* بلغ عدد الجنود الأتراك الذين انتشروا في إدلب وحلب أكثر من 7600 جندي تركي... وروسيا أرسلت سفينتين حربيتين مزودتين بصواريخ كروز إلى المياه قبالة الساحل السوري بعد مقتل 33 جنديا تركيا
* خلال شهر فبراير الحالي أدخل الجيش التركي أكثر من 2850 شاحنة وآلية عسكرية إلى إدلب، حملت دبابات وناقلات جند ومدرعات وكبائن حراسة متنقلة مضادة للرصاص ورادارات عسكرية
* تحتل إدلب أهمية استراتيجية كبرى، تتمثل في موقعها على الطريق الدولي الواصل بين تركيا وسوريا والأردن والخليج العربي، كما تمتلك أهمية خاصة على الصعيد المحلي
* تعكس التوترات الأخيرة في مدن وقرى إدلب المختلفة طبيعة التوافقات التي تحولت لتغدو تناقضات بين الموقفين الروسي والتركي حيال اتفاق سوتشي والخاص بإقامة مناطق خفض التصعيد
* تقدم النظام في إدلب أضحي يشكل عائقا متصاعدا أمام الطموح التركي، بما بات يخلق تحديات متعددة المستويات في العلاقات التركية-الروسية
* اعتمد الموقف التركي على توظيف التوترات التي تشهدها العلاقات مع روسيا من أجل تعزيز السياسة المحلية، وذلك في محاولة للتغطية على الارتدادات العكسية لتزايد أعداد القتلي الأتراك في الميدان السوري
أنقرة: إثر مقتل 33 جنديا تركيا في ضربة جوية نفذتها قوات النظام السوري مساء الخميس 27 فبراير (شباط) 2020 بمحافظة إدلب، اجتمع حلف شمال الأطلسي (الناتو) على مستوى السفراء لمناقشة طلب أنقرة بفرض منطقة حظر طيران فوق سوريا. من جهته، أعرب الأمين العام للحلف ينس شتولتنبرغ عن إدانته الهجمات التي يشنها النظام السوري وحليفته روسيا، وطالب بوقفها.
وقد رفضت أنقرة رواية موسكو التي عزت استهداف الجنود الأتراك بعدم إبلاغ السلطات الروسية بوجودهم في المنطقة التي تعرضت للقصف. ويحق لأي دولة عضو بالناتو -بموجب المادة 4 من معاهدة واشنطن التي أسست الحلف- طلب إجراء مشاورات إذا كانت تعتقد أن سلامة أراضيها أو استقلالها السياسي أو أمنها معرض للخطر.
الصراع في إدلب
مساران تسلكهما كل من موسكو وأنقرة فيما يخص الصراع الدائر في مدينة إدلب، أحدهما يقوم على الجهود الدبلوماسية لاحتواء الأزمة المشتعلة والآخر يتأسس على تعظيم التحركات العسكرية لإحباط مخططات الطرف الآخر وفرض الأمر الواقع الذي يصعب تجاوزه عبر مسار المفاوضات بين الجانبين. لذلك تعددت جولات التفاوض وتباينت تصريحات الجانبين في هذا الشأن، ولكن الثابت الذي لم يتغير أن كل طرف عزز حضوره العسكري في المدينة السورية ذات الأهمية الاستراتيجية.
وعلى الرغم من السعي المشترك للتوصل إلى اتفاق نهائي بشأن رسم خريطة جديدة في إدلب (شمال غربي سوريا)، ترضي الطرفين، إلا أن هذا الاتفاق لا يزال بعيدا، رغم تعدد الجولات التفاوضية التي خصصت لذلك، إذ اجتمعا مرتين في العاصمة التركية أنقرة، ومرتين في العاصمة الروسية.
وجاءت الاجتماعات على خلفية احتدام المعارك بين قوات النظام السوري مدعومة بطائرات روسية؛ وفصائل معارضة مدعومة من قبل الجيش التركي، في ريف إدلب، ولم يحل ذلك دون توصل الطرفين إلى اتفاق يقضي بتسيير دوريات روسية - تركية جديدة في محافظة الحسكة شمال شرقي سوريا.
مواقف البلدين المتباينة حيال إدلب ارتبطت بثقل المدينة وأهميتها الاستراتيجية وموقعها المحوري، حيث تقع شمال غربي سوريا مقابل ولاية هطاي جنوبي تركيا، ويحدها من الشمال الغربي ولاية هطاي، ومن الشرق محافظة حلب السورية، ومن الشمال الشرقي مدينة عفرين (تتبع ريف حلب)، ومن الجنوب محافظة حماه، ومن الجنوب الغربي محافظة اللاذقية.
وتحتل إدلب أهمية استراتيجية كبرى، تتمثل في موقعها على الطريق الدولي الواصل بين تركيا وسوريا والأردن والخليج العربي، كما تمتلك أهمية خاصة على الصعيد المحلي حيث تعتبر بمثابة البوابة الجغرافية لشواطئ المتوسط. وتعكس التوترات الأخيرة في مدن وقرى إدلب المختلفة طبيعة التوافقات التي تحولت لتغدو تناقضات بين الموقفين الروسي والتركي حيال اتفاق سوتشي والخاص بإقامة «مناطق خفض التصعيد» التي تفصل قوات النظام السوري عن تلك التابعة لفصائل المعارضة المسلحة والمجموعات الجهادية المدعومة من تركيا.
بيد أن التطورات الميدانية وتقدم قوات الجيش السوري وسيطرته على أغلب مناطق «خفض التصعيد» جعل من التحرك نحو إدلب خطوة ضرورية، وفق الحسابات العسكرية، بالنظر إلى أنها مركز تجمع الميليشيات المسلحة الراديكالية المدعومة من تركيا والمناهضة للنظام السوري، وقد ترتب على ذلك أن اشتعلت المواجهات المسلحة بين الجانبين، ليسقط من الجانب السوري العشرات، فيما قدرت بعض الاتجاهات خسائر الجانب التركي هذا الشهر بنحو 17 جنديًا، هذا في حين حوصرت عدة نقاط مراقبة تركية في المناطق التي استعادتها قوات النظام. دفع ذلك الرئيس التركي إلى التهديد بشن عملية ضد قوات دمشق ما لم تنسحب بحلول نهاية فبراير (شباط) 2020.
ينذر ذلك بتفاقم مظاهر التوتّر في العلاقات التركية - الروسية، إذ تحمل أي عملية عسكرية محتملة ضد النظام خطر إشعال مواجهة مع موسكو، وهو أمر غير مطروح بالنسبة للجانبين، سيما في ظل المخاطر الإنسانية التي قد تنجم عن ذلك، فقد أدى التصعيد العسكري لقوات النظام السوري وحليفتها روسيا ضد فصائل مسلحة مدعومة من تركيا في محافظة إدلب ومحيطها منذ مطلع ديسمبر (كانون الأول) الماضي إلى نزوح ما يقدر بـ900 ألف شخص، نحو المناطق القريبة من الحدود التركية.
لذلك تخشي تركيا من استمرار ذلك عبر العمل على تأمين سيطرة الفصائل المسلحة الموالية لها على أكبر مساحة ممكنة من الأراضي السورية، ليكون لها دور رئيسي في رسم مستقبل البلاد، وفي إنشاء منطقة آمنة لغايتين: إحداهما تتمثل في إبعاد التهديد الكردي عنها والأخرى تتعلق بالرغبة في تأسيس منطقة آمنة تجمع فيها ملايين اللاجئين الموجودين في الداخل التركي لتخفيف هذا العبء عنها. بيد أن تقدم النظام في إدلب أضحي يشكل عائقا متصاعدا أمام الطموح التركي، بما بات يخلق تحديات متعددة المستويات في العلاقات التركية - الروسية.
الموقف التركي
اعتمد الموقف التركي على توظيف التوترات التي تشهدها العلاقات مع روسيا من أجل تعزيز السياسة المحلية، وذلك في محاولة للتغطية على الارتدادات العكسية لتزايد أعداد القتلي الأتراك في الميدان السوري. وتحدثت الدبلوماسية التركية كثيرا عن لقاءات قمة ثنائية ودولية كان آخرها الحديث عن قمة رباعية تشمل كلا من فرنسا وألمانيا إلى جانب تركيا وروسيا.
بيد أن التصعيد الدبلوماسي التركي دفع إلى تصاعد الغضب الروسي، على نحو دفع الخارجية الروسية إلى مطالبة تركيا بالكف عن إصدار بيانات استفزازية حول الأحداث الجارية في إدلب. وأضافت الوزارة أنها «تشعر بالارتباك» من التصريحات التي أدلى بها زعيم الحزب القومي، والتي حاول فيها، تحميل روسيا والحكومة السورية مسؤولية مقتل جنود أتراك في سوريا. وقالت وزارة الخارجية الروسية والكرملين الروسي في بيان لهما، إن الوضع في إدلب ساء لأن أنقرة لم توفِ بالتزاماتها بشكل مزمن.
على جانب آخر لم تتراجع حدة التهديدات التركية في ظل نظرة الرئيس التركي للتطورات في إدلب بوصفها «شأنًا داخليًا يخص الأمن القومي»، ليرسل إردوغان تعزيزات عسكرية غير مسبوقة، من معدات وجنود، إلى إدلب وريفها. كما صعّد من الخطاب السياسي ضد دمشق وموسكو، مشيرا إلى أنه لا بد من عودة قوات الحكومة إلى خطوط التماس بموجب خرائط اتفاق سوتشي. قائلا: «الموعد نهاية فبراير 2020».
على جانب آخر، بدأت تركيا زيادة عدد من نقاط المراقبة على محاور عدة حتى وصل عددها إلى 37 نقطة. وفي الوقت ذاته، تقدمت قوات النظام أكثر في إدلب، حيث حاصرت 4 نقاط للمراقبة تابعة للجيش التركي، هذا فيما نفذت القوات التركية قصفًا صاروخيًا مكثفًا على مواقع قوات النظام بريفي إدلب الشرقي والجنوبي. ودخل رتل تركي مؤلف من أكثر من 100 آلية عسكرية إلى داخل الأراضي السورية، وأنشأ النقاط الأربع الجديدة، ليرتفع عدد نقاط المراقبة التركية في إدلب ومحيطها وبعض مناطق ريف حلب إلى 43 نقطة.
وخلال شهر فبراير 2020. أدخل الجيش التركي أكثر من 2850 شاحنة وآلية عسكرية إلى منطقة خفض التصعيد في إدلب، حملت دبابات وناقلات جند ومدرعات وكبائن حراسة متنقلة مضادة للرصاص ورادارات عسكرية، فيما بلغ عدد الجنود الأتراك الذين انتشروا في إدلب وحلب خلال تلك الفترة، أكثر من 7600 جندي تركي.
وقال إردوغان في كلمة ألقاها في أنقرة أمام أعضاء البرلمان عن حزب العدالة والتنمية الحاكم: «لن نتراجع قيد أنملة وسندفع بالتأكيد النظام السوري خارج الحدود التي وضعناها بطريقة أو بأخرى». وأضاف أنه يأمل في حل مسألة استخدام المجال الجوي في إدلب قريبًا. وتتحكم روسيا في المجال الجوي وتقصف بشكل يومي فصائل المعارضة المسلحة التي تدعمها تركيا، مساندة لهجوم قوات النظام.
بناء على ما سبق، يبدو الوضع في إدلب معقدا بالنسبة للجانبين معا، فخسارة عدد متزايد من الجنود الأتراك من أجل دعم المشروع التركي الذي يتخذ من مواجهة حركة اللاجئين ذريعة للتشدد والبقاء، سيعني تعقيدات داخلية مركبة وخسائر سياسية كبري، سيما إذا ما تزامنت الخسائر البشرية مع عدم القدرة على إيقاف حركة اللاجئين من إدلب نحو الحدود التركية، هذا في حين يمثل نجاح الروس في استرجاع إدلب إلى قبضة النظام السوري بالتزامن مع فشل المفاوضات السياسية بين أنقرة وموسكو، المزيد من الضعف لإردوغان على صعيد السياسة المحلية، كما أن من شأن ذلك أن يضر بسمعة تركيا وقدرتها على فرض سلطتها سواء في الميدان السوري أو في الميادين الأخرى، سيما بعد تزايد أعداد قتلى الجيش التركي على الأراضي الليبية أيضا.
يأتي ذلك بعد أن أقر الرئيس التركي بمقتل جنود أتراك في ليبيا، وسط اتهامات من المعارضة بأنه يخفي الرقم الحقيقي لعدد قتلى أفراد القوة التي أرسلتها تركيا لدعم الميليشيات الإرهابية التي تقاتل إلى جانب حكومة الوفاق الوطني الليبية، برئاسة فائز السراج، ضد الجيش الوطني الليبي الذي يقوده المشير خليفة حفتر. هذا في حين قال خالد المحجوب، المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي، إن 16 جنديًا تركيًا قد قتلوا خلال الأسابيع الأخيرة في مدينة مصراتة، وفي معارك بطرابلس، وفي بلدة الفلاح، إلى الجنوب من طرابلس.
موقف واشنطن
على جانب آخر، تقدمت تركيا بطلب المساعدة من واشنطن وحلف الناتو لنشر منظومة باتريوت على الحدود المشتركة مع روسيا، لحماية حدودها الجنوبية، بيد أن المطالب التركية لم تلق صدى بسبب السياسات التركية وما سببته من تصدعات لعلاقاتها مع القوى الغربية. فلم يؤكد ولم ينفِ متحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية، أن تكون واشنطن قد تلقت من تركيا طلبًا لنشر منظومة باتريوت، لكن نُقل عن مسؤول أميركي استبعاده تحريك تلك البطاريات لمساعدة تركيا في النزاع الدائر في منطقة إدلب، رغم وجود طلب تركي رسمي في هذا الصدد.
وفي حين لم يصدر بعد أي بيان رسمي عن وزارة الدفاع الأميركية حول هذا الطلب، فقد أضاف هذا المسؤول أن «أنقرة بدأت تشعر بأن روسيا ليست شريكًا صادقًا يمكن الاتكال عليه»، وأكمل أن «واشنطن تدرك أهمية العلاقات الاستراتيجية مع تركيا، إلا أن حلف شمال الأطلسي لن يساعد القوات التركية في أي نزاع في سوريا، ذلك أن المسألة تتعلق بقضية ثنائية وليست قضية أمنية جماعية».
من جهته، قال أيكان أرديمير، الباحث المختص في الشؤون التركية في «معهد الدفاع عن الديمقراطيات» بواشنطن، إنه من غير المحتمل أن تنشر واشنطن صواريخ باتريوت في تركيا، ما دام الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مستمرًا في خططه لنشر صواريخ «S-400» الروسية. وأضاف أنه من المرجح أن يستمر الكونغرس الأميركي في الضغط من أجل فرض العقوبات على تركيا بموجب قانون «كاتسا» لشرائها تلك المنظومة الروسية.
على جانب آخر، حذر الكاتب التركي باريش دوست آر، من أن استدعاء واشنطن للأزمة «لن يؤدي إلى حلّ، بل سيصعّبه؛ إذ إن واشنطن تتراجع في العالم، ولم تستطع حتى الآن حلّ مشكلاتها مع إيران وكوريا الشمالية وفنزويلا، كما أنها لا تريد سوى تقسيم دول المنطقة عبر التنظيمات الإرهابية». وتابع أن «من يريد دعم حلف الناتو إنما يستدعي التدخل والانتداب الأميركي على تركيا، وهذا يجب أن لا يحدث».
هذا فيما رأى المحلل السياسي متين يغين، أن أنقرة «لا ترغب في حل الأزمة السورية، وهي لم تحل أي مشكلة تورطت فيها». لافتًا إلى أنه «بعد مرور 46 سنة على الاحتلال التركي لقبرص، ليس هناك من يعترف بقبرص الشمالية غيرها، وكذلك بالنسبة إلى المشكلة الكردية التي لم تحل بعد». وتابع يغين «في العراق تركيا موجودة ولا أفق لهذا الوجود. والأمر ينسحب على سوريا أيضًا، حيث استراتيجية إردوغان فيها هي اللاحل».
من جانبه، لفت الكاتب أورهان بورصالي إلى ما رآه «توظيف إردوغان للأزمة السورية داخليًا وتقديمها على أنها شأن تركي داخلي». ورأى أن «هذا يعني أن الحرب في سوريا ستستمر كأداة أساسية لاستمرار سلطته في الداخل؛ ولذا فإنه يضع «عربة الحرب» أمام السلام، وتتطابق سياساته مع «الذهنية العثمانية» السائدة، وفي هذا السياق، تأتي مسألة كسب الأرض في سوريا لتوسيع حدود تركيا، وذلك هو عصب سياسة إردوغان في سوريا منذ عام 2011. ومن الزاوية نفسها ينظر إلى البلقان والآن إلى ليبيا؛ سعيًا إلى تحقيق هدفه في إقامة تركيا الجديدة في عام 2020.
الموقف الروسي
مقابل ذلك، فإن الاستراتيجية الروسية أكثر رسوخا، وتقوم على تعظيم الحضور السوري على مساحات متدحرجة باطراد من الجغرافيا السورية، فحينما دخلت موسكو الميدان السوري لم تبلغ مساحة سيطرة النظام 17 في المائة من الأرضي السورية، لتصل الآن إلى ما يتجاوز 77 في المائة.
وفي هذا السياق تعتمد موسكو على التوافقات الجزئية واستراتيجية المناطق الرمادية والحلول المؤقتة التي يمكنها «الانقلاب» عليها لاحقا كونها لا تعكس توازنات القوة على الأرض بقدر ما تمثل تكتيكا روسيا في إنجاز أهداف مرحلية تتلوها أهداف أخرى وهو يتطلب تحييد مواقف بعض الأطراف والقوى المعنية بهذا الشأن.
لا يعني ذلك أن موسكو ستضحي بعلاقاتها مع أنقرة بسهولة بقدر ما يعني أن موسكو ستعمل على أن تكون تركيا لاعبا هامشيا في الميدان السوري عبر تقليص متدرج في مساحات سيطرتها الميدانية، هذا مع إدراك أن إردوغان يراهن على الروس في مواجهة الغرب، كما ينتهج العكس في مواجهة الروس، لذلك ففي ظل أزمة إدلب المشتعلة يعمل على التلويح بإمكانية عودة تركيا للعمل على توثيق العلاقات مع القوى الغربية على حساب التطورات الإيجابية التي شهدتها علاقات أنقرة مع موسكو.
يراهن إردوغان على رهان واشنطن ذاتها على الاستثمار في الفجوة بين موسكو وأنقرة. هذا على الرغم من أن إردوغان يعرف حدود الدعم الأميركي وأنه لن يصل إلى الجانب العسكري. بوتين بدوره يدرك أيضا أهمية «اللاعب الأطلسي» لذلك قاد هجوم استعادة السيطرة على الطريق السريع بين حلب ودمشق وتوسيع دائرة السيطرة على مدينة حلب، وإزالة البنية التحتية للمعارضة شمال غربي سوريا، وعمل على فتح طريق حلب-اللاذقية، بما يعنيه ذلك من تضييق الخناق على تركيا، مع العمل على تعزيز قدرات النظام الاقتصادية عبر مناطق السيطرة الجديدة، وذلك على نحو يفرض واقعا مغايرا قبل بدء تنفيذ «قانون قيصر» في يونيو (حزيران) المقبل، ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية السورية في منتصف 2021.
وتعمل موسكو من أجل السيطرة على الطرق الدولية بحسبانها تمثل واحدا من العناصر الأساسية التي نص عليها اتفاق سوتشي، وبذلك فهي تضع شروطا لخطوط التماس الجديدة التي يجب أن يقرها الطرفان الروسي والتركي، لتستهدف من ذلك العمل على دفع تركيا إلى أداء دورها في إبعاد الميليشيات الإرهابية عن فصائل الوطنية المعتدلة إلى جانب الابتعاد عن طريقي حلب-اللاذقية (M4) وحلب دمشق (M3).
استراتيجية موسكو تعتمد ليس وحسب على التحركات العسكرية، وإنما أيضا على التصعيد الإعلامي والدبلوماسي، فقد صعدت وزارة الدفاع الروسية مستوى اتهاماتها لأنقرة، وبعد مرور يوم واحد على الإشارة إلى قيام العسكريين الأتراك بـ«تضليل القيادة السياسية» عبر نقل معطيات مزورة عن الوضع في إدلب، حملت اتهامات جديدة، لأنقرة بنقل أسلحة نوعية ومعدات قتالية متطورة وصلت في جزء ملموس منها إلى أيدي مقاتلي «جبهة النصرة».
ورفض وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، الدعوات إلى وقف الهجوم السوري المدعوم من موسكو في إدلب شمال غربي سوريا، وقال إن ذلك سيكون بمثابة «استسلام للإرهابيين». وصرح أمام مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة في جنيف أن وقف الهجوم لن يكون «مراعاة لحقوق الإنسان، بل إنه استسلام للإرهابيين، ومكافأة لهم على أفعالهم». واتهم لافروف بعض الحكومات بأنها «ترغب في تبرير أعمال شنيعة ارتكبتها جماعات راديكالية وإرهابية». وقال: «بخلاف ذلك سيكون من الصعب تفسير التحذيرات من إمكانية إبرام اتفاقات سلام مع قطاع طرق»، في الإشارة إلى الوضع في إدلب.
المسارات المحتملة
يدرك الجانبان التركي والروسي أن خيارات التصعيد العسكري ليست محتملة، عل الأقل وفق المعطيات الراهنة، لذلك كل طرف يسعى إلى إيجاد واقع عسكري على الأرض يستهدف منه التأثير على مسارات التفاوض لا حسم الصراع بالأدوات العسكرية، وفي هذا الإطار يوظف الجانبان مجموعة من الأدوات الإعلامية والدبلوماسية للتصعيد ليس إلا لمحض التلويح بإمكانية الحسم العسكري إذا لم يستجب كل طرف لمطالب الطرف المقابل.
ومن جانبها بدأت أنقرة تجابه التصعيد الروسي عبر تصريحات تستهدف الهجوم على السياسة الروسية، وتحميلها المسؤولية عن استهداف المدنيين بسبب دعمها تحركات قوات نظام الأسد الساعية للسيطرة على إدلب، وانتهاكها «تفاهمات سوتشي»، وكذلك «اتفاق مناطق خفض التصعيد» في إدلب الذي سبق التوصل إليه في آستانة خلال مايو (أيار) 2017.
ورغم التصعيد المتبادل فكل طرف يحاول التوصل لصفقة تفضي إلى تجنب الصدام وتصاعد مظاهر التوتر، وقد يكون أحد الخيارات المطروحة تتمثل في قبول تركيا بصفقة مع موسكو تضمن لتركيا حرية الحركة في مناطق «درع الفرات» و«نبع السلام»، التي لا تعترض موسكو عليها، ما دامت على حساب الأكراد والأميركيين على حد سواء.
وعلى الرغم من أن الرئيسين فلاديمير بوتين ورجب طيب إردوغان أو «السلطان» و«القيصر»، يتبعان، حسب تقديرات، في إدلب استراتيجية «حافة الهاوية»، فلا يزال الباب مفتوحًا لعقد صفقة. ذلك أن سياسة حافة الهاوية قد تفضي إلى اتفاق جديد يبارَك بقمة بين «السلطان» و«القيصر»، أحد احتمالاته: خطوط تماس جديدة تكون شمال طريقي حلب – دمشق، وحلب – اللاذقية، مقابل انتشار القوات التركية في «منطقة خفض التصعيد» الجديدة. ويمكن لتحقيق ذلك التوصل لاتفاق جديد بديل عن اتفاقيتي «سوتشي» و«أضنة» لفتح «مسارات سياسية» بين دمشق وأنقرة تمتد إلى مناطق شرق الفرات التي شهدت مؤخرا استئناف الدوريات الروسية-التركية.
وبعيدا عن هذا الخيار المحتمل ثمة مسارات أخرى، يرى منها الكاتب محمد علي جولار أربعة: الأول، يتعلق بالتعاون المباشر مع نظام الأسد في دمشق، ويعده غير قابل للتطبيق.
والثاني، الذي وصفه بـ«الخيار الجيد»، ويرتبط بإمكانية استمرار التعاون مع روسيا ومنع الولايات المتحدة من انتهاز الفرص.
والثالث، الذي وصفه بالخيار الخاطئ، فهو الصدام بين تركيا ونظام الأسد في إدلب.
والرابع، وهو الأكثر سوءًا من وجهة نظر الكاتب، فهو أن تتعاون تركيا مع الولايات المتحدة لتقسيم سوريا.
واعتبر الكاتب أن الهدف المركزي الذي يسعى إليه إردوغان يتمثل في التواجد في المناطق التي قد تشهد أي حضور محتمل للقوى الكردية.
هذا في حين تطرح رؤى أخرى إمكانية إقدام تركيا، تجنبا للمواجهة مع موسكو، على إقامة منطقة آمنة فيما سيتبقى من إدلب، على نحو لا يستلزم أي اتفاقيات جديدة مع النظام أو موسكو، بما يجنبها الآثار الدراماتيكية للمواجهة العسكرية، ويدعم ذلك التطور الحاصل في العلاقات مع روسيا، سيما في مجالي الطاقة والدفاع.