* لقد فشل حكم الطوائف بلبنان فشلا ذريعاً ولم ينتج عنه سوى مآسٍ متعددة الأوجه أوضحها الحرب الأهلية، وأكثرها فجاجة طور الانهيار الذي نعيشه
لا يزعم هذا المقال احتكارًا في نقد تحكم الطوائف بالوطن والمواطن. كما لا يدعي صوابًا يتقدم على ما عداه من إسهامات فكرية ونقدية حاولت كثيرًا إعادة اللبنانيين إلى سويتهم الوطنية وجعلها أولاً على الطائفة. لكن في كل الأحوال ينبغي نقد التجربة الطائفية السياسية اللبنانية بعد مرور 77 عاما على ممارستها ومراكمتها الفشل السياسي والاقتصادي والاجتماعي. كما تتأتى الأهمية المضافة من كون لبنان يودع مئوية ويَلِجُ أخرى على إيقاع انهيار مريع لم يبقِ على شيء في السياسة والاقتصاد والاجتماع، إذ راكم الفشل تلو الآخر حتى بلغنا قعرًا غير مرئي.
الفشل الأول كان سياسياً مع زعماء الموارنة. فالميثاق الوطني (أو ما يُعرف بصيغة العام 1943) بما أنه اتفاق غير مكتوب، بقدر ما كان عُرفًا أقوى من القوانين الدستورية ومثيلاتها العادية، ارتكز على أمرين ليعطي الجماعة المارونية كطائفة امتيازات حكموا من خلالها لبنان.
أولى تلك الركائز كانت الخوف من غلبة المسلمين الديموغرافية وذوبان الموارنة في بحر «الأمة الإسلامية». أما ثانيها فقد كان في الإحصاء السكاني الذي أعطاهم التفوق العددي على المسلمين ليبرروا من خلاله استحواذهم على مفاصل القرار في دولة لبنان الكبير.
على هذا الأساس تسلم الموارنة دفّة البلاد منذ العام 1943، لكنهم اصطدموا منذ البداية بإشكالية المزاوجة بين انتماء طائفي وولاء وطني. والثاني، أي المواطنة، بدت على الدوام سبباً لخسارة امتيازات الطائفة وبالتالي الزعامات التي تستثمر فيها وتستغلها، مُجبِرة اللبنانيين على تقديم ولاءاتهم الطائفية من أجل تسيير أمورهم، بدلاً من ركونهم لمؤسسات الدولة التي تعمل على قاعدة مفاضلة المواطنة ومن دون أي تمييز.
لم يبذل الموارنة جهدًا لتطوير العقد الاجتماعي ونقل لبنان من الطائفية إلى المواطنية، وظلوا في مربع «الاستثناء اللبناني» القائم على «تفاهم» المسيحيين والمسلمين على منع الذوبان في محيط «الأمة الإسلامية» مقابل عدم «تغريبه»، وكل ذلك كان ذريعة للاحتفاظ بالامتيازات.
كل ذلك كان يجري من دون أي اعتبار للظلم الأخلاقي والقانوني والسياسي الذي نزل بمن قدم مواطنته على أي انتماء مذهبي وديني، وتمسك بإيمانه كعلاقة روحية مع الله وعلى أساس الفصل بين المدني والمقدس. فما هو سياسي مدنس حكما، أما ما هو ديني فهو المقدس.
وإذا كانت التطورات السياسية والإقليمية دفعت بالموارنة إلى التمسك بنهج المحاصصة الطائفية، كالعامل الفلسطيني مثلا في السبعينات من القرن الماضي، أو من قبله مع سطوة الناصرية وتأثيرها العميق في الحياة السياسية اللبنانية، فكان الصحيح وطوق النجاة هو اعتبار أن هذا النهج الطائفي هو في أساس هشاشة الشعور الوطني لدى اللبنانيين والذي تغلب عليه شعور الانتماء المذهبي والذي سيلعب الدور الأهم في التطورات المأساوية التي ضربت لبنان، وفي الاقتتال الأهلي الذي ميّز تلك الحقبة.
لقد فشل الموارنة في البناء السياسي رسمياً عام 1975، وانتهت حقبة لتبدأ أخرى بعد 15 سنة من حرب أهلية، إذ انعقدت قيادة البلاد سياسياً مع اتفاق الطائف لصالح «أهل الأُمة» من الطائفة السنية الكريمة، خصوصًا مع رفيق الحريري، الرجل «ذو النعل الذهبي» كما رآه عمر ميرالاي المخرج السوري الفذ في محاولته لثبر أغوار هذا الملياردير النيوليبرالي ذات العلاقات الدولية المتشعبة والذي دخل عالم السياسة من بوابة اتفاق الطائف الذي عدل على الميثاق الوطني من حيث الصلاحيات المطلقة التي أعطيت لرئيس الجمهورية الماروني.
ارتكز مشروع الحريري علـى فكرتين، الأولى السلام العربي الإسرائيلي الآتي إلى الشرق الأوسط، والإمكانات التجارية الهائلة التي ستستفيد منها الدول الإقليمية. أما الفكرة الثانية فعملت على زيادة النمو الاقتصادي وتكبير حجم الأعمال واستقطاب الشركات العالمية لتختار من لبنان مقرها الإقليمي ليعيش اللبنانيون ازدهارا ويهتموا بأعمالهم ويبتعدوا عن السياسة وتعقيداتها.
وبدأت على هذا الأساس مرحلة الإعمار والاستدانة وازدهرت السياحة وكل الأعمال التي تنبت على ضفافها من مطاعم وفنادق وملاهٍ ليلية. ولكن حساب حقل الحريري أصدم بعوائق بيادر سورية وإيرانية ولبنانية داخلية، حيث رأى فيه الموارنة زعيمًا مخيفًا بقدراته الداخلية وإمكاناته الخارجية عربية وإسلامية ودولية والقادرة على الإطاحة بطموحات النظامين السوري والإيراني للسيطرة على لبنان وإقامة «الهلال الشيعي».
خلال ذلك غرق لبنان بدوامة الاستدانة وأصيب مشروع الحريري الإعماري بالانكماش، خاصة أن السلام العربي الإسرائيلي لم يأت.
انتهت مرحلة السنية الاقتصادية مبدئياً مع تعيين بشار الأسد رئيساً لسوريا خلفا لوالده عام 2000، ورسمياً باغتيال الحريري عام 2005 لندخل مرحلة الشيعية الأمنية المرتبطة بإيران ومشروعها التوسعي في المنطقة.
هذا المشروع تسارعت وتيرته مع تعيين بشار الأسد رئيساً لسوريا، عندها بدأ ميزان العلاقات بين سوريا وإيران يميل بشكل كبير نحو الأخيرة، خاصة عندما اتضح للغرب الذي رحب بانتخاب طبيب عيون شاب درس في العاصمة الإنجليزية، أن الابن ليس سر أبيه على الأقل في مجال البقاء على سوريا دولة محورية بين الدول الإقليمية وفي الصراعات القائمة في المنطقة، وأن الآمال المعلقة على إصلاحات ما في سوريا وعلى سلام مع إسرائيل، لن تكون ممكنة لضعف الأسد ولقلة خبرته.
مع غياب الحريري الأب والتأكد من أن أقدام عسكر بوش لن تطأ أرض الشام لكي تفرض عليها أجندتها الديمقراطية بدأت قدرات «حزب الله» تتعاظم حتى بدت وكأنها «قوة إقليمية» نجحت في بناء الهلال الشيعي الذي يربط طهران ببيروت، ويتكئ على الطائفة الشيعية المتواجدة على مدى هذا الهلال.
وشاء القدر أن يقود باراك أوباما الولايات المتحدة الأميركية ويعطي زخما ودعما لهذا الهلال ما انعكس سيطرة لـ«حزب الله» على مفاصل السياسة في لبنان، بشكل غير مسبوق. ففي السياسة عطلوا انتخاب رئيس للجمهورية أكثر من سنتين ليأتوا بمرشحهم. وعلقوا تأليف الحكومة 9 أشهر ليفصلوها على مقاس استراتيجيتهم، وأقروا قانوناً انتخابياً أتت نتائجه على قدر تطلعات القيادة الإيرانية التي أعلنت أنها تسيطر على مجلس النواب اللبناني.
صعود سطوة «حزب الله» رافقه برنامج عقوبات أميركية حاول الرئيس أوباما عرقلته والإطاحة به عبر وقف برنامج كساندرا التابع لوكالة مكافحة المخدرات والتي كانت تتبع عمليات تبييض العملة التي كان يقوم بها «حزب الله» والتي أدت إلى معاقبة وزارة الخزانة الأميركية للبنك اللبناني الكندي بتهمة تبييض الأموال لصالح «حزب الله».
هذه العقوبات التي اشتدت على «حزب الله» مع انتخاب ترامب رئيساً للولايات المتحدة الأميركية وانسحابه من الاتفاق النووي الذي كان أعاد إيران إلى حضن الشرعية الدولية عبر رفع العقوبات الأممية عنها من دون أي تنازل يذكر، خاصة في ملفات التوسع الإقليمي أو برامج الصواريخ الباليستية، كشفت هشاشة الوضع الاقتصادي اللبناني الذي بدأ يدخل أزمات، جراء مراقبة عمل المصارف اللبنانية عن كثب وإخراج أعمال «حزب الله» ورجال الأعمال المقربين منه والمتعاملين معه من نظام المصرف العالمي، مما أدى إلى تباطؤ النمو وشلل قطاعات، منها قطاع التطوير العقاري الذي اعتمده لغسيل وتبييض أمواله.
كانت سطوة «حزب الله» على القرار اللبناني وتدخله بالحروب الإقليمية لصالح إيران ترفع منسوب التوتر مع الدول العربية التي قررت مقاطعة لبنان إن من ناحية المساعدات أو من ناحية مقاطعة السياحة فيه، علما بأن قطاع السياحة اعتمد دائمًا على السياح الخليجيين وقدراتهم الشرائية. كل هذا حصل وكان مترافقًا مع اتهامات طالت الحزب عن إقامته معامل للصواريخ الدقيقة بإشراف الحرس الثوري الإيراني، وهذا أمر يفوق طاقة لبنان على احتماله.
عمليًا، دخل لبنان المدار الإيراني مع «حزب الله» وأصبح يدفع ثمن هذا الخيار اقتصاديا ومن ثم ماليا، مما انعكس بطبيعة الحال أزمة اجتماعية مع ازدياد البطالة خاصة بين فئة الشباب.
الدولة اللبنانية في عهد زعماء الشيعة الذين جعلوا منها امتدادا أمنيا وعسكريا لإيران تنهار أو هي انهارت. وهي كانت تلقت صفعة كبيرة مع اغتيال مهندسها وقائدها سليماني.
ما نعيشه اليوم هو إرهاصات هذه الحقبة والتي لا نعرف إلى أي نهاية ستقودنا؟
لقد فشل حكم الطوائف بلبنان فشلا ذريعاً ولم ينتج عنه سوى مآسٍ متعددة الأوجه أوضحها الحرب الأهلية، وأكثرها فجاجة طور الانهيار الذي نعيشه.
على الجيل الجديد أن يتعلم من هذه التجارب وأن لا يسمع إلى من يمجد هذه التجربة ويصفها بالمعقدة والفريدة. فرادتها الوحيدة تكمن في أنها تكرر فشلها مع كل هيمنة جديدة لطائفة على لبنان.