ذكرى«عودة القرم»

لا يرى غالبية السكان أن الحكم الروسي غير مرحب به

امرأة مسنة تسير إلى جانب سور قصر الخان الذي يطلق عليه أيضاً خان سراي في القرم، في 9 مارس 2014 في بخش سراي في أوكرانيا (غيتي)

ذكرى«عودة القرم»

* يشير ارتفاع نسبة التفاؤل في الجماعات العرقية إلى أن أغلب سكان القرم سعداء بترك أوكرانيا والانضمام إلى روسيا الأكثر ثراء
* عندما يدَعي النشطاء الأوكرانيون والساسة الغربيون أن سكان القرم «يعيشون تحت وطأة احتلال»، يخطئون في تعميم تجربة البعض على الجميع
* تشهد شعبية بوتين الإجمالية في روسيا انحساراً على مدار الأعوام القليلة الماضية، بعد أن وصلت إلى أعلى معدلاتها في أعقاب ضم القرم؛ وانخفضت الآن إلى 68 %

منذ نحو ستة أعوام، استولت القوات الروسية على إقليم القرم التابع لأوكرانيا. وسارعت موسكو بإجراء استفتاء في 16 مارس (آذار) عام 2014، لتضفي غطاء من الشرعية على الاستيلاء على شبه الجزيرة. وبحسب النتائج الرسمية، فقد صوَت 97 في المائة من سكان القرم لصالح الانضمام إلى روسيا، بيد أن أغلب المجتمع الدولي اعتبر الاستفتاء زائفاً يُجرى أمام فوهة بندقية. ووفقاً لهذا الرأي، لم تنضم القرم إلى روسيا طواعية، بل تم ضمها.
وقد حدد كل من روسيا ومنتقدوها تاريخين مختلفين لذكرى هذا الحدث. يحتفل المسؤولون الروس بذكرى الثامن عشر من مارس عام 2014، باعتباره يوم «عودة القرم» إلى وطنها الأم، عندما ضُمَت شبه الجزيرة إلى روسيا رسمياً. في المقابل، ينعى معارضو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حادث ضم القرم يوم 27 فبراير (شباط) عام 2014، وهو اليوم الذي شنت فيه القوات الروسية عمليات سرية للاستيلاء على شبه الجزيرة من أوكرانيا. 
في ذلك اليوم من العام الحالي، أصدر وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، بياناً صحافياً أعلن فيه أن «القرم أوكرانية»، قائلا: «الولايات المتحدة لم ولن تعترف أبداً بادعاءات روسيا لسيادتها على شبه الجزيرة. ونطالب روسيا بإنهاء احتلالها للقرم».
هل يشعر سكان القرم بأنهم يعيشون على أراضٍ محتلة تحت وطأة الغزاة الروس؟ بالتأكيد يشعر البعض بذلك؛ فقد وثقت منظمات حقوق الإنسان الدولية ونشطاء محليون الكثير من حالات القمع للمعارضة واعتقال النشطاء المنتمين إلى السكان التتر، الذين يشكلون أقلية مسلمة، باتهامات ملفقة بممارسة «الإرهاب». كما اقتحمت السلطات المحلية منازل نشطاء مشتبه بهم، وقمعت الإعلام المستقل، وحظرت «المجلس» وهو أهم منظمة مجتمع مدني تترية. ولكن لا تحظى تصورات الكتلة الأكبر من سكان شبه الجزيرة باهتمام مماثل في الغرب، كما تفعل تقارير المعارضين. توضح دراستان استقصائيتان أجريناهما في عام 2014 ثم مرة أخرى في عام 2019 أن سكان القرم كانوا ولا يزالون في الغالب يُفضلون الانضمام إلى روسيا. ولكن ذلك الشعور الشعبي يُعَقِد الرأي الغربي السائد بأن السيطرة على القرم ما هي إلا استيلاء عدواني على الأرض.
 
يظل الوضع قائماً
شابت استفتاء مارس 2014 في القرم أخطاء كبيرة. لقد أُجري بشكل عاجل في أوضاع استقطابية بعد غزو عسكري، وقاطعه معارضو روسيا. ولكن لا شك في أن أغلب، وبالتأكيد ليس كل، سكان القرم رحبوا بالانضمام إلى روسيا. كشف الكثير من استطلاعات الرأي التي أجريت في فترة الانضمام وما تلاها مباشرة عن تأييد واسع للانضمام إلى روسيا، كان من بينها استطلاع أجراه مركز ليفادا باسمنا في ديسمبر (كانون الأول) عام 2014. 
وبعد أن كتبنا في السابق عن نتائج هذه الدراسات، نبهنا إلى الانفصال الواقع بين المجتمع الدولي، الذي اعتبر الاستحواذ غير شرعي، والسكان داخل شبه جزيرة القرم، الذين يؤيدون عموماً تلك الخطوة، وأطلقنا عليه «لغز القرم». نعم، استخدمت روسيا قوة جائرة وتوسعية في عملياتها في القرم، وضربت بعرض الحائط القوانين والأعراف الدولية. ولكنها لم تضايق أغلب سكان القرم.
ومنذ عام 2014، ضخت موسكو مبالغ مالية كبيرة إلى القرم. وفيما يتعلق بقطع علاقات القرم بأنظمة المياه والكهرباء والغاز والمواصلات الأوكرانية، أدخلت روسيا شبه الجزيرة إلى شبكات البنية التحتية الخاصة بها بتكلفة هائلة. وأصبحت خطوط الكهرباء تمتد في الوقت الحالي إلى القرم من مدينة روستوف الروسية، وتمتد خطوط أنابيب الغاز تحت المياه إلى القرم من كراسنودار. وكان أكبر مشروعات روسيا طموحاً وجذباً للانتباه في المنطقة هو إنشاء جسر طريق وسكك حديدية طوله 19 كيلومترا يمر عبر مضيق كيرتش (الذي تم إنجازه عام 2019)، وهو مشروع هائل لا يربط القرم بروسيا ظاهرياً فحسب، بل يرمز أيضاً إلى رغبة إدارة بوتين في ربط القرم بوطنها الأم. وإلى جانب هذه المشروعات وغيرها، يأتي الآلاف من السكان الروس الجدد إلى القرم، وتجاوز عددهم ربع مليون وفقاً لبعض الإحصائيات. كما كانت القرم أسرع مناطق روسيا نمواً في عام 2019. وجذبت الكثير من السياح الروس.
وفي جزء من مشروع استطلاع موسع أُجري في بلدان الاتحاد السوفياتي السابق، طلبنا من مركز ليفادا العودة إلى القرم في ديسمبر (كانون الأول) عام 2019 لإجراء دراسة استقصائية لاتجاهات الجمهور هناك، بعد مرور خمسة أعوام على الدراسة الأولى. وشملت دراسة عام 2019 لقاءات وجهاً لوجه في المنازل مع 826 شخص، ولاقت نسبة استجابة بلغت 54 في المائة. واستعانت الدراسة بأسلوب طرح الأسئلة المباشرة وأخرى تجريبية تم تصميمها من أجل الوصول إلى إجابات صادقة وموثوقة بشأن الموضوعات ذات الحساسية. تتطابق النسب وفقاً للجنسية – وهو المصطلح الشائع للإشارة إلى الانتماء العرقي في دول الاتحاد السوفياتي السابق – في الدراسة مع نسبها في إحصائية القرم لعام 2014. 
وفي دراستنا، تم تحديد نسبة 66 في المائة من المجيبين بصفتهم روسا، و13 في المائة بصفتهم من التتر – وهي جماعة عرقية تركية تُشكِل نحو ثُمن عدد السكان في شبه الجزيرة – و16 في المائة بصفتهم أوكرانيين.
بوجه عام، أعطى ضم القرم إلى روسيا في عام 2014 للسكان سببا للتفاؤل، حيث أصبحت أغلبية سكان القرم تأمل في أن تتغير حياتهم للأفضل. وبعد مرور خمسة أعوام على مبادرات التنمية، واستثمارات تزيد قيمتها على 20 مليار دولار من موسكو، والاندماج مع البنية التحتية الروسية، هل تغيرت التوقعات في القرم؟
 

أشخاص يحملون أعلام روسيا في أثناء الاحتفالات بمرور السنة الخامسة على ضم القرم في سيمفروبول في 15 مارس 2019 (صورة إس تي آر- أ.ف.ب)
 



من خلال البيانات التي جمعتها الدراسة، من الممكن المقارنة بين رؤية سكان القرم لمستقبلهم في ديسمبر (كانون الأول) عام 2014، ورأيهم فيه بعد ذلك بخمسة أعوام. سئل المجيبيون على الدراسة عما إذا كانوا يتوقعون أن يصبحوا أفضل حالاً بعد عامين. كان روس القرم يشعرون بآمال عريضة في عام 2014 (توقع 93 في المائة منهم بتحسن أحوالهم المادية في غضون عامين)، ولكنهم كانوا أقل رجاء إلى حد ما في عام 2019 (انخفضت النسبة إلى 71 في المائة). أما التتر الذين أشاروا إلى أن ظنهم بأن الانضمام إلى روسيا سوف يجعل أوضاعهم تتحسن، فقد ارتفعت نسبتهم من 50 في المائة في عام 2014 إلى 81 في المائة في عام 2019. وظل أوكرانيو القرم متفائلين بصفة عامة؛ حيث أشار 75 في المائة منهم إلى أنه من المتوقع أن تتحسن أحوالهم في 2014، وهي نسبة قريبة من 72 في المائة التي تمثل من أعربوا عن ذلك في عام 2019. ويشير ارتفاع نسبة التفاؤل في جميع الجماعات العرقية إلى أن أغلب سكان القرم سعداء بترك أوكرانيا والانضمام إلى روسيا الدولة الأكثر ثراء.
وعلى الرغم من الصعوبات اللوجيستية اليومية المتعلقة بالانفصال عن أوكرانيا، فلا يزال تأييد تركها كما هو. ولا تزال نسبة الموافقة على نتائج استفتاء مارس عام 2014 مرتفعة كما هي بين الروس (84 في المائة) والأوكرانيين (77 في المائة) في ديسمبر (كانون الأول) عام 2019. لم تتغير أي منهما عن عام 2014. ومن المفاجئ أن معدلات تأييد الانضمام شهدت ارتفاعاً بين التتر، لتصعد من 21 في المائة في عام 2014 إلى 52 في المائة في 2019. على الرغم من أن الرقم الأخير ينخفض عن نسب بقية سكان شبه الجزيرة بنحو 25 إلى 30 نقطة. لطالما أخفت هذه الجماعة الأقلية مشاعر كراهية وريبة خاصة تجاه موسكو. 
في عام 1944، رحّل جوزيف ستالين جميع التتر من القرم إلى آسيا الوسطى كعقوبة لهم على ما تصوره من خيانتهم في أثناء الحرب العالمية الثانية. وبعد عام 1991، عاد أبناؤهم إلى أوكرانيا المستقلة، ولكنهم كافحوا من أجل استعادة ممتلكاتهم وبحثهم عن سبل عيش جديدة. ومن سبل قياس المميزات الاقتصادية الناتجة عن الانضمام إلى روسيا أن كثيرا من التتر تحسنت أحوالهم المعيشية في ظل الحكم الروسي. في الوقت ذاته، غادر كثير من الأوكرانيين والتتر القرم منذ عام 2014 (يمكن أن يصل عددهم إلى 140 ألف شخص بحسب بعض الإحصائيات)، وهؤلاء من المفترض أنهم لم يرغبوا في الحياة تحت الحكم الروسي.
كذلك يتفاءل سكان القرم بصمود روسيا في مواجهة الضغوط الاقتصادية الخارجية. وكانت الولايات المتحدة ودول غربية أخرى قد فرضت عقوبات اقتصادية على روسيا بعد ضمها لشبه جزيرة القرم. وبعد خمسة أعوام، هدأت المخاوف من تأثير هذه العقوبات بين السكان العاديين في شبه الجزيرة. وفي الدراسة الاستقصائية التي أجريناها عام 2014، أشار 80 في المائة إلى أنهم قلقون من تأثير العقوبات الدولية، وانخفضت هذه النسبة إلى 54 في المائة في عام 2019. ويبدو أن سكان القرم، مثل السكان في بقية أنحاء روسيا، اعتادوا الحياة في ظل العقوبات.
لقد انقضت خمسة أعوام حافلة منذ دراستنا السابقة، ولكن تكشف البيانات الحديثة في ديسمبر (كانون الأول) 2019 نتائج مشابهة لدراسة عام 2014 بين روس وأوكرانيي القرم ممن اتفقوا على أن حياتهم تحسنت منذ الانضمام إلى روسيا. ولكن موقف السكان التتر كان أكثر إيجابية على نحو ملحوظ في عام 2019 عما كانوا عليه في عام 2014. في ظل علاقات تاريخية شائكة مع الحكام المركزيين في موسكو – إلى حد كبير بسبب عمليات التهجير – كان التتر أكثر تشاؤماً حيال مستقبلهم بعد استفتاء عام 2014 من الروس والأوكرانيين. ولكن المسافة التي كانت بين آراء التتر والآخرين في عام 2014 تضاءلت كثيراً عام 2019. على سبيل المثال، وافق 19 في المائة فحسب من التتر المجيبين على الدراسة في عام 2014 على أن أوضاع القرم تحسنت منذ أن سيطرت روسيا على شبه الجزيرة؛ وفي عام 2019. ارتفعت هذه النسبة إلى 45 في المائة.
 
مجال للتحسينات
على الرغم من هذه النوايا الحسنة العامة والمواقف الإيجابية تجاه الانضمام لروسيا، سارع أغلب السكان بتحديد الصعوبات المستمرة في شبه الجزيرة. في عام 2014، توقع 73 في المائة من المجيبين على الدراسة وقوع مشاكل «كبرى» أو «كثيرة» في المرحلة الانتقالية للانضمام إلى روسيا. وبعد مرور خمسة أعوام، ظل الكثير من هذه المخاوف قائماً. طرحنا سؤالاً مفتوحاً في ديسمبر (كانون الأول) عام 2019 على جميع المشاركين في الإجابة، إذ طلبنا منهم تحديد أكبر ثلاث مشكلات في القرم. والإجابات المجمعة في الشكل البياني.
في تقييم مشاكل القرم، لم تختلف الآراء كثيراً بين الجماعات العرقية الأساسية الثلاث، حيث أعرب سكان القرم عن مخاوفهم الاقتصادية الكبيرة بشأن انخفاض المعاشات والرواتب واستمرار شبح البطالة. وجاء انخفاض الاستثمارات الحكومية في التعليم والرعاية الصحية في المرتبة الثانية في قائمة المخاوف. كذلك شعر سكان القرم بالقلق بشأن استدامة الاقتصاد المحلي، والتضخم، وانخفاض وتيرة تطوير البنية التحتية في الإقليم. وفي الوقت ذاته، رداً على هذا السؤال المفتوح، بدا سكان القرم أقل اهتماماً بالقضايا السياسية، ومنها طبيعة الحكم المحلي والوطني، وحقوق الإنسان والعلاقات مع أوكرانيا والدول الأخرى. ويتماشى هذا الموقف مع المشاعر الموجودة في كثير من دول الاتحاد السوفياتي السابق، حيث تحظى القضايا المالية بأولوية أمام المسائل السياسية.
أظهرت دراستنا في عام 2019 تضارب الآراء حول بوتين مهندس عملية ضم القرم. وتشهد شعبية بوتين الإجمالية في روسيا انحساراً على مدار الأعوام القليلة الماضية، بعد أن وصلت إلى أعلى معدلاتها في أعقاب ضم القرم؛ وانخفضت الآن إلى 68 في المائة، بحسب استطلاع رأي وطني أجراه مركز ليفادا في يناير (كانون الثاني) 2020. وبعد مراعاة أي تحيز شخصي عبر طرح سؤال تجريبي، تبلغ إجمالي معدلات شعبية بوتين 55 في المائة. ومن الملحوظ أن شعبيته أعلى بين الأوكرانيين (61 في المائة) والروس (60 في المائة) مقارنة بالتتر (34 في المائة فقط)، مما يشير إلى بقاء الارتياب في حكومة بوتين لدى بعض تتر القرم حتى وإن كانوا سعداء بتغيير الأوضاع الاقتصادية المحلية. وفي سؤال مباشر في عام 2019 عما إذا كانوا يثقون في بوتين، أشار 85 في المائة من سكان القرم إلى ثقتهم في الرئيس الروسي، وهي النسبة ذاتها التي أشارت إلى ثقتها فيه عام 2014.
 
سعداء معاً؟
لا يجب تفسير نتائج هاتين الدراستين كتفنيد لصورة القرم التي يقدمها النشطاء الأوكرانيون والمنظمات الحقوقية في الغرب. وكانت شهادة حديثة قُدمت أمام الكونغرس قد أظهرت صورة قاتمة عن «الحياة تحت وطأة الاحتلال» في القرم. لا شك في أن انتهاكات حقوق الإنسان تحدث في شبه الجزيرة. والحياة صعبة على أراضي القرم بالنسبة للنشطاء، وهؤلاء الذين لا يزالون يعارضون قرار الضم. ويظل الفساد مستشرياً.
ولكن عندما يدَعي النشطاء الأوكرانيون والساسة الغربيون أن سكان القرم «يعيشون تحت وطأة احتلال»، يخطئون في تعميم تجربة البعض على الجميع. لا يرى غالبية سكان القرم أن الحكم الروسي قمعي أو أجنبي أو غير مرحب به. ولكن بناء على أدلة من الدراستين اللتين أجريناهما، هم سعداء بصورة معقولة للعيش في ظل روسيا بوتين.
 
* نشر هذا المقال في الأصل على موقع فورين آفيرز foreignaffairs.com

font change