* بحر غزة يعاني من التلوث، الذي زادت نسبته في مياهه عن 75 %، وفقاً للإحصائيات الصادرة عن الجهات الرسمية، التي حذرت المواطنين من السباحة فيه
* بحر غزة بمثابة المجال الأوسع لسكان القطاع، للترفيه عن أنفسهم ومعايشة شعور الحرية، خلال كلّ أيام العام، بعيداً عن ضنك العيش وظروف الحصار الإسرائيلي.
* دراسات: لولا بحر غزة لانفجر الناس في القطاع منذ زمن
* هناك كثير من المواطنين في غزة، يعتبرون البحر فسحةً رياضية مميزة، لا سيما في دقائق الشروق الأولى، التي باتت تشهد قدوم العشرات من الرجال والنساء لمنطقة الكورنيش
غزة: خلال أيام فصل الصيف، اعتادت الشابّة الجامعية نور هاشم، على الانتقال برفقة مجموعة من زميلاتها لإحدى الاستراحات البحرية التي تقع بالقرب من ميناء غزة، حيث يقضين هناك أوقاتاً طويلة يتبادلن فيها الأحاديث ويشربن الشاي والقهوة، وتشير الشابّة إلى أنّ البحر هو المتنفس الشخصي الوحيد لها، وفيه تجد ذاتها، وأجمل تفاصيلها كانت بالقرب من شاطئه، كما أنّ أمواجه كانت شاهدة على كثير من الضحكات التي أطلقتها هي وصديقاتها.
وتقول في حديثٍ لـ«المجلة»: «أحرص على زيارة البحر الذي لا أتخيل شكل غزة من دونه، بصورةٍ يومية كوني أسكن بالقرب منه»، متابعةً: «مشاهد ارتياد الفتيات لشواطئ البحر في السابق كانت غير مألوفة في القطاع، أمّا اليوم فصار الأمر عادياً، حتّى إنّه تطور، ووصل لأنّ تتمكن الشابات من ممارسة حرياتهن بشكلٍ أفضل على الملأ دون قيود، حيث صارت كثير من الاستراحات تمنحهن مساحات مساوية لتلك الممنوحة للشباب».
ويعتبر بحر غزة الذي يعاني من مشكلة التلوث، التي زادت نسبتها في مياهه عن 75 في المائة، وفقاً للإحصائيات الصادرة عن الجهات الرسمية، التي حذرت المواطنين من السباحة فيه، بمثابة المجال الأوسع لسكان القطاع، للترفيه عن أنفسهم ومعايشة شعور الحرية، خلال كلّ أيام العام، بعيداً عن ضنك العيش وظروف الحصار الإسرائيلي والانتهاكات.
وأكّدت كثير من الدراسات والآراء، على أنّ انفجار الناس في القطاع، كان سيكون سريعاً لولا وجود البحر. وعلى ذلك يعلّق المواطن سلمان الغوطي، الذي يسكن محافظة رفح، حيث قال إنّه اعتاد منذ أعوام، على قضاء كثير من أيام الأسبوع، في الهواء الطلق مستمتعاً بمشاهد الطبيعة وصفاء السماء والماء، لأنّه يشعر هناك براحةٍ نفسية، وذلك على الرغم من حذره الشديد في الاقتراب من البحر، بسبب تلوث مياهه.
رزق البحر واسع
أمّا الشاب أيمن ناصر الذي تخرّج من كلية العلوم الصحية التابعة للجامعة الإسلامية بغزة قبل نحو 7 سنوات، فقد ظلّ خلالها أسيراً لدائرة البطالة الواسعة، فقصته مع البحر مختلفة، حيث بدأت تفاصيلها قبل نحو عامين، حين قرر مع ثلاثة من زملائه الشروع في مشروعهم الخاص، والذي قرروا أن يكون عبارة عن عربةٍ صغيرة وحولها مجموعة من الطاولات والكراسي، تصطف بالقرب من الشاطئ، وتُقدم للناس المشروبات الساخنة والذرة المشوي الشهي.
ويتحدث لمراسل «المجلة»بينما كان يجهز طلبات الزبائن: «لم أكن أتخيل في يومٍ ما، أن يستقر بي الحال بعد الدراسة الجامعية بهذا المكان، الذي بتُ اليوم أفتخر بعملي فيه، ونسجت من خلاله علاقات واسعة مع كثيرٍ من الزبائن، إذ صاروا يزورن استراحتي البحرية البسيطة بشكلٍ يومي»، مشيراً إلى أنّ ذروة عمله تكون خلال فصل الصيف وفي نهاية الربيع، حيث يزيد الرزق، وتكثر زيارات الناس للبحر، الذي بات يشكل للشابّ أيمن وأصدقائه باباً جديداً، يعبرون من خلاله لتحقيق شيء من آمالهم وطموحاتهم، على حدِ وصفه.
على جانب استراحة ناصر الصغيرة، كان يقف شاب برفقة مجموعة من الأطفال، الذين يجهزون مجموعة من الصناديق، التي تضم المسليات والألعاب وبعض أنواع الشيكولاته، حيث يستعدون لحمل تلك الصناديق للتجول بها بين المصطافين على الشاطئ لبيعها.
ويوضح الشابّ الذي يُدعى إبراهيم جندية، أنّه يتجمع برفقة مجموعة من أبناء الحي الذي يسكنه في شرق مدينة غزة، خلال فترة ما بعد الظهيرة، كلّ يوم في فصل الصيف، وينطلقون باتجاه الغرب إلى البحر، فهناك مصدر رزقهم وعائلاتهم الفقيرة التي تقطن في بيوتٍ متهالكة، منوهاً إلى أنّ معظم الأطفال الذين يعملون على البحر يقصدون منطقة «الكورنيش»القريبة من منطقة «الشيخ عجلين»، كونها من أكثر المناطق اكتظاظاً بالمصطافين.
ويتابع كلامه: «الأطفال يستغلون الإجازة الصيفية لتحقيق دخل بسيط يعينهم على أعباء الحياة وليتمكنوا من إكمال دراستهم، حيث إنّه يعرف كثيراً منهم، وهم من المتفوقين وأصحاب الدرجات العالية في المدرسة».
رياضة على البحر
هناك كثير من المواطنين في غزة، يعتبرون البحر فسحةً رياضية مميزة، لا سيما في دقائق الشروق الأولى، التي باتت تشهد قدوم العشرات من الرجال والنساء لمنطقة الكورنيش، حيث يرتدون ملابسهم الرياضية الخاصّة، وينطلقون في ممارسة رياضة الركض والجري لمدة ساعة واحدة تقريباً، وبعدها ينفضون لأعمالهم، وهناك آخرون يذهبون لتناول الإفطار في الاستراحات القريبة من الشاطئ، بينما البعض يحرص على مراقبة الصيادين العائدين من رحلتهم، لمشاهدة ما جاد به البحر عليهم في ليلة عملهم.
وتقول الشابّة رهف الريس (25 عاماً)، إنّها تختار يومين في الأسبوع وتذهب برفقة أحد إخوانها لممارسة رياضة المشي التي تشعر بعد ممارستها بارتياح كبير، لا سيما وأنّها تترافق مع استنشاق رائحة الصباح «العليل»، التي تنبعث مع كلّ نسمة هواء، تطلّ من اتجاه البحر.
خلال شهر رمضان الماضي، اتخذ فريق للملاكمة، يتشكل من مجموعة من الفتيات شاطئ البحر مكاناً لممارسة تدريباته، لا سيما في حالة الإغلاق التي طالت النوادي والساحات الرياضية في غزة، بسبب تخوفات انتشار فيروس «كورونا».
وفي حديثٍ لـ«المجلة»، تكلم مدرب الفريق أسامة أيوب قائلاً: «الفريق تمّ تشكيله من الاتحاد الأوليمبي للفتيات في غزة، وعدد أعضائه 18 فتاة تقريباً، تتراوح أعمارهن بين 10 و17 عاماً، ويتعلمن على أداء الفنون المختلفة الخاصّة برياضة الملاكمة، ويتدربن كذلك على أساليب الدفاع عن النفس».
ويوضح أنّ فكرة استئناف التدريب على شاطئ البحر في الهواء الطلق، خطرت في باله، وحين درسها جيداً، وجد أنّها ستكون مناسبة، وعمل على استصدار التصاريح الرسمية اللازمة لها، بعد أن استشار أهالي الفتيات، الذين أبدوا موافقة على الأمر، وشجعوا عليه، وبدأ مباشرة في التدريب، ووجد أنّ البحر يعطي مساحة جيدة، للتأمل والتنفس الأفضل، ويمنح الجسم طاقة واندفاعا نحو الشجاعة والقوة، ومن تجربتهم التي لاقت ترحيباً من الناس، وجد أيوب، أنّه من الضروري، وحتى بعد انقضاء ظروف الجائحة، الاستمرار بنفس الأسلوب.
ولا تقف المساحات الحرّة التي يمنحها شاطئ البحر لأهل غزة عند هذا الحد، فهناك مجموعة من النساء اللواتي يتلقين تدريبات في نادي الطاقة الإيجابية الذي تمّ تأسيسه قبل نحو عام، قررن كسر القيود والتقاليد، وتوجهن لممارسة رياضة اليوغا والتأمل على شاطئ البحر، في محاولة منهن لتحسين حالتهن النفسية التي أوصت بها كل منظمات الصحة العالمية جنبا الى جنب مع الحالة الصحية الجسدية، وليهربن من المتاعب وضغوط الحياة.
ولاقت صور النساء وقت نشرها على منصات التواصل الاجتماعي انتقادات واسعة من الجمهور، الذي اعتبر الأمر خرقاً لعادات المجتمع الفلسطيني، وأكّدت تحرير مرتجي مسؤولة ومؤسسة النادي، أنّ التجربة بحد ذاتها كانت تستحق المغامرة، لأنّ البحر مكان للجميع، والكل يمارس فيه ما يشاء من نشاطات، طالما بقيت في نطاق الأخلاق والسلوكيات العامة، لافتةً إلى أنّ تجربة «اليوغا»على شاطئ البحر كانت مختلفة، وحملت تحفيزاً نفسياً عالياً للنساء.
مساحة فنية حرّة
ويتخذ مجموعة من الشباب الفلسطيني والفنانين البحر كمساحةً حرّة لممارسة الهوايات الفنية، التي غالباً ما يتسم جوهرها بالطابع الوطني، ومن بين أولئك الشباب، كان العشريني يزيد أبو جراد، الذي بدأ منذ عدّة سنوات باستعمال رمال شاطئ البحر لتشكيل لوحات فنية، ولتجسيد قضايا إنسانية ووطنية، ولإرسال رسائل في المناسبات المختلفة.
ويقول في حديثٍ لـ«المجلة»: «منذ سنوات الطفولة، أعشق الفن، وكثيراً ما شاركت في مسابقات مدرسية خاصّة بكتابة الخطوط العربية وحصلت على جوائز، وكنت أمارس هوايتي بالكتابة على الجدران والأوراق الكبيرة، وتجربتي مع البحر جاءت عن طريق الصدفة، فما زلت حتّى هذا الوقت أذكر العبارات الصغيرة التي كتبتها على الشاطئ، بينما كنا في نزهة عائلية، وحازت وقتها إعجاب وتشجيع الجميع».
ويشير إلى أنّه بعد تلك التجربة الناجحة، كان يحرص على التكرار كلما زار البحر، لأنّه وجد فيها متعة وشغفا، وكانت العبارة الأولى الكبيرة التي خطها الشابّ، وحظيت بانتشار هي عبارة «القدس لنا»، وكانت بحجم كبير يزيد على مترين، واستخدم في إنجازها الذي استمر لعدّة ساعات مرهقة، تحت أشعة الشمس القوية، بعض الأدوات اليدوية.
ويبيّن أنّه انطلق بعد ذلك في تشكيل اللوحات البحرية المختلفة، والتي عبّر فيها عن مختلف ما يجول في خاطره، وصار يجد نفسه دائماً منساقاً لا إرادياً نحو البحر، لأنّه وجد فيه المساحة الفنية الحرّة، التي لا تقيد أفكاره أو معتقداته، كما أنّها في فترةٍ متقدمة صارت تمنحه قليلاً من المال، الذي يكفي احتياجاته الشخصية، لا سيما في ظلّ معاناته من شبح البطالة، كغيره من الشباب في قطاع غزة.
ويعدّ البحر بشكلٍ عام مصدراً للإلهام والتفكر، ومحفزاً على إخراج المواهب بشكلٍ عام، لكنّ الوضع في غزة مختلف، كما يذكر الشابّ أبو جراد، فطبيعة غزة وحالها الصعب وانعدام وسائل الترفيه والتنزه فيها، كلها أمور تجعل البحر بمثابة الحياة الكاملة، التي لو انقطع وصالها عن أهل القطاع، لصار أسوأ مما هو الآن بمراحل.
ويلفت إلى أنّه كتب على البحر عبارات حبّ وإشارات لقصص عشق بين شباب وفتيات، وكتب أسماء فنانين عرب وعالميين ولونّها بألوان زاهية، وأرسلها لهم، واستقبلوها منه بكلّ مودة، وأعربوا عن إعجابهم بموهبته وبجمال لوحاته، وبرمزية غزة، منوهاً إلى أنّ الناس بشكلٍ عام صاروا معتادين على وجوده في الشاطئ، كما أنّ متابعيه على منصات التواصل الاجتماعي الذين باتوا في ازدياد يومي، يتابعون كلّ جديد ينتجه، ويرسلون له رسائل تحفيز كثيرة.
تطويع الطبيعة فنياً
الشابّة الفنانة شيماء الدلو (23 عاماً) نسجت حكاية خاصّة مع البحر والطبيعة في غزة، دفعتها لابتكار شكلٍ فنّي جديد، طوعت فيه البحر وخيوط أشعة الشمس المنسدلة من الشمس عند ساعات الظهيرة والأشجار، لأدوات تدخل في صناعة لوحاتها التشكيلية.
وتروي أنّ موهبتها الفنية بدأت منذ الطفولة، حيث كانت دائماً حريصة على الرسم في الحصص الفنية وبالأوقات الأخرى، وكانت تستثمر طلبات المعلمات الرامية، لإنجاز رسم لوحات فنية على السبورة، لتكون أول المشاركات بتلك الأنشطة، وذلك لأنّها كانت تشعر دائماً بشيءٍ يجذبها نحو الفن، منبهةً إلى أنّها عملت على تحويل غرفتها المنزلية لمساحة تعبر فيها عما بداخلها من مشاعر وذكريات كثيرة.
وتردف بأنّ انتباهها للبحر والطبيعة جاء قبل ثلاثة أعوام تقريباً، وبعد تأمل طويل وجدت أنّهما يمكن أن يكونا فضاءً مفتوحاً لممارسة الهواية بحرية، بعيداً عن تعقيد الأشكال الفنية التقليدية، فبدأت في استثمار العناصر الطبيعية وجمالها المتنوع، لإكمال اللوحات وجعلها من مكوناتها الرسمية التي لا يمكن الاستغناء عنها.
وتنوه إلى أنّها ولأجل إنجاز اللوحة كاملة، تحتاج للبدء بتخيل المشهد الذي ترغب في تصويره بلوحاتها، ثم تلتقط أوراقاً بيضاء وتعمل على تفريغها باستخدام المشرط الحديدي، وبعد إتمام ذلك تنتقل بها للعنصر الطبيعي وتواؤمها معه، ثم تلتقط لها صوراً وتنشرها على منصات التواصل الاجتماعي، حيث إنّها تحظى باهتمام المتابعين، وتحكي أنّها تختار مواضيع للوحاتها، تكون مناسبة للواقع الفلسطيني، وتشرح أكثر صور الحياة الخاصة بالمرأة والأطفال، كونهما الفئتين الأكثر تعرضاً للضرر بسبب ظروف الحصار والاحتلال الإسرائيلي.