عندما أتذكر بدايات عملي في مجلة «المجلة» قبل 40 عامًا، ترافقها على الفور ذكريات الهجرة والصعوبات التي واجهتني للتأقلم في هذه المدينة، لندن، التي لم يخطر لي يومًا، خلال مراهقتي وبدايات شبابي، أنني سأقضي معظم سنوات عمري فيها.
بهذا المعنى كانت «المجلة» بمثابة رفيقتي في السنوات الأولى من الغربة الصعبة. غربة كانت في ذلك الوقت بلا رفيق يخفف الوحشة، وبلا لغة إنجليزية معقولة تصلح للتواصل مع الناس وتدبير الشؤون اليومية للحياة، (وأنا الآتي من بلاد كانت تحسب فرنسا «أمها الحنون»). وهكذا وقعت كل تلك الأعباء على ظروف العمل في «المجلة» التي رافقتها منذ ولادتها، والتي بات القدوم إلى مكاتبها كل يوم، هو ما يعوض وحشة الغربة. أصبحت المكاتب هي الوطن البديل، والزملاء هم «مواطني» تلك الفترة. وأحسب أن أهم التجارب التي تعلمتها من تلك «المواطنة» هي أن «الوطن العربي» الذي كانت الإنشاءات القومية تتغزل به وتدفعنا إلى حفظه، قد تحقق فعلاً وبنسبة كبيرة في تلك المرحلة، من خلال التعاطي اليومي مع الزملاء، سواء في «المجلة» أو في شقيقتها «الشرق الأوسط»، كونهم قادمين من مختلف الدول العربية.
بالنسبة إلي، كان ذلك مكسبًا بالغ الأهمية في تجربتي الصحافية، بالمقارنة مع عملي السابق في مطبوعة محلية، صحافيوها هم عادة من لون واحد ولغة واحدة قد لا يفهمها سواهم.
حين أتذكر الآن تجربة تلك المرحلة أشعر بالحزن. فبين يدي أرشيف المقالات والتحقيقات والمقابلات التي أجريتها في تلك الفترة، والتي نشرت في «المجلة». والعودة إلى كل ذلك تعني لي الكثير، لأنها تأريخ لمرحلة طويلة من الأحداث العربية والدولية التي تركت آثارها على ما نعيشه اليوم. من بدايات الثورة الإيرانية، إلى الغزو السوفياتي لأفغانستان، وما خلفه من آثار انتهت إلى انهيار الاتحاد السوفياتي ونشوء ظاهرة «الأفغان العرب» التي أقلقت المنطقة والعالم سياسيا وأمنيًا لسنوات طويلة، إلى الحرب العراقية الإيرانية، إلى غزو الكويت والذيول التي نتجت عن كل ذلك.
يكفي أن أذكر أن المقال الأول الذي نشر لي في «العدد صفر» من «المجلة»، وهو عدد تجريبي لا يوزع على القراء، كان عن مرض الرئيس الماريشال جوزيف تيتو، وما كان يتوقع أن يتركه من أثر على احتمال تصدع الاتحاد اليوغسلافي. كان ذلك قبل عقد كامل من الحروب المدمرة التي اشتعلت بين أقاليم ذلك البلد، وانتهت بتفكيكه إلى ست دول.
كانت مكاتب «المجلة» و«الشرق الأوسط» في ذلك الحين (مطلع عام 1980) في شارع صغير اسمه «غوف سكوير» يتفرع من شارع «فليت ستريت» الشهير، الذي كان آنذاك المقر الرئيسي لمعظم الصحف البريطانية. ذهبت في أحد الأيام، قبل بضع سنوات، أتفقد ذلك المبنى بعد طول غياب عنه. لا أدعي أن الحزن دفعني إلى البكاء على الأطلال، كما فعل يومًا أمرؤ القيس، إذ لم أجد أطلالاً هناك، بل مبنى مستحدث، وبالكاد تستطيع تبين معالم المكان لولا أن الرقم 4، وهو رقم البناية التي كانت مكاتبنا فيها، ما زال هناك. لكنني شعرت بحنين إلى زمن مضى، ليس فقط لأن جزءًا من عمري انقضى في ذلك المبنى. لكن لأن «المعركة» التي كنا نخوضها من أجل نجاح تجربتنا الجديدة، وصراعنا اليومي مع الورقة والقلم، في زمن ما قبل الكومبيوتر والإنترنت، هو ما صنع الاسم الذي احتلته «المجلة» في عدد محدود من السنوات، وفي وقت كانت تواجه منافسة لا يستهان بها في ذلك الوقت من عدد لا بأس به من المجلات العربية.
مر على «المجلة» عدد من رؤساء التحرير خلال عملي فيها، وترك كل منهم بصمة عليها، وسواء لناحية طريقة إدارته لها أو لناحية الجو الذي خلقه داخل «الأسرة» (وهو تعبير محبب إلي ولا أدري إذا كان ما زال موجودًا في المطبوعات العربية إلى اليوم). لكن لا بد هنا من ذكر ناشري «المجلة» وشقيقاتها في ذلك الوقت هشام ومحمد علي حافظ، وهما اللذان لم يبخلا لتمكين «المجلة» من الوقوف على قدميها. إضافة إلى الجهد الذي بذله الصديق عبد الكريم أبو النصر الذي تولى رئاسة التحرير مع صدور «المجلة»، والذي يمكنني أن أقول إنه أعطى هذه المطبوعة هويتها السياسية الخاصة.