عبد الناصر وافق عام 1969 على عقد اتفاق سلام مع إسرائيل وتبادل التمثيل الدبلوماسي معها

رجل المهمات الصعبة بين مصر وأميركا يكشف لـ«المجلة» سرًا كبيرًا

وليم بولك

عبد الناصر وافق عام 1969 على عقد اتفاق سلام مع إسرائيل وتبادل التمثيل الدبلوماسي معها

         
•        ما هي المهمة السرية التي كلفني بها كيسنجر لدى عبد الناصر؟.. وكيف رفض عرض الرئيس المصري
•        اقترحت على كيندي إنشاء دولة فلسطينية
•        ماذا جرى بيني وبين كيسنجر في عهد السادات؟
•        ما هي حقيقة مشروع أميركا لتوطين الفلسطينيين

تكشف «المجلة» في هذا التحقيق سرًا ينشر للمرة الأولى، وهو أن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وافق عام 1969 على عقد اتفاق سلام مع إسرائيل، هذا السر الكبير كشفه لـ«المجلة» المبعوث الأميركي الذي قام باتصالات سرية بين عبد الناصر والدكتور هنري كيسنجر بعد فوز ريتشارد نيكسون بالرئاسة والذي وضع بنفسه مسودة اتفاق السلام بين مصر وإسرائيل، وحصل على موافقة عبد الناصر عليها
هذا المبعوث الأميركي يتحدث إلى الصحافة للمرة الأولى عن الاتصالات السرية بين عبد الناصر والولايات المتحدة، وهي اتصالات لعب هو فيها دورًا مباشرًا
المبعوث الأميركي هو الدكتور وليم بولك وقد عمل مع الرئيسين الأميركيين الراحلين جون كيندي، وليندون جونسون، كما أوفده كيسنجر لمهمه إلى مصر عام 1969 وقام بولك بعدة مهمات خاصة وسرية بالشرق الأوسط ولعب دورًا بارزًا فى الاتصالات السرية المختلفة التي دارت بين عبد الناصر والولايات المتحدة ويعتبر بولك الذي يتكلم العربية من الخبراء الأميركيين البارزين في شؤون الشرق الأوسط، وله عدة كتب عن هذه المنطقة وعن العرب، أهمها السلام المراوغ، والولايات المتحدة والعالم العربي
وقام بتدريس تاريخ الشرق الأوسط في جامعة هارفارد الأميركية الشهيرة وفي جامعة شيكاغو، حيث شغل منصب مدير مركز دراسات الشرق الأوسط فيها. وبين 1966 و1973 شغل بولك منصب رئيس مؤسسة أدلاي ستيفنسون للعلاقات الدولية. ويعيش بولك الآن في جنوب فرنسا وهو يعد كتابا عن تاريخ العلاقات الدولية.
وقد وافق بولك على إجراء مقابلة شاملة مع «المجلة» سننشرها على حلقات، ابتداء من هذا العدد، يتحدث فيها للمرة الأولى عن الاتصالات السرية بين عبد الناصر وأميركا وعن قضايا أخرى مهمة في المنطقة، وحين كشف بولك لـ«المجلة» السر الكبير وهو أن عبد الناصر وافق على مسودة اتفاق سلام بين مصر وإسرائيل وهو ما تتناوله هذه الحلقة الأولى...

 

عبد الناصر: عرض سلمي خطير إلى أميركا
 


 
سألناه إذا كانت في حوزته مسودة هذا الاتفاق؟
فقال إن نص هذه الوثيقة المهمة محفوظ في ملفات وزارة الخارجية الأميركية وهي تعتبر سرية ولن يسمح بتصويرها الآن.
هذا السر الكبير سيثير جدلا ونقاشا، إذ إنها المرة الأولى التي يكشف فيها أن عبد الناصر وافق على عقد اتفاق سلام مع إسرائيل وعلى تبادل التمثيل الدبلوماسي معها والسر هو على لسان المبعوث الأميركي الذي تولى مباشرة التفاوض حول الأمر... وفيما يأتي الحلقة الأولى من المقابلة الشاملة مع وليم بولك...
 
في ديسمبر (كانون الأول) 1967 كانت الدول العربية لا تزال تعاني من نكسة حرب يونيو (حزيران) مع إسرائيل وكان الرئيس الأميركي ليندون جونسون يبدي شعورا بالغا بعدم الاهتمام بالإشارات الصادرة عن بعض الدول العربية عن طريق مبعوثين مختلفين والقائلة إن من الممكن تحقيق السلام في المنطقة إذا تم التوصل إلى صيغة مشرفة لهذا السلام، وكان بولك قد أنهى عمله في الإدارة الأميركية في مجلس التخطيط السياسي التابع لوزارة الخارجية 1961- 1965 ثم بدأ يحاول بصفته الشخصية مساعدة إدارة جونسون على الخروج من المتاعب التي تواجهها في الشرق الأوسط. وقد عمل بولك خلال العام 1967 كمستشار في البيت الأبيض قبل أن يرأس مؤسسة أدلاي ستيفنسون للأبحاث. وخلال معركة انتخابات الرئاسة الأميركية العام 1968, عمل بولك مع الدكتور هنري كيسنجر وساعده على إنشاء مجموعة خاصة من الخبراء لدرس الوضع في الشرق الأوسط. وبعد فوز ريتشارد نيكسون في انتخابات الرئاسة, تابع بولك جهوده, من وراء الكواليس للمساعدة على التوصل إلى حل سلمي للنزاع العربي- الإسرائيلي.
وفي ديسمبر (كانون الأول) 1968 التقى بولك بالدكتور كيسنجر في فندق بيار في نيويورك في المقر المؤقت الذي أنشأه نيكسون لمستشاريه بعد فوزه بالرئاسة...
 
كيف أعد مسودة اتفاق السلام؟
 
وسألت «المجلة» بولك:
•        ماذا طلب منك كيسنجر؟ و ماذا دار بينكما؟
قال بولك:
-        تحدثنا مطولا عن الوضع في الشرق الأوسط, وأراد كيسنجر أن يعرف بشكل خاص إذا كانت هناك فرص حقيقية لتحرك جدي يستهدف إيجاد حل للنزاع بين مصر وإسرائيل... وقلت له إن الفرص تبدو طيبة وإن الرئيس عبد الناصر أظهر في أحاديثه غير العلنية قدرا من المرونة أكبر بكثير مما يستطيع إظهاره علنا بالطبع، وتتمثل المشكلة في إيجاد صيغة معقولة لا تؤدي إلى فقدان عبد الناصر ماء وجهه وإلى اعتباره «خائناً» للقضية العربية وبحيث تؤدي هذه الصيغة أيضا إلى حماية المصالح المصرية والإسرائيلية والأميركية. وفي نهاية الحديث طلب مني كيسنجر التوجه إلى القاهرة ومقابلة عبد الناصر واستطلاع آرائه...
 
•        وماذا حدث بعد ذلك؟
-        توجهت إلى القاهرة وقابلت عبد الناصر. وكنت قد اجتمعت به عدة مرات من قبل في عهد الرئيس الراحل جون كيندي في الفترة من 1961 إلى 1963. وكان عبد الناصر بكل تأكيد مهتما للغاية بما قلته ولم يكن مفاجئا بزيارتي له، وبعد ذلك عدت إلى واشنطن وقلت لكيسنجر إن هناك احتمالا في تحقيق تسوية سلمية وطلب مني كيسنجر الذهاب إلى القاهرة مرة أخرى والتحدث إلى عبد الناصر بصفتي الشخصية على أنني سأطلع كيسنجر على مبادئ مباحثاتي, وأن هذه النتائج ستحظى باهتمام الإدارة الأميركية على أعلى المستويات (المقصود باهتمام نيكسون).
وعدت إلى القاهرة لمقابلة عبد الناصر. وكان ذلك في يناير (كانون الثاني) 1969 وأمضيت عدة أيام هناك لإعداد صيغة تسوية سلمية وقضيت وقتا طويلا مع الدكتور حسن صبري الخولي أحد مستشاري عبد الناصر، وأذكر أنه أثناء وجودي هناك تعثرت زوجة حسن صبري الخولي واصطدم رأسها برخام الأرضية وهكذا تعين علينا عقد اجتماعنا الأخير في المستشفى... 
خلال هذه اللقاءات أعددنا مسودة اتفاق سلام بين مصر وإسرائيل وسلمنا عبد الناصر النص وأجرى عليه تعديلات بالحبر الأحمر.

 

كيسنجر: لماذا أهمل عرض عبد الناصر؟
 


 
التبادل الدبلوماسي
 
•        ماذا كان مضمون مسودة اتفاق السلام؟
-ركز الاتفاق على ضرورة انسحاب القوات الإسرائيلية من سيناء التي احتلتها خلال حرب 1967، وفي مقابل ذلك يوافق المصريون على أن تكون سيناء مجردة من السلاح، وعلى إنهاء المقاطعة بين مصر وإسرائيل وقيام تبادل تجاري بين البلدين.
ووفقاً لمسودة الاتفاق، فإن الجانبين سيعملان على تخفيف التوتر بينهما. ونص الاتفاق أيضاً على أن يتم تبادل العلاقات الدبلوماسية بين مصر وإسرائيل بعد فترة معقولة.
 
ماذا قال كيسنجر؟
 
•        ما هي التعديلات التي أدخلها عبد الناصر على مسودة الاتفاق؟
-        وافق عبد الناصر على معظم ما جاء في مسودة الاتفاق، وأدخل عليها فقط تعديلا بسيطا يتعلق بتوقيت المراحل المختلفة للاتفاق بين البلدين، وكان عبد الناصر حريصاً على أن يبلغ الولايات المتحدة أنه يريد التوصل إلى تسوية سلمية وقد بعث ببرقية إلى الدكتور كيسنجر الذي كان آنذاك مستشار نيكسون الرئيسي على صعيد الشؤون الخارجية، يبلغه فيها بموعد عودتي إلى واشنطن ويطلب منه أن يستقبلني في الحال، وعدت إلى واشنطن بسرعة، وأنا سعيد جدا ومتحمس جدا لأنني اعتبرت أن موافقة عبد الناصر على عقد السلام مع إسرائيل يشكل إنجازا كبيرا، واعتبرت أيضا أن إدارة نيكسون يجب أن تهتم فورا بهذا الأمر
بعد وصولي إلى واشنطن طلبت فورا الاجتماع بكيسنجر فقالوا لي إن كيسنجر لديه ارتباطات في ذلك اليوم، ولن يستطيع استقبالي، وانتهزت الفرصة لأقابل عددا من الزملاء والأصدقاء السابقين، ومنهم توم هيوز، الذي كان يشغل آنذاك منصب مدير إدارة الاستخبارات والأبحاث في وزارة الخارجية الأميركية، وأطلعت هيوز على ما أحمله من القاهرة، وسألته إذا كانت واشنطن تلقت من عبد الناصر إشارات مماثلة. وقال لي هيوز إن المسؤولين المصريين أرسلوا إلى أميركا إشارات مماثلة عن طريق قنوات اتصال مختلفة تتضمن استعدادهم للتوصل إلى تسوية سلمية مع إسرائيل، لكنه اعترف لي في الوقت نفسه بأن هذه الإشارات لم تكن بأهمية مسودة الاتفاق التي توصلت إليها في القاهرة، وفي النهاية استقبلني كيسنجر في مكتبه في البيت الأبيض وحضر اللقاء مورتن هالبرن، نائبه الذي أقام في وقت لاحق دعوى على كيسنجر لتسجيله أحاديثه الخاصة، وفوجئت بأن كيسنجر لم يبد اهتماما بما حملته معي من القاهرة، وما كنت أقوله له، وقال لي إنه لا يستطيع تركيز انتباهه واهتمامه على هذا الموضوع، لأن نيكسون كان سيعقد مؤتمرا صحافيا في اليوم التالي حول فيتنام، وعليه أن يهيئه له، وأصبت بالذهول، وقلت لكيسنجر إن ما أحمله معي هو أفضل فرصة للتوصل إلى السلام في الشرق الأوسط، الفرصة التي كنا ننتظرها منذ نحو 20 سنة، وأجاب كيسنجر أنه يقدر جهودي وقيامي بزيارة القاهرة، ويأمل أن تتاح لنا فرصة اللقاء في وقت قريب
وانتهى اللقاء... وقبل أن أغادر البيت الأبيض ضحكت بمرارة وقلت لكيسنجر أنت تعرف بالطبع أن هناك جانبا مأساويا في هذا الموضوع أن مستنقع اليمن الذي سقط فيه عبد الناصر أدى إلى تدمير السياسة التي كنا نتبعها إزاء مصر منذ عدة سنوات (تشجيع التنمية داخل مصر ومحاولة إقناع القيادة المصرية بعدم القيام بمغامرات خارجية) والآن تؤدي حرب فيتنام إلى القضاء على فرص أول تقدم كبير نحو السلام في الشرق الأوسط. ونظر إليّ كيسنجر ولم يقل شيئا، وهكذا ضاعت فرصة مهمة لتحقيق السلام.
ولم ألتق كيسنجر بعد ذلك لسنوات عديدة، وعندما قابلته في النهاية كان قد أصبح الدبلوماسي المكوكي العظيم وزير خارجية عهد نيكسون... 
التقينا في القاهرة في عهد الرئيس أنور السادات بعد حرب 1973، وكنت أعد كتابا جديدا عن المنطقة، وكان كيسنجر قد أصبح صاحب دبلوماسية الخطوة خطوة.

 

السادات وكيسنجر: خطوة خطوة إلى لا شيء
 


 
طلبت من كيسنجر التركيز على الفلسطينيين
 
•        ماذا قلت لكيسنجر؟ هل ذكرته بجهودك السابقه مع عبد الناصر؟
-        كلا لم أذكره... وفي المقابل سألني كيسنجر عن رأيي في دبلوماسية الخطوة خطوة التي بدأها بعد حرب 1973 بهدف إيجاد حل لأزمة المنطقة، وكنت قد انتهيت من كتابة دراسة عن دبلوماسية كيسنجر عنوانها «خطوة حطوة إلى لا شيء»، وكانت الدراسة تتضمن بالطبع انتقادا لهذه الدبلوماسية، وقلت لكيسنجر رأيي في دبلوماسيته هذه، وأوضحت له أن الخطأ الذي وقعت فيه الجهود الدبلوماسية في الماضي هو أنها تجاهلت جوهر أزمة الشرق الأوسط وركزت على مسائل جانبية، لأنها كانت أسهل للمعالجة، وقد أدى ذلك إلى فشل هذه الجهود كما أن أي جهود ستبذل في الإطار نفسه ستفشل.
 
•        ماذا تقصد بجوهر أزمة الشرق الأوسط؟
-        أقصد القضية الفلسطينية بالطبع. وقلت لكيسنجر إن عليه التركيز على حل القضية الفلسطينية، وفي ذلك الحين كان موضوع القدس ومستقبل هذه المدينة في أذهان الجميع فقلت لكيسنجر إنه لا يستطيع تجاهل موضوع القدس لكن كيسنجر كان يعتقد أنه يمكن وضع هذه القضية جانبا وعدم التركيز عليها بل يجب وضعها جانبا وقلت لكيسنجر إنه إذا لم تواجه الولايات المتحدة المشاكل الحقيقية بوضوح، فإننا نضيع وقتنا بل قد يؤدي ذلك إلى إيجاد موجة من الغضب والإحباط في المنطقة وهي موجة أسفرت في السابق عن نشوب القتال.
 
اقترحت على كيندي إنشاء دولة فلسطينية
 
•        ماذا بالنسبة إلى علاقتك أنت بالقضية الفلسطينية؟

  • إن الدول العربية عقدت اجتماعا في القاهرة بداية 1964 بعد عام من التوتر بشأن مشكلة مياة نهر الأردن، وتم الاتفاق على إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية، وكان الرئيس جون كيندي قد اغتيل في نوفمبر (تشرين الثاني) 1963
 
•        هل تعامل كيندي أو أي من مستشاريه المقربين ومنهم أنت مع الفلسطينيين كقوة سياسية منظمة؟
  • أعددت تقريرا مطولا ومفصلا عن القضية الفلسطينية ورفعته إلى الرئيس كيندي عام 1961 كان هذا التقرير يتضمن استعراضا شاملا لما حاولت الإدارات الأميركية تحقيقه في الماضي على صعيد القضية الفلسطينية وفشلت فيه، وتضمن التقرير أيضا معلومات لم تنشر من قبل وأنهيته بسلسلة اقترحات. وبين هذه الاقتراحات واحد يقول إنه يجب في نهاية الأمر إنشاء دولة فلسطينية إذا كنا نريد فعلا تحقيق السلام في الشرق الأوسط.
 
•        يعني ذلك أنك اقترحت على كيندي إنشاء دولة فلسطينية، أية دولة فلسطينية؟
  • نعم اقترحت إنشاء دولة فلسطينية، دولة لها علمها الوطني ونشيدها الوطني ولها جهود على خريطة العالم وتستطيع أن تمنح أبناءها جوازات سفر
 
•        دولة تعطي الفلسطينيين كيانا؟
  • نعم، لقد كنت أدرك آنذاك، والأمر أكثر وضوحا اليوم، أن أية دولة فلسطينية يتم إنشاؤها لن تكون كبيرة إلى حد أنها تستوعب جميع الفلسطينيين، وهنا يمكن عقد مقارنة مع إسرائيل: إن إسرائيل لا تضم جميع يهود العالم.
 
•        معنى ذلك أنك اقترحت إنشاء دولة فلسطينية صغيرة قبل عدة أعوام من بدء منظمة التحرير الفلسطينية وأطراف أخرى الحديث جديا عن هذا الأمر؟
  • هذا صحيح وبالنسبة إلى منظمة التحرير الفلسطينية نفسها فإنها لم تبدأ في الظهور كعامل له أهميته إلا بعد حرب 1967، وقبل ذلك كانت تعتبر تنظيما تابعا لواحدة أو أخرى من الحكومات العربية، كما أنها كانت تضم فئات متباينة ولم تصبح منظمة التحرير الفلسطينية في أي وقت من الأوقات حكومة في المنفى كما حدث بالنسبة إلى جبهة التحرير الجزائرية رغم أن الفلسطينيين كانوا يحاولون تقليد الجزائريين في ذلك الوقت واستخدموا نظام الأسماء الرمزية الجزائري كما اتبعوا الأسلوب الجزائري في حرب العصابات.
كيندي تلقى دراسة لإقامة دولة فلسطينية
 

 
توطين الفلسطينيين
 
•        هل تناول تقريرك إلى كيندي مسألة إعادة توطين الفلسطينيين إلى جانب مسألة الدولة الفلسطينية؟
  • نعم، تناول هذا الأمر، وكما قلت لك كان واضحا آنذاك أن الدولة الفلسطينية المقترحة لن تكون قادرة على استيعاب جميع الفلسطينيين، وكنت أشعر أيضا أن أميركا يجب أن تقوم بمبادرة تجاه الفلسطينيين فتستوعب عددا منهم في أراضيها وأستطيع أن أقول إن الجهد الرئيسي في عهد كيندي لتنفيذ عملية توطين الفلسطينيين قام به صديقي الدكتور جوزيف جونسون الرئيس السابق لمؤسسة «كارنيغي آند أرمنت للسلام العالمي». وقد اختاره كيندي في سبتمبر (أيلول) 1961 ليكون الشخص المسؤول عن وضع خطة لتوطين الفلسطينيين، وبعد تعيينه في هذا المنصب توجه جونسون إلى الشرق الأوسط لدرس هذه القضية المهمة وكان هدف جولته إجراء مباحثات في إسرائيل وبعض الدول العربية حول احتمال قبول إسرائيل بعودة عدد من الفلسطينيين إليها مرة أخرى. وكان الافتراض السائد في ذلك الوقت أن فلسطينيين كثيرين سيرفضون العودة إلى إسرائيل، وإذا قبلت إسرائيل هذا المبدأ فإنه يمكن اتخاذ إجراءات جادة لإعادة توطين اللاجئين الفلسطينيين، ومع ذلك تلخص الموقف الإسرائيلي في القول: كيف نعرف أنهم لن يقبلوا العودة؟ إن بلادنا ستتحطم إذا عاد إليها مليون فلسطيني، إننا على استعداد للتباحث في الأمر إذا ضمنتم لنا أن الفلسطينيين لن يقبلوا العودة. 
ولم تكن الدول العربية من ناحيتها أيضا مهتمة بموضوع التوطين ولم يكن الفلسطينيون قد وصلوا بعد إلى درجة كافية من التنظيم أو وضوح الموقف لاتخاذ موقف موحد إزاء هذا الموضوع. وهكذا وجد جونسون نفسه ضائعا وعاد إلى الولايات المتحدة وهو يشعر بحزن وليس بمرارة لأنه شعر بأنه كان في الطريق إلى حل لم يكن أي طرف من الأطراف يبدي اهتماما به.
 
الموقف من الجزائر
إن جون كيندي أدلى– عندما كان عضوا في الكونغرس– ببيان دعا فيه إلى استقرار الجزائر، وكان لهذا البيان تأثير كبير في العالم الثالث ولكن وزارة الخارجية لم تستطع حتى بعد أن أصبح كيندي رئيسا لأميركا– إجراء مباحثات مع جبهة التحرير الوطنية الجزائرية، وذلك خوفا من إغضاب فرنسا، وبالصورة نفسها لا تستطيع وزارة الخارجية الأميركية في الوقت الحالي إجراء مباحثات مع منظمة التحرير الفلسطينية، بسبب الوعد الذي قطعه كيسنجر لإسرائيل.
كنا مشلولين في ذلك الوقت بشأن الجزائر لأنها كانت من الناحيتين القانونية والفنية جزءا من فرنسا، وهذا يثبت مدى عمق المستنقع البيروقراطي الأميركي أن الإدارة الأميركية كانت تعالج– آنذاك– مشكلة الجزائر عن طريق مكتب الشؤون الأوروبية في وزارة الخارجية الأميركية وكان أعضاء هذا المكتب مثلهم في ذلك مثل نظرائهم الأوروبيين– يميلون إلى اعتبار المشكلة الجزائرية مشكلة فرنسية، وكان من المستحيل الحصول على تصريح لأي مسؤول حكومي بمجرد الحديث إلى الجزائريين، وذلك بالرغم من بيان كيندي. وأعتقد أن وزارة الخارجية الأميركية كانت موالية لفرنسا أكثر من الفرنسيين، لأن الفرنسيين أنفسهم كانوا يتحدثون إلى الجزائريين. في ذلك الوقت كان من الصعب علينا أن نفعل أي شيء. 
إن أعضاء وكالة المخابرات المركزية الأميركية يتمتعون بقدر أكبر بكثير من الحرية. وفي عهد أيزنهاور كان ألان دالاس مدير الوكالة يتمتع بقدر من الحرية والتحرر من القيود أكبر مما كان يتمتع به شقيقه جون فوستر دالاس وزير الخارجية في ذلك الوقت، وربما لم يكن الضابط المسؤول عن العلاقات اليومية مع الجزائر في وزارة الخارجية الأميركية مطلعا على المعلومات السرية التي يتم جمعها عن الجزائريين ونتيجة لذلك كان الشخص المسؤول عن القرارات اليومية مشلولا تقريبا ووصل الأمر إلى حد أن أعضاء مجلس التخطيط السياسي لم يكن في مقدورهم الاطلاع على ما يسمى بالمعلومات الخاصة أو المعلومات التي يتم جمعها عن طريق أجهزة التصنت برغم أن هذا المجلس يعتبر من الناحية النظرية أكثر أجهزة الحكومة خصوصية وسرية.
 
 كيف تتجسس أميركا؟
 
•        هل تعني أن الذين يصنعون القرارات لم يكن في مقدورهم الاطلاع على نتائج التجسس الإلكتروني؟
  • تماما، إن الحكومة كانت مشتتة بصورة لا يتصورها عقل ليس من ناحية اللجان وما كان يجري فيها فحسب، وإنما أيضا من ناحية تحديد درجة سرية الأوراق والمعلومات. وعلى سبيل المثال يمكننا أن نقول بصراحة تامة إن برنامج المعونات الأميركية لباكستان آنذاك كان في مقابل التسهيلات التي تمنحها باكستان للمخابرات الأميركية ولم يكن المسؤولون عن تقدير هذا البرنامج يعرفون شيئا عن وجود تلك التسهيلات ولم يكن مرخصا لأي شخص من العاملين في برامج المعونات بمعرفة أي شيء عن المعلومات التي تجمعها طائرات التجسس «يو-2» أو حتى عن وجود مثل هذه المعلومات وكان برنامج المعونات يدفع-آنذاك- أموالا لإيران وباكستان وتركيا مقابل استخدام هذه الطائرات لمجالها الجوي وكان كبار المسؤولين عن برنامج المعونات يقدمون تقريرا يطالبون فيه بمبلغ معين من المال لباكستان على سبيل المثال، ولكن الرد كان يأتيهم بفظاظة، حسنا ستحصل باكستان على أربعة أضعاف هذا المبلغ. ولم يعلم هؤلاء المسؤولون أبدا السبب في ذلك.
 
•        ماذا كان تأثير هذه الدرجة من السرية على السياسة الأميركية؟
  • حافظت الإدارة الأميركية إلى أقصى حد على سرية عمليات التصنت على الاتصالات وحادث الطائرة «يو-2» عندما أسقط الروس فرانسيس غاري باورز بطائرته فوق الأراضي السوفياتية ولم يكن هذا النوع من المعلومات متاحا إلا لعدد ضئيل من الأشخاص برغم أنها كانت معلومات ضرورية، وإذا افترضنا على سبيل المثال أننا قررنا في ذلك الوقت أنه لم يعد باستطاعتنا التعاون مع الحكومه الإيرانية أو الباكستانية وقررنا تعديل سياستنا فإن مدير وكالة المخابرات المركزية سيتوجه إلى رئيس الجمهورية قائلا: يا سيادة الرئيس هذه كارثة قومية، إنك لا تستطيع تغيير سياستك تجاه هذه الدول لأن ذلك يعني خسارة معلومات ضرورية للغاية من أجل بقاء الولايات المتحدة. إن خسارة التسهيلات الممنوحة لنا في شمال باكستان وفي إيران وتركيا يعني على سبيل المثال أننا لن نعلم إذا أطلق السوفيات صواريخ وكانت إيران أسهل الدول في التعامل معها لأنه لم يكن فيها تسهيلات كثيرة بالقدر الذي كان قائما في تركيا أو باكستان (وكان بولك وآخرون يحثون الإدارات الأميركية المتعاقبة دون جدوى للضغط على إيران من أجل إجراء إصلاحات داخلية. 

وكانت منطقة بيشاور في باكستان أهم مركز للنشاط الأميركي وعندما لم تعد هذه التسهيلات متاحة كان من الضروري البحث في احتمالات أخرى ومن بين الاحتمالات التي قمت بدراستها احتمال انطلاق طائرة التجسس «يو-2» من حاملة طائرات، ولم يكن ذلك ممكنا بالطبع لأن الطائرة «يو-2» كانت عبارة عن طائرة شراعية أساسا مزودة بمحرك ولهذا لم تكن قادرة على تحمل الإقلاع أو الهبوط على حاملة طائرات.
 
الأسبوع المقبل الحلقة الثانية

font change