بطبيعة الحال ليس كل كتاب يُشترى يُقرأ، فهناك مِن المهتمين، سواء كان الأمر في السعودية أو في بلاد أُخرى، يقتنون الكتب رغبة في امتلاك مكتبة، يضمون إليها النَّادر والنَّفيس، في مادته أو تاريخه، أو ما تهواها الأعين مِن العناوين. فالمكتبة شأنها شأن القواميس أو المعاجم، على مختلف أنواعها واختصاصاتها، لا تُقرأ كلها إنما تراجع بين الحين والآخر عند الحاجة، وليس بالضرورة أن يُقرأ كل كتاب يُقتنى، لكنها علامة على عافية ثقافية، أو بعبارة أخرى ظاهرة ثقافية صحية أن يُصرف المال في امتلاك الكتب لا في ما يضر صحة الإنسان وعقله مِن الأشياء الاُخر.
العقل هو المميز
الراغب في المكتبة لا يفرق بين الكتب، إنما يضم إليها ما تقع عينه عليه وتصل يده إليه، فعند المباهاة يباهي بالعناوين النَّادرة وكثرة ما لديه، وما يُحجب من العناوين لعلة مِن العلل. وأرى أفضل ما قرأت، عند الأقدمين، في التعبير عن قيمة الكتاب والتعامل مع أي كتاب كان، والعقل هو المميز بين الباطل والحق والصَّالح والطَّالح، ما اتخذه إخوان الصَّفا وخِلان الوفا (القرن الرابع الهجري) ومارسوه في ذلك القرن الغابر.
قالوا: "وبالجملة ينبغي لإخواننا، أيدهم الله تعالى، أن لا يعادوا علماً مِن العلوم، ولا يهجروا كتاباً مِن الكُتب، ولا يتعصبوا على مذهب مِن المذاهب. لأن رأينا ومذهبنا يستغرق المذاهب كلَّها، ويجمع العلوم جميعها، وذلك أنه هو النَّظر في جميع الموجودات بأسرها الحِسية والعقلية، مِن أولها إلى آخرها، ظاهرها وباطنها، جليها وخفيها بعين الحقيقة، مِن حيث هي كلُّها مِن مبدأ واحد وعِلةٍ واحدة، وعالِم واحدٍ، ونفس واحدة، محيطة جواهرها المختلفة وأجناسها المتباينة، وأنواعها المُفننة، وجزئياتها المتغايرة"(الرسالة الخامسة والأربعين من رسائل إخوان الصَّفا).
كذلك ليس لنا إغفال ما قاله معاصر إخوان الصَّفا الشَّاعر أبو الطَّيب المتنبي (اغتيل 354 هـ) عندما جعل الكتاب أفضل الأصدقاء وخيرهم، أسوة مع الفرس، وكان مركب الشّجعان، في بيت مِن قصيدة نظمها العام 349 هـ، مادحاً قاتل كافور الإخشيدي (348 هـ):
أعزُّ مكانٍ في الدُّنى سَرجَ سابحٍ
وخيرِ جليسٍ في الزَّمان كتابُ
(اليازجي، العَرف الطَّيب في شرح ديوان أبي الطَّيب) ومطلعها:
مُنىً كُن لي أن البياض خضابُ
فيخفى بتبييضِ القرون شَباب
ماض وحاضر
كانت أسواق الكتب، أو لنقل معارضها الدَّائمة، تُعرف بدكاكين الوراقة أو الوراقين، فإن قالوا: "في الوراقين" يقصدون مكان بيع الكتب ونسخها وتجليدها وتجميل أغلفتها بتزويقها، ذلك في العهد العباسي، وفي عاصمته بغداد الكبرى آنذاك، ويتبارون في شراء الكتب وامتلاك النسخ النَّفيسة منها، وقد عمل في النَّسخ كبار أُدباء وكتاب أزمانهم، مثل أبي حيان التَّوحيدي(ت 414 هـ)، الأديب الأريب المعروف، وقد سئم النِّساخة عند الوزيرين ابن العميد (ت 363 هـ) والصاحب بن عباد (ت 385 هـ)، فعمرا مكتبتهما بما نسخ لهما هو وغيره مِن النُّساخ، وبعدها صنف فيهما كتابه الشَّهير "أخلاق الوزيرين" أو "ذم الوزيرين"، وفيه مادة أدبية هائلة فصيحة وبليغة.
يذكر ياقوت الحموي (ت 626 هـ)، في أهمية نسخة كتاب "الأغاني الكبير" لأبي فرج الأصفهاني (ت 356 هـ) الآتي: "قرأتُ على ظهر جزء مِن نسخة بكتاب الأغاني لأبي فرج: لقد ظٌلم ورَّاقه (ناسخه) المسكين، وإنه ليساوي عندي عشرة آلاف دينار (كان اشتراه بعشرة آلاف درهم)، ولو فُقد ما قدرت عليه الملوك إلا بالرَّغائب"(معجم الأُدباء، تحقيق إحسان عباس).
وكانت للكتب مزادات وأسواق حيَّة، حسب لغة عصرنا، نفهم ذلك من رواية الطَّبيب الحسين بن عبد الله والفيلسوف المعروف ابن سينا أبو علي (ت 428 هـ): "حضرتُ يوماً في الوراقين، والمنادي ينادي على كتاب في الحكمة، وعرضه عليَّ فأعرضت عنه، فقال لي: اشتره فصاحبه محتاج! فاشتريته بثلاثة دراهم، وإذا هو كتاب لأبي نصر الفارابي في أغراض ما بعد الطَّبيعة، فطالعته ففهمت الكتاب، وتصدقت على الفقراء بشيء كثير"(معجم الأدباء).
لقد تأدب عمرو بن بحر الجاحظ (ت 255 هـ) في دكاكين الوِراقة، أي المكتبات في لغتنا المعاصرة، وكان قارئاً نهماً، ورأيت مثله كثيرين في أيامنا هذه، ومنهم مَن التقيت به في معارض الكتب، ومنها معرض الرِّياض، للأسف لم أتذكر اسمه، لكن الرَّجل كان يفتح كيساً كبيراً ويضع فيه ما يشتري من الكتب، ويغلق هذا الكتاب ويفتح الآخر، وراقبته عن كثب، كيف يسأل بنهم عن أسماء الكتب، والمطبوعات الجديدة، فسألته: وهل تقرأها كلها! قال يكفي أني أمتلكها، ولو امتد يومي لقرأت أكثر من أربع وعشرين ساعة، الرَّجل لا أتذكر أنه كان كاتباً أو أديباً، بل قارئاً ومغرماً بحيازة الكتب.
أعود إلى ما روي عن الجاحظ (ت 255 هـ): "كان يكتري دكاكين الوراقين، ويبيت فيها للنَّظر.. فإنه كان يحضر لمجالسة المتوكل، فإذا أراد (الخليفة) القيام لحاجة أخرج كتاباً مِن كمه أو خفه وقرأه في مجلس المتوكل إلى حين عودته إليه، حتى في الخلاء، و (قال) إسماعيل بن إسحاق القاضي: فإني ما دخلت إليه إلا رأيته ينظر في كتاب أو يقلب كتباً أو ينفضها"(معجم الأُدباء).
أرى أن الرَّجل الذي رأيته في معرض الكتاب لو لم تكن له قدرة على تكلفة شراء الكتب لتقدم واكترى دكاكين الكتب ولبات فيها، وكم جاحظ مثله من القرائين في عصرنا.
كتب متنوعة
كانت كتب معرض الرياض متنوعة: أدبية وسياسية وتجارية واجتماعية وتراثية وتاريخية ودينية، وكتب الأطفال. كان الإقبال على الأصناف كافة، فمعايشتي للمعرض تمتد من الصَّباح وحتى المساء، في الغالب مِن الأيام، فليس هناك ما ينقص الإنسان مِن حاجة داخل المعرض. وكنت وصفت دكاكين الوراقين بالمخابز، ذلك لعظمة الإقبال على شراء الكتب، ومن مختلف الأعمار.
لاحظت ظاهرة لافتة للنَّظر، وهي أن مجموعة من الشباب الجامعيين فتحوا مركزاً لهم في داخل المعرض لاستبدال الكتب، يستقبلون الكتب القديمة أو التي قُرئت ونفدت الحاجة منها، وهذه تستبدل بكتب الآخرين، وعبر ذلك تحدث حركة وتواصل بين القراء تتخللها حوارات ونقاشات ثقافية وحول الكتب بالذات": أقرأت هذا، فاتك ذاك، أقرأ للكاتب الفلاني، وهكذا.
ولاحظت مكتبة حكومية جوالة تقف في الفضاء الذي أمام المعرض، داخل سيارة كبيرة، دخلتها وإذا داخلها طاولات ومقاعد تحيط بها رفوف مِن الكتب، وسألت عنها فقيل: هناك عدة مكتبات متجولات.
كان للكتاب الفكري موقع عند رواد المعرض، وعلى وجه الخصوص الفكري الديني والسياسي، يصعب عليَّ تذكر العناوين لكن مثل هذا النَّوع من الكتب كان الإقبال عليه واضحاً، ومنها كتب التنوير الدينية والفقهية. كذلك للكتب التراثية موقعها في نفوس رواد المعرض.
هناك إقبال على الكتب الخفيفة الظِّل، مِن قبل الشباب، النساء والرِّجال، كتب صغيرة الحجوم، وخفيفة اللغة، عبارة عن رسائل ووصايا مصاغة في لغة معاصرة.
[caption id="attachment_55238432" align="alignright" width="300"] معرض الكتاب.. مساحة للمعرفة [/caption]
لكن جمهور عريض لا يكف عن السؤال عن المكتبات التي تبيع مؤلفات العلامة في الاجتماع العراقي علي الوردي (ت 1995)، وكتب النقد الأدبي، والروايات الأجنبية المترجمة، وكتب الاكتشاف العلمي، والكتب السياسية. وجدت السعوديين، الذين كنت التقيهم داخل المعرض وفي الجلسات الثقافية، ممَن أعرفهم مسبقاً وممِن لا أعرفهم، مشدودين لكتب التُّراث، فقلما وجدت مَن لم يقرأ كتب الجاحظ وأبي حيان التوحيدي وابن قتيبة (ت 276 هـ).
التزم بعضهم بمشورة ابن خلدون (ت 808 هـ)، وقرأ الكتب التي اعتبرها أساساً في تعلم فن الكتابة: أدب الكاتب، والكامل في اللغة والأدب، والبيان والتبيين، والنوادر، بل رأيتها مسنودة إلى بعضها في مكتبات بعض الأصدقاء الشخصية. قال ابن خلدون: "وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم، أن أُصول هذا الفن (يقصد الكتابة) وأركانه أربعة دواوين، وهي: أدب الكاتب لابن قتيبة، وكتاب الكامل للمبرد، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب النَّوادر لأبي علي القالي، وما سوى هذه الأربعة فتوابع لها، وفروع عنها، وكتب المحدثين في ذلك كثيرة"(مقدمة ابن خلدون، تحقيق علي عبد وافي).
مازال الكتاب الديني والفقهي متفوقاً في المملكة العربية السعودية من ناحية القراءة والانتشار، لكن بعد فتح معارض الكتب، وفسح المجال لدخول العناوين المتنوعة، صار الاهتمام متنوعا والتفوق متعددا.
لقد تعددت المعارض داخل البلاد، ووجود المكتبات مثل مكتبة جرير، وفروعها في مختلف المدن السعودية، ومكتبة العبيكان وفروعها، والمكتبة التراثية (الاسم السابق) بالرياض وجلبها لعناوين مختلفة، إلى جانب مكتبات عدة لبيع الكتاب، مثل مكتبة الثلوثية، وهنا أكتب ما رأيته، وليس معنى هذا لا وجود لغير ما ذكرت، أخذت تداول الكتب الفكرية والأدبية يزداد، ناهيك عن المكتبات الإلكترونية، التي تباع فيها الكتب على شكل أقراص، فهذه هي الأخرى لها سوق عريض، لكن مشاهدتي للزحام، المنقطع النَّظير، في معرض الرِّياض على الكتب الورقية، تؤكد أن الوراقة ما زالت هي السيدة السائدة.
مكتبات عامة
غير المكتبات الخاصة ببيع الكتب هناك اهتمام واضح بالمكتبات العامة، كنت دخلت وطفت في ثلاث من كبرياتها: مكتبة الملك عبد العزيز، ومكتبة الملك فهد، ومكتبة الأمير سلمان، المجاورة لجامعة الملك سعود.
صحيح أن أكثر قراء ورواد هذه المكتبات من الباحثين الجامعيين والمتفرغين، لكن وجود الدوريات القديمة والحديثة فيها، والكتب المتنوعة، والأجواء المريحة للقراءة، تكشف عن مجتمع شبابي قارئ عريض هناك.
يتحدث تاريخ القراءة أو المكتبة العامة بالعاصمة الرياض بأنها افتتحت العام (1373) المصادف العام 1953 ميلادية، وعرفت بالمكتبة السعودية، ثم نشأت المكتبة الوطنية 1378 هـ والمصادف العام 1958 ميلادية.
وقد جمعت لهذه المكتبة المؤلفات من مختلف البلدان، حتى ان أحد المثقفين العراقيين وهو عبدالرَّزاق الحصان (ت 1964) قد أهدى مكتبته لها عبر السفارة السعودية ببغداد، هذا ما قرأته في جريدة الرياض السعودية، جاء في المراسلة مع مجلس الوزراء بشأن هذا الإهداء: "أتشرف بأن أنهي إلى علم سموكم بأن عبدالرزاق الحصان من كتاب العراق تقدم منذ سنة إلى سفارة جلاله الملك في بغداد، واضعاً مكتبته وقفاً على نجد، وسلم السفارة قسما من هذه المكتبة على أن يقدم القسم الآخر في ما بعد. ولدى تقديم كشوف الكتب المسلمة إلى السفارة وهي مرفقة بهذا مع المعاملة إلى فضيلة الشيخ محمد بن إبراهيم انتقى بعضها وترك الآخر. وبالنظر لأن القسم المتبقي يحتوى على كتب مختلفة فإن جلالة مولاي الملك يأمر بصدد الكتب المسلمة إلى السفارة بما يلي:
1- تجلب الكتب المذكورة إلى الرياض.
2- لدى وصولها إلى الرياض يكلف الموظف القائم بتفتيش الكتب الواردة، فما كان منها فيه مساس في أمور الدين أو غير مرغوب فيه يحرق حالاً، والباقي يسلم إلى دار الكتب السعودية التابعة لأمانة مدينة الرياض، فأرجو الأمر بإجراء اللازم نحو ذلك وتقبلوا بقبول فائق الاحترام.
بتاريخ 10/6/1378 هـ (جريدة الرياض، خمسون عاماً مضت بين أول مكتبة حديثة (المكتبة الوطنية) ومعرض الكتاب في مدينة الرياض، العدد 14501 المؤرخ في 7 مارس 2008).
كان عبد الرَّزاق الحصان باحثاً قومياً متعصباً، أثارت بعض مؤلفاته لغطاً، وكان ينادي بالوحدة العربية وبالتربية الإسلامية، وقد أحدث كتابه "العروبة في الميزان"(1935) ضجة لم تهدأ إلا بتدخل عالم الدين محمد حسين كاشف الغطاء (ت 1954)، وعمل مديراً لمكتبة الأوقاف، ثم هجر بغداد إلى الزبير، ثم أقام بالكويت وتوفي هناك.
على أية حال، يصعب رصد ماذا يقرأ السعوديون، بشكل دقيق، وبأسماء الكتب، ولكن مثلما تقدم، القراء كثر في مختلف المجالات، وهناك طبقات من الشَّباب القراء المجادلين في الشَّأن الثَّقافي، وما عادت هناك عواصم محتكرة للكتابة والطباعة والقراءة، مثلما كان يٌقال: القاهرة تكتب، وبيروت تطبع، وبغداد تقرأ. بل إن الكُتاب خارج القاهرة قد زادوا على ما في داخلها، والرياض واحدة من عواصم الكُتاب في مختلف المجالات، والطباعة زادت على ما في داخل بيروت، والقراء أوسع في العواصم الأُخر، ومنها الرياض.
صحيح أن تلك العواصم لها ظهير تاريخي في ما كتبت وطبعت وقرأت، مثلما تقدم الحديث عن الوراقة ببغداد العباسية، وأن هذه الفنون أو المجالات الثلاثة لها تراثها المقوم لها، لكن ماذا نقول عن النجدي القصيمي سليمان الدِّخيل (ت 1944)، قد افتتح مكتبة وأصدر جريدة ببغداد العام 1910! مع أن بنجد في تلك الآونة كان مَن يعتبر الكتاب مصدراً للشَّر، أو يكتنز الشَّر.
لقد تغيرت الدُّنيا، وتراكم تراث ثقافي وكتابي بين السعوديين، على طول الحجاز ونجد وبقية المناطق، وصار يُنظر إلى الناشرين السعوديين، وهم ليسوا بالقليل، على أنهم المنافسون، فبدلاً مِن أن يتكلف المؤلف السعودي بدفع المبالغ لنشر كتابه في دار لبنانية أو مصرية مثلاً، ينشر في دار سعودية، تمتلك مساحة من الحرية، ليست أقل مما هو في بلدان أُخر، أي التي يملكها سعوديون، مثل دور: "العبيكان"، و"مدارك"، وجداول" وغيرها.