* من الواضح أن تعثر لبنان سياسياً واقتصادياً واجتماعياً على مدى سنينه المائة الأولى يعود تحديداً إلى فشل نموذجه المبني أساساً على مبدأ المحاصصة الطائفية. وليس الكلام عن ضرورة المحافظة عليه إلا محاولة بائسة لاستجداء مساعدة الغرب
سبب هذا المقال مؤتمر صحافي لصهر رئيس جمهورية لبنان، تطرق فيه إلى فكرة خوف إسرائيل من منافسة الموارنة لهم في المنطقة، وضرورة مساعدة الغرب لبنان للمحافظة على نموذجه السياسي. تلك الفكرة لطالما رددها بعض أقطاب المسيحيين باقتناع تام، مؤكدين سعي إسرائيل الدائم لتدمير «النموذج»اللبناني بما أنه يضعف حجة يهودية دولة إسرائيل ويبرهن على إمكانية تطبيق مبدأ التعددية الدينية السياسية، على غرار بلاد الأرز. هذا ما يقولونه.
في هذا المجال، فإن علاقة الموارنة مع اليهود كأقليات دينية في هذا الشرق هي سابقة لنشوء دولة إسرائيل، كما الكيانات الأخرى التي سبقتها أو تلتها. وتمحورت تلك العلاقة على مبدأ تحالف الأقليات ضد الأكثرية «المسلمة»بشكل مبسط.
انقطعت تلك العلاقة مع إعلان نشوء دولة إسرائيل، ثم ما لبثت وتجددت مع بدء الحرب الأهلية اللبنانية في العام 1975، وأخذت شكل تعاون عسكري، وصولا، مع قائد القوات اللبنانية بشير الجميل، إلى اتفاق سياسي يتضمن إعلان سلام بين البلدين، بُعيد تسلمه رئاسة الجمهورية. مع اغتيال الرئيس بشير الجميل وتسلم أخيه أمين زمام السلطة في لبنان، ساءت تلك العلاقة بشكل كبير وأساسي.
يروي جورج فريحة، مدير مكتب بشير الجميل، ومن بعده أمين لمائة يوم فقط، في كتابه «قصتي مع بشير»،عن ديفيد كمحي الذي زاره في منزله، وتحذيره له من مغبة عدم التزام الرئيس أمين الجميل بمقررات نهارية وبكفيا التي وافق عليها في اجتماعه والقيادة الإسرائيلية في بيت المستقبل في النقاش بُعيد اغتيال شقيقه. قال كمحي لفريحة إنها ستكون نهاية المسيحيين في لبنان.
لتبرير تخلفهم عن التزامهم توقيع معاهدة سلام مع إسرائيل، أثار الموارنة موضوع خوف «اليهود»من منافستهم لهم في المنطقة، وسعيهم الدائم لتدمير «النموذج»اللبناني. ولكي يكفر الموارنة عن ذنب التوجه إلى تل أبيب إبان الحرب الأهلية والتعاون العسكري مع «التساحال»،إبان اجتياحه للبنان عام 1982 استفاضوا بمشاعر العداء للسامية. لكن هذا التحول لم يكسبهم ثوابا لا شرقًا ولا غربًا.
على كل الأحوال أخذ البلدان منحيين مختلفين في تطورهما الاقتصادي. إسرائيل سلكت دربا اقتصاديا مبنيا على العلم والمعرفة، وطورت بناها التحتية وأولت الصناعة أهمية تضاهي اقتصاد الخدمات، أما لبنان فاختار حكامه اقتصادا ريعيا غير منتج يتكل على الخدمات السياحية كمصدر دخل أساسي إلى جانب اعتماده على خدمات المصارف فيه. طبعا لا مجال للمقارنة بين اقتصاد البلدين. من الناتج القومي إلى متوسط دخل الفرد، هناك فوارق كبيرة جدا في الأرقام يستحيل على لبنان اللحاق بها. أرقام لها تأثيرها المباشر أيضا على نوعية الحياة لسكان البلدين.
أما سياسيا فالتطورات الأخيرة في المنطقة، من تعاظم نفوذ إيران وتشكيلها خطرا على دول الخليج، وصولا إلى الحرب السورية، فقد قربت إسرائيل من دول الخليج بشكل يوحي بأنهم قاب قوسين من إرساء علاقات سياسية واقتصادية «رسميا»فيما بينهم، بينما يتجه لبنان إلى الجلوس في أحضان جبهة الممانعة.
للعودة إلى بداية المقال، فكل هذه التطورات والحقائق المستجدة في المنطقة التي سردناها باقتضاب لم تمنع صهر رئيس الجمهورية من ترداد فكرة سياسية سخيفة، (خوف الإسرائيليين من منافسة موارنة لبنان لهم) منتهية الصلاحية. فهو لكسل فكري ما، لم يكلف نفسه عناء السؤال أين المنافسة؟ بأية مجالات؟ على أي دور؟ فحتى القدرات القتالية التي يمتلكها حزب الله والتي تخشاها إسرائيل ليست ملك الموارنة.
من الواضح أن تعثر لبنان سياسيا واقتصاديا واجتماعيا على مدى سنينه المائة الأولى يعود تحديدا إلى فشل نموذجه المبني أساسا على مبدأ المحاصصة الطائفية. وليس الكلام عن ضرورة المحافظة عليه إلا محاولة بائسة لاستجداء مساعدة الغرب، وهو يناقض ما يذهب إليه منظرو «إسرائيل تهاب النموذج اللبناني»لأنه ببساطة يؤكد حاجة هذا النموذج للإنقاذ، ما يعني فشله في الاستمرار والديمومة.