* هل سيشهد العالم بعد أزمة كورونا ولادة نظام عالمي جديد قطباه أميركا من جهة، والصين من جهة أخرى، على وقع حرب باردة تذكرنا بتلك التي شهدها العالم بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة في القرن الماضي؟
يبدأ العقد الثاني من الألفية الثالثة بمأساة عالمية: «كوفيد-19» الآتي من الصين يجتاح الكرة الأرضية ويحجرها. مشهد غير مألوف. تتعطل الحياة فجأة وتنسحب من المدن الأكثر صخبا مثل نيويورك ولندن وباريس وميلانو ليحل صوت الموت الصامت.
يكتشف العالم مذهولا ضعف الإنسان وبنيانه الحضاري أمام وباء يجبره على الاختباء خوفا. ماذا يعني أن نرى الدول التي نعتبرها متقدمة علميا وسياسيا وثقافيا واقتصاديا تقف عاجزة عن مداواة أبنائها؟ سيكون من الصعب جدا على من دفع من مدخوله بانتظام ضرائب كبيرة للدولة كضمانة لخريف عمره أن يتقبل هذا الواقع ومن الطبيعي أن تترك حقبة كورونا آثارها على أكثر من صعيد..
يمكن القول إن العقد الثاني من الألفية الثالثة ستشهد تغييرات كثيرة في البنى الاقتصادية والسياسية في العالم. هذا ما تنكب على دراسته دوائر القرار السياسي والاقتصادي في العالم.
فأوروبا التي تبين أن نظامها الصحي ركيك إذا ما استثنيا ألمانيا والدول الإسكندنافية، ستشهد من دون شك صعود اليمين بقوة أكبر لتطالب مرة أخرى بالانفصال عن الاتحاد الأوروبي الذي أثبت عجزه الكامل عن مساعدة الدول الأعضاء الأكثر تضررا من انتشار الوباء في مدنها، لا سيما إيطاليا وإسبانيا. هذا الاتحاد الممول من ضرائب يدفعها الأوروبي لم يكن له في خضم المأساة أي تأثير يذكر على مجريات الأحداث. بل غاب ليترك هذا الدور لروسيا والصين.
فشل الاتحاد أمام مأزق كالذي شهدته الدول الأكثر تضررا من «كوفيد-19» سيدفع بسياسييها إلى إعادة تقييم هذه التجربة.
المتغير الثاني الذي سيشهده العقد الذي نبدأه سيتعلق أيضا بالبنية الاقتصادية والصناعية بشكل خاص وفي السلسلة المتعلقة بالعرض والطلب العالميين. فمن الواضح أن الغرب يفكر جديا في دور الصين كمركز صناعي عالمي وخطورته على أمنها القومي بعدما اعتمدت هذه الأخيرة الغموض والكذب حول حقيقة فيروس كورونا وامتنعت في بعض الأحيان عن مشاركة العالم بالمعلومات التي جمعتها حوله.
من هذه التغييرات التي بدأنا نراها مثلا عرض الحكومة اليابانية على مصانعها المتواجدة في الصين العودة إلى الإنتاج في البلاد مقابل مساعدات مالية ضخمة قاربت الملياري دولار، مع العلم أن الصين تعتبر الشريك التجاري الأول لليابان. بدورها أنجيلا ميركل المرأة المتزنة والتي لا تحبذ التصريحات الشعبوية خاصة في مجال العلاقات الخارجية لمحت إلى أن الصين لم تكن شفافة بخصوص الوباء الذي تتحمل عبء انتشاره. أما السويد فقد أغلقت كل المدارس الحكومية الصينية وألغت برامج التبادل التعليمي. الولايات المتحدة هي الأخرى صرحت بلسان وزير خارجيتها بومبيو أن الصين ستدفع الثمن، فيما قام محامون أميركيون برفع دعاوى مطالبة بتعويض قدره عشرون تريليون دولار أميركي عن الأضرار التي سببتها الصين جراء إخفائها حقيقة خطورة الفيروس.
هذا يعني أن العالم آت على متغيرات جذرية ستكون لها تداعيات كبيرة على الخريطة العالمية الصناعية والسياسية أيضا.
فالصين التي استثمرت طويلا وكثيرا كي تصبح البلد الصناعي الأول في العالم لن تتخلى عن هذا المركز، خاصة أنها تملك إمكانات هائلة. الصين تسعى لأن تكون القوى الأعظم في العالم وهي تنافس الولايات المتحدة في أكثر من مضمار. على هذا الأساس بدأت انتشارها في أفريقيا وهي تسعى للتوسع أكثر، وصولا إلى أوروبا، من خلال استراتيجية طريق الحرير.
الرئيس الأميركي دونالد ترامب كان أول من استشعر بخطر الصين على بلاده ومنافستها لقوتها المتعاظمة. وهو كان بدأ بمعركته التجارية باكرا مع بكين فارضاً رسوماً جمركية ليعيد بعضا من التوازن في موضوع التبادل التجاري بين البلدين والذي كان يميل لمصلحة الصين بشكل فاضح.
أمام هذا الواقع ستزيد الصين من إغراءاتها المالية لكثير من الدول التي ستعاني من ركود اقتصادي جراء الوباء العالمي، وستسعى لتوسيع علاقاتها التجارية لا سيما في أفريقيا وأوروبا وبعض دول الشرق الأوسط.
لن تقف الولايات المتحدة إزاء هذا الواقع متفرجة بل ستعمل سلاح العقوبات الاقتصادية والتهديد كما فعلت مع بريطانيا التي كانت تنوي توقيع عقد مع شركة هواوي لتركيب تكنولوجيا الجيل الخامس للإنترنت.
هل سيشهد العالم بعد أزمة كورونا ولادة نظام عالمي جديد قطباه أميركا من جهة والصين من جهة أخرى، على وقع حرب باردة تذكرنا بتلك التي شهدها العالم بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة في القرن الماضي؟
الأكيد أننا سنشهد عقدا متوترا فيه تغييرات كبيرة قد لا يكون الشرق الأوسط بمنأى عنها.