* أمام الشلل الكامل على كل المستويات وانتشار الأخبار عن كم الهدر والفساد الذي تتحمل مسؤوليته تلك الطبقة الحاكمة بكل أشكالها وأنواعها وأطيافها وأمام عدم أي مبادرة إصلاحية من قبل الكتل السياسية، كان متوقعاً أن يبدأ العنف في التسلل لتلك المظاهرات
الانفجار الاجتماعي الذي طالما حذر منه الخبراء في لبنان أصبح واقعا. ما شهدته العاصمة بيروت من جولات مواجهة بين المحتجين وقوى الأمن خير دليل على ذلك.
من نافل القول إن الأزمات الاقتصادية في ازدياد، وأعداد العاطلين عن العمل كذلك والأزمة تتجه من سيئ إلى أسوأ، فالمصارف ما زالت تفرض قيودا صارمة على السحوبات، والقدرة الشرائية لدى اللبنانيين في تراجع، خاصة للذين يتقاضون رواتبهم بالعملة الوطنية مع ما يتبعه من تضخم في الأسعار وارتفاع سعر صرف الدولار بشكل جنوني.
أما البلد فيبدو متروكا، حيث إن رئيس حكومة تصريف الأعمال تراه ينتقم من الطبقة السياسية التي أقصته وهو الممثل الأقوى لطائفته في نظام المحاصصة الطائفية، وهو لا يبدو مستعدا لتصريف أعمال الحكومة، ما يفرض نوعا من شلل في أجهزة الدولة. أما المعنيون بتأليف الحكومة من محور الممانعة فتراهم يتفاوضون حول الحصص والمراكز غير آبهين بتفاقم الأزمة.
أما حزب الله، قائد هذا المحور فما زال في طور مراجعة قرار أميركا باغتيال سليماني، وتداعيات هكذا قرار على مصيره. وهو لا يستطيع جمع حلفائه حول حكومة ما.
الرئيس عون لا يبدو متابعا للوضع، فتصريحاته تشي بأنه لا يملك الصورة الكاملة للوقائع والأزمات التي تعصف بالبلد، فهو ما زال مقتنعا بأن عهده «قوي».
المرجعيات الدينية اصطفت جميعها حول الزعماء السياسيين، وضد مطالب الناس التي تريد التخلص من هذا النظام الطائفي والذي هو بقلب الأزمات الثلاث.
ألم يقل رئيس الحكومة نفسه في إحدى إطلالاته المتلفزة بعد بدء الثورة أن كلفة معامل الكهرباء هي كلفة طائفية إذ لا يجب أن يكون لكل طائفة رئيسية في البلد معمل، ما يزيد الكلفة على فاتورة الدولة ثلاثة أضعاف يدفعها المواطن كرم عيون أمراء الطوائف؟
أمام الشلل الكامل على كل المستويات وانتشار الأخبار عن كم الهدر والفساد الذي تتحمل مسؤوليته تلك الطبقة الحاكمة بكل أشكالها وأنواعها وأطيافها وأمام عدم أي مبادرة إصلاحية من قبل الكتل السياسية، كان متوقعا أن يبدأ العنف بالتسلل لتلك المظاهرات.
مما لا شك فيه أن المشكلة اللبنانية ذات بعدين. البعد الأول يتعلق بالنظام والذي برزت فيه أعطاب بحدة منذ اغتيال رفيق الحريري، من أهمها عدم قدرته- أي النظام- على إيجاد حلول قانونية لاستمرار العمل في مؤسسات الدولة كرئاسة الجمهورية والحكومة ومجلس النواب وحتى وظائف الدرجة الأولى التي خضعت وما زالت للمحاصصات الطائفية. هكذا بقي لبنان على سبيل المثال لا الحصر سنتين ونصفا من دون رئيس للجمهورية لعدم وجود آلية دستورية وقانونية تجبر النائب على حضور جلسة الانتخاب. كذلك الأمر يجب أن ينطبق على المدة المتاحة للرئيس المكلف بتأليف الحكومة وما عداها من أمور تتعلق بعدم إمكانية أي فريق سياسي بتعليق العمل بمؤسسات الدولة تحت أي حجة كانت لأن هذا التعطيل يكبد البلد خسائر اقتصادية فادحة ناهيك عن توتير البلد برمته.
البعد الثاني للمشكلة اللبنانية هو حزب الله، حيث برهنت التجربة اللبنانية بالتحديد على أنه لا يمكن أن يتعايش مركزان للسلطة في بلد واحد، فحزب الله بقوته العسكرية والمالية والدعم الإقليمي استطاع أن يفرض على لبنان الدولة سياساته الخارجية التابعة لإيران التي هي بحال مواجهة مع دول الخليج. هذا ما أضر بلبنان ودفع الدول الخليجية لمقاطعته مع العلم أن موقف نصف اللبنانيين على الأقل غير راض عن تلك السياسة الخارجية العدائية التي ينتهجها لبنان تجاه اشقائه العرب. قوة حزب الله لا تقف فقط عند اعتاب السياسة الخارجية ولكنها أيضا تُمارس وبشكل كبير على الداخل، فقد استطاع حزب الله مثلا فرض استقالة حكومة الرئيس سعد الحريري الأولى بفضل إمساكه بالثلث المعطل فيها ومن ثم فرض تكليف الرئيس نجيب ميقاتي، خاصة بعد أن شعر أن بعض النواب قد لا يسمونه عند الاستشارات النيابية الملزمة، فسارع إلى نشر ما عرف بـ«القمصان السود» في ضواحي بيروت كرسالة تهديد مبطنة لمن يتخلف عن هذا التوجه.
طبعا كل ذلك كان يجري تحت اسم التوافق والتسوية واتفاق الطائف وإلى ما هنالك من صفات تزيد من الاحتقان الأهلي لأنها تفتقد لأدنى معايير العدالة التي يجب أن تسيّر مجتمعا سليما في العالم. فإذ ذاك يشعر مكون في البلد أنه يخضع لهيمنة السلاح.
نحن أصبحنا أمام واقع تحاول معه القوى السياسية وأتباعها والدينية أيضا تجاهله: الطائف وصل إلى مطافه، والدولة لا تستطيع الاستمرار برأسين. كلما سارعت القوى إلى استنتاج هذا الأمر وعملت على إصلاح الأعطاب الموجودة من خارج العصبيات الطائفية وفرت فوضى، أما إن كابرت فالاقتتال الأهلي آت.