حكومة تبون أمام رهان إنعاش الاقتصاد الجزائري

الشركات الخاصة تواجه شبح الإفلاس وتسريح عمالها

حكومة تبون أمام رهان إنعاش الاقتصاد الجزائري

* تعاني كثير من المؤسسات والشركات أوضاعًا معقدة، بسبب تراجع مستوى الاستهلاك بفعل الأزمة الاقتصادية، مما دفع بكثير من الشركات إلى تسريح عمالها، ودخولهم في بطالة إجبارية
* كثير من الشركات الخاصة تواجه شبح الإفلاس وتسريح عمالها، مثل شركة «كوندور» لتجميع الهواتف الذكية واللوحات الإلكترونية التي يوجد ملّاكها داخل السجن
* محفوظ كاوبي: المشاكل التي تعيشها المؤسسات الحكومية تعود إلى ضعف الدولة في سياساتها الاقتصادية، يضاف إليها الوضع الذي عاشته البلاد العام الماضي، والذي تسبب في حل أكثر من 150 ألف مؤسسة وتسريح 730 ألف عامل
* كمال سي محمد: إلغاء الضرائب على محدودي الدخل أمر غير متوقع، ومن الصعب تحقيقه
* بن يحيى: الركود المسجل في المجال الاقتصادي ككل ناتج عن غياب نظرة اقتصادية واضحة وجدية وواقعية، ومخطط عمل الحكومة لا يزال يفتقر إلى توضيح ووضع الآليات لأنه الآن مجرد خطوط عريضة

الجزائر: رغم أن الجزائريين نجحوا خلال عام من بداية حَرَاكهم الشعبي غير المسبوق في حصد الكثير من المنجزات والمكاسب السياسية، أبرزها إجهاض مشروع الولاية الخامسة للرئيس الأسبق عبد العزيز بوتفليقة، وإدخال أبرز رموز نظامه سجن الحراش بتهم تتعلق بقضايا فساد، إلا أنهم يتطلعون لأن تنعكس هذه المتغيرات على حياتهم اليومية والمعيشية، فالأوضاع السياسية التي شهدتها البلاد خلال هذا العام، انعكست سلبًا على أوضاعهم الاقتصادية والمعيشية، حيث تشهد قدرتهم الشرائية تراجعًا كبيرًا، كما تعاني الكثير من المؤسسات والشركات أوضاعًا معقدة، بسبب تراجع مستوى الاستهلاك بفعل الأزمة الاقتصادية، ما دفع بالكثير من الشركات إلى تسريح عمالها، ودخولهم في بطالة إجبارية.
وتعدُ شركات إنتاج الأجهزة الإلكترونية وتركيب السيارات من أبرز الشركات المتضررة، حيث دخلت في أزمة كبيرة، خاصة أن الكثير من مُلاّكها يقبعون في السجن، بتهم تتعلق بقضايا فساد، ما يهدد عشرات الآلاف من عمالها بمصير مجهول، والبداية كانت بأكبر شركة حكومية للأجهزة الإلكترونية المسماة بـ«الشركة العمومية الجزائرية لصناعة الأجهزة المنزلية»، بعدما أعلنت إدارتها عن تجميد نشاطها لوقت غير معلوم، بعد نفاد مخزونها من المواد الأولية، وعدم امتلاكها الأموال الكافية لتغطية عمليات استيراد جديدة، وتحت ضغط نقابة العمال البالغ عددهم 10 آلاف عامل، قررت وزارة الصناعة منح قرض بنكي للشركة بقيمة (83 مليون دولار)، لاستعادة نشاطها.
المؤسسة الحكومية المذكورة ليست الوحيدة التي تعاني بسبب تداعيات الأزمة الاقتصادية الخانقة، وبسبب الإجراءات الجديدة المقيّدة لعمليات استيراد المواد الأولية في قطاع الإلكترونيات، فالكثير من الشركات الخاصة تواجه شبح الإفلاس وتسريح عمالها، مثل شركة «كوندور» لتجميع الهواتف الذكية واللوحات الإلكترونية التي يوجد ملّاكها داخل السجن، التي أعلنت تسريح قرابة ثلاثة آلاف عامل لتخفيض كتلة الأجور الشهرية، ومواجهة المصاريف المرتفعة بعد تراجع عائداتها بعد توقف سلسلة التجميع جراء نفاد مخزون قطع الغيار، وهياكل الهواتف الذكية.
معاناة شركات التجميع للإلكترونيات على غرار مؤسسات «أونيام»، و«طومسون»، و«بيا إلكترونيك»، و«برانت»، و«ستارلايت»، و«جيون»، وضعية دفعت بمنتدى رؤساء المؤسسات وهو أكبر تكتل لرجال الأعمال، للتحذير من الوضعية المتدهورة التي تمر بها هذه الشركات وغيرها، كما حذّرت من التداعيات المحتملة على مصير آلاف العمال.

 

تبون


وبفعل الأزمة الاقتصادية، والقرارات الحكومية التي تهدف إلى التقليل من فاتورة الواردات، بعد تراجع عائدات البلاد من العملة الأجنبية بفعل تراجع أسعار النفط في الأسواق العالمية، شرعت مصانع تركيب السيارات هي الأخرى، في اتخاذ الإجراءات الرامية إلى تقليص عدد العمال، ويشير الخبير الاقتصادي محفوظ كاوبي إلى أن «المشاكل التي تعيشها المؤسسات الحكومية تعود إلى ضعف الدولة في سياساتها الاقتصادية، يضاف إليها الوضع الذي عاشته البلاد العام الماضي، والذي تسبب بحل أكثر من 150 ألف مؤسسة وتسريح 730 ألف عامل».
ويطالب نقابيون بضرورة تدخل الدولة للحفاظ على آلاف الوظائف المهددة عن طريق إنقاذ تلك الشركات من شبح الإفلاس، ويقترح البعض على الحكومة تأميم هذه الشركات على اعتبار أن أغلب هذه الشركات أنشئت بقروض حكومية، ويقترحون استعمال حق الشفعة عليها في حال إذا ما أعلن ملاكها إفلاسها، مثلما حصل مع مصنع «تونيك» وشركة «جازي» للاتصالات. ويذكر النقابي، منير بطراوي، أنه قد تقدم بمقترح لصالح عمال هذه الشركات لحكومة نور الدين بدوي سابقا، مشيرا إلى أن تعيين متصرفين إداريين لتسييرها كان إجراء مؤقتا، والأولى هو استرجاع هذه الشركات من قبل الدولة لأنه المتنفس الوحيد للعمال الذين يعيشون حالة قلق كبيرة.
الشركات السياحية هي الأخرى تعاني بسبب تدهور القدرة الشرائية للجزائريين، وفي بيان لها، كشفت النقابة الوطنية للوكالات السياحية عن معاناة أكثر من ثلاثة آلاف وكالة سياحية منتشرة في مختلف المدن الجزائرية مع الأزمة الاقتصادية، وكشف البيان عن تراجع رقم أعمال هذه الوكالات بنسبة تتجاوز 90 في المائة، مما يضعها أمام مخاطر شبح الإفلاس، جراء تراجع نسبة الحجز للسياحة الداخلية والخارجية، وهذا بفعل انهيار القدرة الشرائية للجزائريين.
وفي حديثه لـ«المجلة» يكشف القيادي في نقابة الكناباست مسعود بوديبة بأن «القدرة الشرائية للجزائريين في تدهور وتراجع مستمر»، وتوقع حدوث «احتجاجات واسعة مستقبلا في حال استمرار الوضع على حاله»، وبرأي بوديبة فإن «المؤشرات الاقتصادية والتوقعات تشير إلى ذلك، وأبرزها ارتفاع نسبة التضخم، وانخفاض القيمة المحلية»، وهذه الأسباب هي التي قسمت حسب حديثه الجزائريين إلى «فئتين الأولى تصنف في دائرة الفقر بأكثر من 80 في المائة، والثانية تمتلك الثروة وتزداد غنى، بعدما تم القضاء على الطبقة المتوسطة».
وتشير دراسة أجرتها النقابة سابقًا إلى أن الأجر الأدنى للعيش وفق أبسط المعايير يجب أن لا يقل عن 50 ألف دينار أي ما يعادل 350 دولارًا لعائلة من خمسة أفراد ولها مسكنها الخاص، في حين أن الأجر القاعدي الحالي (الأجر الذي يحسب على أساسه التقاعد) لا يتجاوز 18 ألف دينار أي ما يعادل 120 دولارًا.



ومما عمّق من معاناة الجزائريين هو التراجع المستمر لقيمة الدينار المحلي، فبعد شهر من الحراك فقط نزلت قيمته لمستوى غير مسبوق في تاريخ البلاد، حيث قدرت قيمة الدينار في السوق الموازية مقابل العملة الأوروبية الموحدة «اليورو» بـ218 دينارا مقابل كل واحد يورو، كما شهدت في الأسواق الرسمية تراجعا بنسب مماثلة، ولأن أغلب السلع الاستهلاكية تستورد بالعملة الصعبة فقد كان لهذا الأمر انعكاس مباشر على ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية في الأسواق المحلية.
بروز وباء كورونا هو الآخر أثر على التعاملات الاقتصادية للجزائريين خلال الفترة، ولأن الجزائر بلد مستورد، فقد أثر ظهور الوباء في الصين على نشاطات الاستيراد والتصدير، وتكشف الفيدرالية الجزائرية للاستيراد والتصدير والتجارة الدولية، عن تجميد نشاط نحو 12 ألف تاجر لتعاملاتهم بسبب تعليق الرحلات الجوية نحو الصين، وهو ما يهدد بشل قطاعات كثيرة، وتسريح آلاف العمال في حال تواصل تعليق الرحلات.
المؤشرات الاقتصادية السابقة ألقت بضلالها على مخطط عمل الحكومة الجديدة الذي أعده الوزير الأول عبد العزيز جرّاد، حيث آثرت أول حكومة للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون الحفاظ على الطابع الاجتماعي للسياسة الحكومية، وقدمت مخطط عمل عالي السقف على صعيد الدعم الاجتماعي والاقتصادي، وقررت الحكومة رفع الحد الأدنى المضمون للأجر الوطني شهريا والمقدر حاليا بـ18 ألف دينار جزائري (120 دولارا)، مع مراجعة «الأجر القاعدي» لكل الموظفين والعمال.
وفي سبيل تحقيق مستوى معيشي أفضل للجزائريين، أعلنت الحكومة جملة آليات منها إسقاط الضريبة على النشاط المهني، مما يؤدي إلى خفض طفيف في تكلفة المنتجات في السوق، مع أن هذه الضريبة كانت تشكل موردا أساسيا لتمويل الجماعات المحلية بعائدات سنوية قدرها ثلاثة مليارات دولار. كما ألغت الضريبة على الدخل الإجمالي لذوي الأجر الأقل من 30 ألف دينار جزائري (150 دولارا)، علاوة على تعهدات بإطلاق مشاريع عمومية في مجالات السكن والصحة والتعليم وغيرها.
ويتساءل خبراء عن مدى قدرة الحكومة على تنفيذ هذه الإصلاحات بالنظر إلى غياب الموارد المالية لذلك، حيث من المتوقع أن تسجل الجزائر عجزًا في تمويل أنشطة الدولة خلال الثلاث سنوات القادمة بمبلغ يصل إلى 55 مليار دولار، ومن المتوقع أن يسجل الميزان التجاري عجزا بـ6.11 مليار دولار حسب معطيات المديرية العامة للجمارك. وحسب متابعين، فإن الواقع يجعل خيارات التمويل محدودة أمام الحكومة للوفاء بالتزاماتها، في وقت أكد فيه الوزير عبد العزيز جراد قدرة فريقه على حشد الموارد اللازمة، في حين لم يستبعد الاقتراض الخارجي من البنوك الدولية للتنمية.
وفي حديثه لـ«المجلة» يؤكد الخبير الاقتصادي كمال سي محمد أن «إلغاء الضرائب على محدودي الدخل أمر غير متوقع، ومن الصعب تحقيقه لسببين الأول أن الضائقة المالية التي تمر بها البلاد لا تسمح بهكذا إجراء، كون العمل بهذا الإجراء يكلف خزينة الحكومة أكثر من 300 مليار دينار، أي ما يعادل 3 مليارات دولار، وهي ثلث الإيرادات من الضرائب على الدخل العام»، وهذا المبلغ يشكل حسب حديثه «نسبة كبيرة من عجز الموازنة، وزيادته من شأنه مضاعفة تداعيات الأزمة التي يعيشها الجزائريون».
والسبب الثاني حسب سي محمد فإن «هذا الإجراء يربك معيار الأجور، ويصبح المستفيد من هذا الإجراء يتساوى مع من هم أعلى منهم تصنيفًا ومرتبة اصطلاحية، وهذا يعكس عدم عدالة الأجور وعشوائية السلم التنقيطي الاستدلالي»، كما أن هذا الإجراء يتابع سي محمد «من شأنه المساس بقانون التوظيف العمومي وقانون الضرائب، والقانون في حد ذاته لا يسمح بإدخال أو إعفاء من الضرائب إلا بالمرور على قانون المالية أي الموازنة الأساسية أو التكميلية، الذي يتوقع أنه سيأتي مبكرا لإجراء إصلاحات اقتصادية والتخلص من تبعات قانون المالية لعام 2020»، والذي لا يصلح حسب حديثه لـ«الوعود التي أطلقها الرئيس عبد المجيد تبون».
وتابع سي محمد قائلا: «تحقيق وعود الرئيس الاقتصادية وبلوغ النمو الصناعي والفلاحي وإنعاش الخزينة لن يتأتى دون تبني سياسة تعتمد على تقليص فاتورة واردات السلع والخدمات التي تتجاوز اليوم 50 مليار دولار»، وشدد على أن «الإصلاح الاقتصادي الكلي خاصة في وزارة المالية والبنك المركزي يجب أن يحتل الأولوية قبل النهوض بباقي القطاعات الاقتصادية وما دام الخلل في الضرائب والإنفاق وغياب الرقمنة وبقاء السوق الموازية للعملة، وعدم مراجعة الشراكة اليوروجزائرية والتعريفات فإنه من الصعب الخروج من عنق الزجاجة».
من جانبه يرى الخبير الاقتصادي فريد بن يحيى أن «هذا الركود التجاري والاقتصادي الذي تعيشه الجزائر سببه انهيار القدرة الشرائية للجزائريين، وانخفاض قيمة الدينار المحلي إلى 24 في المائة، والذي كان له انعكاس مباشر على تراجع القدرة الشرائية بنسبة 50 في المائة».
وأضاف بن يحيى في تصريح لإحدى الصحف المحلية بقوله «إذا ما قمنا بمقارنة بين القدرة الشرائية للمواطن الجزائري ونظيره في أي بلد عربي أو من أفريقيا نجد أنها الأضعف»، وأشار إلى أن «متوسط الأجر في الجزائر هو 286 دولارا بينما في الأردن يزيد على 1600 دولار، وحتى في فلسطين فمتوسط الأجر يبقى أفضل من الجزائر حيث يقدر بـ680 دولارا، أما في الإمارات والسعودية 8 آلاف بالنسبة للسعودية وأكثر من 3 آلاف بالإمارات»، وشدد الخبير على ضرورة التوجه إلى «إعادة سياسة النقد من خلال طبع نقود جديدة لإعادة التوازن المالي». واعتبر أن «الركود المسجل في المجال الاقتصادي ككل ناتج عن غياب نظرة اقتصادية واضحة وجدية وواقعية»، واعتبر أن «مخطط عمل الحكومة لا يزال يفتقر إلى توضيح ووضع الآليات لأنه الآن مجرد خطوط عريضة».

 

مصطفى زبدي


من جانبه يؤكد رئيس المنظمة الجزائرية لحماية المستهلك مصطفى زبدي لـ«المجلة» أن «عدم الاستقرار السياسي في البلاد منذ بداية الحراك أثر على السلوك الاستهلاكي للجزائريين، فمن الطبيعي، أن يحدث انكماش في نسب الاستهلاك، وهذا الأمر يؤكده خبراء علم الاجتماعي السياسي، فإثر كل أزمة سياسية يحدث انكماش اقتصادي إحدى أبرز سماته تراجع نسبة الاستهلاك والتي تتأثر بارتفاع نسب التضخم، كما أن الأجور في الجزائر لم تشهد ارتفاعًا منذ أعوام».
واعتبر زبدي أن «مخطط عمل الحكومة الذي صادق عليه مجلس الوزراء ونواب البرلمان مؤخرا، والذي يجسد التزامات الرئيس تبون التي أطلقها خلال الحملة الانتخابية يحمل بعضًا من التفاؤل في تحسين الأوضاع المعيشية للجزائريين من خلال مجموعة القرارات المعلن عنها، وأبرزها إلغاء الضريبية على محدودي الدخل».
وبخصوص رده عن سؤال يتعلق بظاهرة الاحتكار التي تعد من بين أسباب ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية، أكد زبدي أن «الاحتكار ظاهرة»، مشددا على أن «احتواء هذه الظاهرة يحتاج إلى آليات وأدوات أبرزها الشفافية في المعاملات التجارية»، مؤكدا عن دعمه للحرب المعلنة مؤخرًا من طرف وزارة التجارة على الظاهرة التي يقول إن «حسمها يتطلب وقتًا بسبب استفحالها».

 

الحاج الطاهر بولنوار


وبالنسبة لرئيس الجمعية الوطنية للتجار والحرفيين الجزائريين الحاج الطاهر بولنوار فإن الحراك الشعبي أثر سلبًا على المعاملات التجارية، فمنذ بداية الحراك يكشف لـ«المجلة» أعلن «نحو 70 آلف تاجر عن سحب سجله التجاري، بسبب الركود الذي تشهده السوق الجزائرية»، وأكد بولنوار أن «استمرار عرقلة حركة المرور وغلق مداخل العاصمة ليومي الثلاثاء والخميس والجمعة على مدار عام كبد التجار خسائر بالجملة، ودفع بالكثير منهم إلى توقيف النشاط أو تغييره».
ويؤكد بولنوار أن «بعض النشاطات التجارية عرفت تراجعًا كبيرًا بسبب تراجع الطلب من طرف الممونين وانحصار حركة تنقل السلع، وأيضا عزوف عدد كبير من الأجانب عن تموين السوق الوطنية ونقلهم للسلع إلى الجزائر، وإلغاء سياسة الدفع البعدي، وتراجع زيارات رجال الأعمال، والوفود الاقتصادية وإلغاء عدد من الصالونات والمعارض بفعل غياب الاستقرار السياسي في الجزائر».
 

font change