساسية ما زالت وحتى الآن غير مطبقة، وهي التي صدرت قبل 18 سنة، وهي قوانين الكهرباء والاتصالات والطيران المدني والذي من الواجب الشروع فوراً بتنفيذها ويُسْألُ عن سبب عدم تنفيذها الوزراء من التيار الوطني الحر وحزب الله وغيرهم الذين لم يسمحوا حتى الآن بتنفيذه وعلى الأقل منذ اثني عشر عاماً.
الأمر الثالث، يتعلق بقانون أصدره مجلس النواب مؤخراً ويتعلق بموضوع إعادة الاعتبار للإدارة اللبنانية بترشيقها وزيادة فعاليتها وتحسين مستويات ونوعية أدائها. وهذا يعني التأكيد على الالتزام بمعايير الكفاءة والجدارة والاستحقاق والتنافسية والشفافية في إيلاء المسؤولية في إدارات الدولة ومؤسساتها لأكْفائها.
ما الذي حدث؟ فلقد أقرّ مجلس النواب القانون الجديد الذي يحدّد آلية تنافسية وشفافة للتعيين. المؤسف أنّ الحكومة أصرّت على عدم نشر القانون حتى تتمكن الأحزاب الممثَّلة بالحكومة من إجراء التعيينات الجديدة على هواها وبما يتيح لتلك الأحزاب تقاسم تلك المراكز الشاغرة بما يوافق مصالح تلك الأحزاب وبما يمكنهم من زيادة سلطتهم وقبضتهم على الدولة اللبنانية بإداراتها ومؤسساتها. وهذا ما يدلّ على مدى استزلام واستتباع الدولة اللبنانية بإداراتها ومؤسساتها للأحزاب السياسية والطائفية والمذهبية.
المحزن في ذلك هو تفاقم أحوال الإدارة اللبنانية ومعها أحوال الدولة اللبنانية التي أصبحت أشلاء يتقاسمها أصحاب النفوذ وتتقاسمها الأحزاب الطائفية والمذهبية. وفي ذلك يدفع الاقتصاد اللبناني والمواطنون اللبنانيون الثمن الباهظ من حاضرهم ومستقبلهم.
الأمر الرابع، هناك حاجة ماسة لإصلاح منظومة الشراء العام. فالشراء العام هو أحد أبرز الإصلاحات الهيكليّة الضروريّة لتعزيز الحوكمة المالية وتحسين جودة الخدمات العامة، وجذب الاستثمارات، وتعزيز الشفافية، ودعم جهود مكافحة الفساد وإهدار المال العام، لاسيما وأن لبنان في تراجع مدوٍّ على مستوى مؤشرات مدركات الفساد، والتنافسية وسهولة القيام بالاستثمار ومزاولة الأعمال.
إنّ إصلاح منظومة الشراء العام يعتبر خطوة أساسية يتم فيها الاستجابة لمصالح لبنان واللبنانيين وفي ذات الوقت تشكّل شرطاً أساسياً للتقدّم على مسار الحصول على الدعم من صندوق النقد الدولي، ولتمويل برامج الإنفاق الاستثماري في القطاعات الحيويّة التي تساهم في إعادة إحياء الاقتصاد الوطني واستعادة النمو الاقتصادي والتنمية المناطقية وخلق فرص العمل الجديدة للعديد من اللبنانيين.
الأمر الخامس، لقد سمع اللبنانيون كثيراً عن التزام الحكومة في جميع البيانات الوزارية بأنها ملتزمة بسياسة النأي بالنفس.
للأسف، لم يجد اللبنانيون أنّ الحكومة قد التزمت بتلك السياسة خلال السنوات العشر الماضية. ولقد فُجِعَ الأشقاء والأصدقاء بأنّ الحكومة اللبنانية لا تحترم بيانها الوزاري في مسألة النأي بالنفس. ولقد تزايدت فجيعتهم بكون الحكومة تمارس عكس ذلك. ويبدو ذلك واضحاً من خلال تورط حزب الله ومعه يتفاقم تورط الدولة اللبنانية في هذه التدخلات الحاصلة من قِبَله في سوريا وفي العراق وفي اليمن وفي أكثر من بلد عربي وعلى الأقل منذ العام 2011.
لم تقتصر المشكلة على تلك التدخلات، ولكن الأمر تعدَّاها حيث أصبحت الحكومة وفي طريقة أدائها تؤدي إلى التسبب بإحداث، وكذلك بتفاقم الخلل في التوازنات الداخلية في لبنان، وكذلك في تفاقم التوازنات الخارجية في سياسة لبنان الخارجية، ولا سيما فيما خصّ علاقات لبنان مع الأشقاء العرب ومع أصدقائه في العالم.
الأمر السادس، كم يكون مفيداً لو أن فخامة رئيس الجمهورية يبادر إلى القول أنّه على استعداد للدعوة إلى لقاء وطني للبحث بالاستراتيجية الدفاعية التي ينبغي أن يتوصل إليها بالتعاون بين جميع الفرقاء السياسيين بما يجعل من الممكن أن يصار إلى استعادة الثقة بالدولة اللبنانية وبهيبتها وسلطتها.
لا أبالغ حين أقول إنه بالإمكان إذا حصل ذلك أن نرى مدى الانعكاس الإيجابي لمثل هذا التوجه لجهة التقدم الصحيح على مسار استعادة الثقة لدى اللبنانيين ولدى الأشقاء العرب والأصدقاء في العالم بالدولة اللبنانية بالعهد وبالحكومة. ولا سيما التقدم على مسارات هذه المجالات الستة، والتي ذكرتها على سبيل المثال وليس على سبيل الحصر، والتي هي كفيلة بإعطاء الإشارات الأولى على التغيير الإيجابي الذي يمكن أن يحصل على المُناخات التي تصبح عندها مؤاتية للبدء في استعادة الثقة بالدولة اللبنانية.
للأسف، وعلى العكس من ذلك كلّه، فإننا نرى المواقف التي تتخذها الحكومة، والتي يبدو أنها تُفتعل عن سابق إصرار وتصميم وتتسبب بإيجاد مشكلات جديدة، وذلك لحرف الانتباه عن المشكلات الحقيقية.
ولذلك، فإننا نرى أن هناك من يحاول أن يفتعل صدامات ومواجهات بين اللبنانيين بعضهم ببعض، ويجعلهم واقعين تحت تأثير التهويل الدائم للسلاح ولسطوته ولتأثيرات وهجه. وبالتالي الاضطرار إلى الانصياع له خشية وقوع الصدامات الداخلية، أو تجنباً لافتعال الفتن الطائفية.
المسارات الصحيحة نحو الحلول الحقيقية لمشكلات اللبنانيين هي في العودة من جديد الى الأصول، ولا سيما في العودة إلى احترام اتفاق الطائف واستكمال تطبيقه، وإلى احترام الدستور، والعودة إلى احترام القوانين واحترام مصلحة الدولة اللبنانية وسلطتها الكاملة على جميع أراضيها، والتأكيد على احترام الشرعيات الوطنية والعربية والدولية، والعودة إلى احترام الكفاءة والجدارة بتسليم المسؤوليات إلى أكفائها والتأكيد على استقلالية القضاء.