* التجربة تجعلنا حذرين في التنبؤ بمصير وردي لتلك الانتفاضة التي عاشها لبنان في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، لا بل هناك ما يدعونا إلى الاعتقاد بأن الأسوأ يمكن أن يحصل
لبنان في قلب أزمات وانهيارات ثلاثة؛ اجتماعية واقتصادية ومالية. الأرقام التي يتداولها الخبراء وإن اختلفت قليلا تدل كلها على ولوج المجتمع نحو كارثة كبيرة. الأخبار عن إفلاس الشركات الكبرى وإقفال المؤسسات وصرف الموظفين تتوارد بوتيرة يومية، كما تدنت القدرة الشرائية للمواطن اللبناني وارتفعت الأسعار مقابل انهيار قيمة العملة الوطنية.
أمام هذا الواقع يتوجه حكام البلد الحائرون نحو الاستدانة من المؤسسات النقدية العالمية أو بعض الدول الراغبة في مساعدة لبنان، ولكن لتلك المؤسسات شروطها التي لا تتلاءم ومصالح الطبقة السياسية، فيما البعض يدعو لبنان إلى الذهاب شرقا بحثا عن تمويل «صيني»الهوية كوسيلة للإفلات من العقوبات الاقتصادية الأميركية، وهو سلاح تستعمله إدارة ترامب في مواجهة إيران وأزلامها في المنطقة. جديد الإدارة الأميركية هو قانون قيصر الذي يريد خنق النظام السوري ولكن سهامه ستطال لبنان ورجال أعماله الذين لم يتوقفوا يوما عن التعامل مع نظام الأسد منذ اندلاع الحرب الأهلية فيها.
المأزق يكبر والخيارات تضيق
في خضم هذه المأساة يعتقد كثيرون في لبنان أن تلك الحالة لا يمكن أن تدوم وأننا ذاهبون نحو انفجار حتمي سينتقل البلد بعده إلى مرحلة ولادة نظام سياسي جديد، حيث المتغير الأساسي فيه- حسب ما يبشرون- انتقال حزب الله من العمل العسكري إلى العمل السياسي وانضوائه تحت «عباءة وطنية»بفعل ضغط شارعه المتعب والمنهك اقتصاديا وماليا. يعتقد هؤلاء أن تلك الأزمة ستدفع بحزب الله إلى القبول بالتخلي عن «السلاح»وتسليمه للدولة.
هذا الحلم الوردي جميل لكنه ساذج ولا يأخذ في عين الاعتبار واقع البلد وتاريخه وعقلية سكانه. والأخطر أنه يعطي أملا حيث ليس هناك الكثير منه.
عندما اندلعت أحداث سوريا عام 2011 ظننا أن النتيجة الحتمية لهذا الحراك هي سقوط نظام الأسد. وكيف لا؟ فالنظام ديكتاتوري مجرم مكروه من شعب يتوق للانعتاق من هذا النير، ثم هناك تعاطف من قبل الرأي العام العالمي لتلك الانتفاضة. أسقطنا من استنتاجاتنا العامل الطائفي طبعاً ودوره في المعادلة السورية، كما تجاهلنا التناقضات الإقليمية التي انعكست على مسار الانتفاضة من خلال انقسام الفصائل التي كانت بدأت بالبروز على الساحة السورية، ثم والأهم كان عدم معرفتنا بجدية التقارب الإيراني الأميركي الذي كان من أهم نتائجه بقاء الأسد في سدة الحكم واستعادة سيطرة نظامه على ما اتفق على تسميته بـ«سوريا المفيدة»،أي المدن المهمة والطرق الرئيسية.
وقبلا، وعند اغتيال الرئيس رفيق الحريري، اندلعت ثورة الأرز وحلم الللبنانيون «بالعبور إلى الدولة»،شعار لم يفهم منه بعض أبناء تلك الثورة سوى معنى واحد يومها وهو الانتقام من «الممانعة». الانتقام من خلال رفع شعار «حرية، سيادة، استقلال». هنا أيضا لم يتنبه الجمهور إلى عمق النزعة الطائفية الملازمة لبنيان المجتمع اللبناني، ولا إلى حجم التدخلات الإقليمية المبرمجة على وقع الاجتياح الأميركي للعراق وأفغانستان. أصلا لم يمر وقت طويل قبل أن يستعيد لبنان مشهد الانقسام الطائفي الذي لطالما ميز حياته السياسية وذالك حين منع البطريرك الماروني المساس من قبل الناس بالموقع الماروني الأول. طبعا كل الآمال التي عقدت حول تلك الثورة، كل المقالات التي كتبت عنها، كل التعاطف العالمي الذي حظيت به، لم يمنع حزب الله من استعادة سيطرته رويدا رويدا على البلد، ومن ثم فرض قانون انتخابات نيابية على مقاسه وحلفائه ليتمكن من سيطرته على المجلس التشريعي، كما إيصال حليفه عون إلى قصر بعبدا رئيسا ومن بعدها تأليف حكومة تأتمر بما يقول.
في كلتا الحالتين سقطت كل الأحلام لفقدان العامل البرغماتي فيها. هذا السقوط كان مريعا.
نحن اليوم أمام نفس حالة الاحتقان الشعبي لأسباب مختلفة، مع فارق زمني بسيط. هناك كان اغتيال، هنا مأزق سياسي واقتصادي واجتماعي، وفي الحالتين انتفاضة شعبية بغلاف وطني.
البعض استعاد وبسرعة الأحلام الساذجة التي رافقته بعيد اغتيال الحريري وعند اندلاع الانتفاضة السورية، متناسيا واقع المنطقة الطائفي، والأدوار المستثمرة في الداخل للاعبين إقليميين ودوليين.
أما البعض الواقعي، ومن دون أن يعارض الحراك، فيعتقد أن الأمور في لبنان مرشحة لأن تستمر على ما هي عليه، أي فقر وبطالة وانهيار اقتصادي، من دون أن يؤدي الحراك أو الانتفاضة إلى تعديل سياسي بالواقع اللبناني. لماذا؟ لأن البعض ما زال يولي الزعامات الطائفية ويقدسها، والبعض الآخر ما زال يفتش على الانتقام من غريمه من دون أن يبالي بتغيير النظام مكمن كل العلل.
التجربة تجعلنا حذرين في التنبؤ بمصير وردي لتلك الانتفاضة التي عاشها لبنان في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، لا بل هناك ما يدعونا إلى الاعتقاد بأن الأسوأ يمكن أن يحصل، بمعنى أن يتأقلم اللبناني مع الانهيار الاقتصادي ويتكيف مع الأزمات المعيشية ويتفاعل مع صراخ زعمائه الذي سيزداد طائفية كوسيلة لتدجينه.