* ظهرت «أطماع» الرئيس التركي، في ليبيا، بشكل متكرر ويكاد يكون دائماً عبر تصريحاته وسياسته خلال الآونة الأخيرة
* تعارض الكثير من الدول الأوروبية سياسات تركيا سواء فيما يخص شرق المتوسط أو فيما يتعلق بالملف الليبي. وعلى الرغم من تباين الرؤي حيال الصراع في ليبيا بين بعض الدول الأوروبية، فإن سياسات تركيا ربما هي التي أسهمت في تعبئة الطاقات الأوروبية
* سعت روسيا خلال السنوات الأخيرة للظهور كوسيط محايد في الصراع الليبي، ولا تزال تصر على هذا الموقف
* تبدو موسكو بسبب قواعدها العسكرية في سوريا أقرب جفرافيا للشواطئ الليبية من تركيا ومن ثم قدرة تركيا العملياتية في الميدان الليبي مقيدة كما أنها معرضة للإعاقة من قبل الكثير من القوى الإقليمية والدولية
* تركيا التي تسعى بدورها إلى تعزيز الانقسام المناطقي وإطالة أمد الصراع من أجل الحفاظ على مصالحها وعدم تمدد الجيش الليبي إلى المناطق التي تسيطر عليها الفصائل المدعومة منها
* روسيا تستبعد أن تخوض صراعاً مسلحاً مباشراً في ليبيا، من دون أن يعني ذلك عدم إمكانية تقديم الدعم على أي مستوى للجيش الليبي، مع إمكانية المساهمة في عملية بحرية متعددة الجنسيات لمنع وصول الأسلحة والجهاديين عن طريق البحر
* تبدو المعركة الليبية طويلة وغامضة، والتصعيد في ظل المعطيات المتاحة متزايد، ولن يكون الحل إلا عبر مجابهة السياسات التركية والعمل على إتاحة الفرصة لدعم الجيش الليبي ونزع السلاح من الميليشيات المسلحة
أنقرة: تطورات كثيرة شهدها الملف الليبي مؤخراً إن على الصعيد العسكري والعملياتي أو على المستوى السياسي والدبلوماسي. وعلى الرغم من أن هذه التطورات أوضحت تباين المواقف التركية والروسية حيال الصراع في ليبيا، غير أن سوابق الحالة السورية والتقاطعات الروسية – التركية المتزايدة في الآونة الأخيرة أوحت بإمكانية استنساخ «النموذج السوري» على الأراضي الليبية عبر تقاسم المصالح بين الأتراك والروس تجنبا للصدام وسعيا لإيجاد أرضية مشتركة تسمح لمكاسب العلاقات الثنائية بالاستمرار.
الرهان على ذلك ربما ارتبط بطبيعة التنسيق المشترك واللقاءات والاتصالات الثنائية بين الجانبين، والتي بدت كثيفة خلال الآونة الأخيرة وشملت التباحث بشأن تطورات العمليات العسكرية في ليبيا بين الجيش الليبي والميليشيات المسلحة الداعمة لحكومة الوفاق، وصولا إلى إعلان وقف إطلاق النار بين الجانبين بناء على مبادرة روسية جاءت بالتنسيق مع تركيا تبعتها مفاوضات غير مباشرة بين المشير خليفة حفتر قائد الجيش الليبي، وفايز السراج رئيس الحكومة الليبية في موسكو وشارك فيها وزيرا الخارجية والدفاع التركيان، مولود جاويش أوغلو، وخلوصي أكار.
فشل المفاوضات في الوصول لاتفاق يمكن أن يقبله قائد الجيش الليبي خليفة حفتر، بعد أن قبله رئيس حكومة الوفاق فايز السراج، لم ينف أن ثمة محاولة تركية لتفادي الصدام مع روسيا، وأن أنقرة استهدفت عبر التحرك بالتنسيق مع موسكو الحيلولة دون قدرة الأخيرة على تحول الدعم غير المعلن للجيش الليبي إلى دعم معلن وعلى نحو أكثر شمولا. فقد سعت أنقرة لتحقيق «توافقات» تضمن مصالح الجانبين في ملف يزداد تعقيدا وتشابكا وتعددا من حيث أطرافه والمعنيين به، والتي تستعد بدورها للمشاركة في المفاوضات التي من المقرر أن تستضيفها برلين في 19 يناير (كانون الثاني) الحالي.
التوافقات التركية – الروسية التي تسعى إلى تحقيقها القيادة التركية لا تأتي انطلاقا من تشابه الاستراتيجيات وإنما تأسيسا على أن كل طرف منهما في هذه المرحلة لا يبتغي توتير العلاقات المشتركة، سيما في ظل التطورات التي تشهدها مدينة إدلب في الشمال السوري. التركيز التركي ينصب بالأساس على موازنة القوى الإقليمية الداعمة للجيش الليبي، فيما الهدف الروسي يتعلق بالرغبة في عدم ترك الساحة الليبية للقوى الأوروبية، بما قد يفضي إلى تطورات تضر بمصالح روسيا في ليبيا، والتي تمتلك مخزونا هائلا من الطاقة ولديها سواحل شاسعة على شواطئ المتوسط.
ومع ذلك فإن التوافقات التركية – الروسية تبدو مرحلية، لعدد من الأسباب، منها أن روسيا على عكس أنقرة تدرك أنها لم تعد إمبراطورية كبرى كما كانت إبان الاتحاد السوفياتي، ومن ثم فالتدخل واسع النطاق في ليبيا كما فعلت في سوريا غير وارد، سيما بعدما استطاعت تأمين قاعدتين عسكريتين في «المياه الدافئة» على شواطئ المتوسط. وإن أتاح لها السياقان الإقليمي والدولي تحقيق ذلك فإنها ستضمن أولا أن لا تتحمل ذات التكلفة التي تكبدتها على الساحة السورية. وفي مقابل ذلك فإن الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، يهيمن على فكره إعادة إحياء الدولة العثمانية وتوحيد البلدان الإسلامية.
ظهرت «أطماع» الرئيس التركي، في ليبيا، بشكل متكرر ويكاد يكون دائما عبر تصريحاته وسياسته خلال الآونة الأخيرة. أشار إردوغان أكثر من مرة إلى أن «ليبيا تعتبر إرثا للعثمانيين». وقال: «تركيا لديها محيط حضاري كبير، ويعد البحر المتوسط، وشمال أفريقيا، أحد أهم أجزاء هذا المحيط». وأضاف: «ليبيا هي إرث الغازي مصطفى كمال أتاتورك، الذي أدى أدوارا وخدمات مهمة هناك كضابط عثماني». ووصف الرئيس التركي بلاده بـ«وريثة الإمبراطورية العثمانية»، مشيرا إلى سعيه لإحياء ما وصفه بالمجد القديم للأتراك. كشف ذلك أنماط تفكيره ونواياه الحقيقية من وراء الدعم الذي تقدمه أنقرة إلى حكومة الوفاق والجماعات الإسلامية المنتشرة في الغرب الليبي.
تصريحات الرئيس التركي توضح أهداف سياساته التي ربما تختلف عن السياسات الروسية وأهدافها. روسيا خاضت حروبا دامية مع الدولة العثمانية ما بين القرنين السادس عشر والعشرين. انتصر الروس في معظمها إلى أن أنهكت هذه الحروب وغيرها السلطنة العثمانية. كانت هذه الحروب في الأساس من أجل السيطرة على البحر الأسود وممراته (البوسفور والدردنيل) ورغبة الاتحاد السوفياتي في التحرك نحو مياه المتوسط الدافئة. انتهت أغلب المعارك بانتصار الروس مما أدى في معظم الأحيان إلى توقيع معاهدات قاسية على الدولة العثمانية تخلّت بمقتضاها عن خانية القرم ولاحقا سمحت بمرور السفن الروسية من البوسفور دون قيود.
وفيما تعتبر تركيا أنها قادرة على الدخول إلى ميدان الصراع في ليبيا واستهداف قوات الجيش الليبي والتصعيد العسكري ضد داعميه الإقليميين والدوليين، فإن موسكو ترى أن ليبيا تشبه «الرمال المتحركة»، كل من يدخلها بعمق فحتمًا سيغرق فيها. لذلك بينما تقوم تركيا بالتدخل في الصراع الليبي عبر أدوات مختلفة منها دعم ميليشيات الوفاق بالسلاح و«المرتزقة» من السوريين، فإن موسكو تقوم على دعم الجيش الوطني الليبي عبر أدوات غير مباشرة من ضمنها السماح لمجموعة «فاغنر» بالقتال في ليبيا، وهي أشهر شركة أمنية خاصة في روسيا، وتماثل شركة «بلاك ووتر» الأميركية.
موسكو على عكس تركيا في هذه المرحلة لا تستهدف أن تغدو طرفا في الصراع بقدر ما تريد المحافظة على مصالحها ولا تسمح للدول الأوروبية باستغلال الأزمة الليبية للتأثير السلبي على مصالحها خصوصا في مجال الطاقة.
دخل الجيش الليبي في مواجهة مفتوحة مع تركيا، حيث استهدفت قواته طائرات تركيا المسيرة واحتجزت ستة أتراك، قبل أن تُفرِج عنهم، ووسّع من دائرة المشتبه بهم من الأتراك في ليبيا، في الوقت الذي أعلنت فيه وزارة الدفاع التركية أن ذلك يمثل تهديدًا للمواطنين الأتراك والمصالح التركية في ليبيا، ما قد يدفع أنقرة إلى مزيد من التصعيد وعدم الاستقرار في ليبيا والمنطقة.
وقد صرح وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، أن أنقرة وافقت على اقتراح روسيا للعمل المشترك لإنهاء الحرب الأهلية ووقف إطلاق النار في ليبيا، مؤكدا أنه «لا سوريا ولا ليبيا مناطق تنافس بين روسيا وتركيا، لكن كلا البلدين لاعب مهم في الملفين». وأضاف جاويش أوغلو أن «الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اقترح العمل بشكل مشترك في ليبيا، ونحن وافقنا على ذلك فورا».
وكان الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب إردوغان، قد بحثا الأزمة الليبية على هامش زيارة بوتين الأخيرة لأنقرة في 8 يناير 2020. وبحسب بيان صادر عن المتحدث باسم الجيش الليبي أحمد المسماري، رحب حفتر بمبادرة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين «الرامية إلى وقف إطلاق النار وإحلال السلام وتحقيق الاستقرار في ليبيا». لكنه أعلن أن «استمرار جهود القوات المسلحة في حربها على المجموعات الإرهابية المصنفة بقرارات من مجلس الأمن الدولي التي ثبت عبر التجربة أنه لا سبيل لإقامة الدولة المدنية إلا بالقضاء التام عليها، حيث إن هذه المجموعات قد استولت على العاصمة طرابلس».
وفي إشارة متكررة إلى تركيا، اتهم المسماري «بعض الدول والحكومات» بتزويد القوات المتمركزة في طرابلس «بمعدات عسكرية وذخائر أسلحة مختلفة فضلا عن الطائرات الهجومية المسيرة، هذا بالإضافة إلى أن هذه الدول والحكومات تقوم بنقل أعداد كبيرة من الإرهابيين من جميع أنحاء العالم للقتال ضد القوات المسلحة والشعب الليبي».
معوقات استنساخ «النموذج السوري»
ثمة الكثير من التباينات التي تجعل من الصعوبة بمكان تكرار السيناريو السوري في ليبيا، أحد هذه العوامل يرتبط بطبيعة الموقف الأوروبي والذي يحظى الملف الليبي لديه بأولوية قصوى. ويرى الأوروبيون أن مصالحهم الحيوية قد تتضرر على نحو مباشر بتدهور الأوضاع في ليبيا بسبب قضايا أمن الطاقة وتهديدات الجماعات الإرهابية وقضايا اللاجئين التي باتت تشكل هواجس لدى أغلب الحكومات الأوروبية.
تمتلك البلدان الأوروبية خبرة سلبية بشأن ارتدادات الأدوار التركية في توظيف قضايا اللاجئين والجماعات الجهادية في إطار علاقاتها الدولية، بما يدفع بتبني سياسات تعمل على الحد من فاعلية هذه الأدوار. وتعارض الكثير من الدول الأوروبية سياسات تركيا سواء فيما يخص شرق المتوسط أو فيما يتعلق بالملف الليبي. وعلى الرغم من تباين الرؤى حيال الصراع في ليبيا بين بعض الدول الأوروبية، فإن سياسات تركيا ربما هي التي أسهمت في تعبئة الطاقات الأوروبية وعززت من التنسيق الفرنسي – الإيطالي وبالعمل مع ألمانيا على تشكيل موقف موحد فيما يخص الصراع في ليبيا وحيال السياسات التركية وتوظيفها للأوضاع في الأراضي الليبية وذلك في إطار صراع شرق المتوسط. وعلى هذا المستوى فإن روسيا على عكس تركيا لا تستهدف مجابهة السياسات الغربية وإنما الدفاع عن مصالحها.
وعلى مستوى ثان، فإن موسكو تدرك أنها حين دخلت إلى دمشق في عام 2015 لم يكن النظام السوري يسيطر سوى على نحو 12 في المائة من الأرض، غير أن تكتيكاتها العسكرية دفعت بأن يتسع نطاق سيطرة الجيش السوري إلى نحو 72 في المائة. بيد أنه على الساحة الليبية فإن الجيش الوطني يسيطر بالفعل على ما يزيد على 90 في المائة من مساحة الأرض كما أن أغلب الآبار النفطية تقع تحت سيطرته، ومن ثم فالحاجة إلى تركيا في ليبيا محض مؤقتة ويُستهدف منها «تسكين الصراع» و«شراء الوقت» وإبداء مرونة تسمح بتحقيق مكاسب أكبر على الساحة السورية.
لذلك فقد وصف ياتشيسلاف ماتوزوف، الخبير في شؤون الشرق الأوسط، موقف روسيا من الصراع الجاري في ليبيا بأنه «موقف دبلوماسي دقيق للغاية». ويعزو ماتوزوف سبب تورط روسيا في هذا «التخبط الدبلوماسي»، إلى تخوف موسكو من أن الفوضى في ليبيا قد تسمح بعودة «داعش» التي تتلقى دعما من تركيا، بما يشكل مصدر قلق أمني خطير لموسكو.
سعت روسيا خلال السنوات الأخيرة للظهور كوسيط محايد في الصراع الليبي، ولا تزال تصر على هذا الموقف، وصرح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف خلال زيارته الأخيرة لمصر بأن «مهمة روسيا تتمثل في مساعدة الليبيين على التغلب على خلافاتهم الحالية، والتوصل إلى اتفاق مستقر للمصالحة بين الجانبين». وفي مقابل ذلك، تساءل المبعوث الأممي إلى ليبيا غسان سلامة في صحيفة «لوموند»: «هل يمكن أن يتكرر أمر مماثل (للنموذج السوري) في ليبيا؟» مضيفا: «جوابي: نعم».
وقال جلال الحرشاوي، الخبير الليبي: «لم يسبق أن حدثت مواجهة مباشرة بين أتراك وروس على الأراضي السورية، وعلى غرار ذلك لن تحدث بينهما مواجهة متعمدة ومقصودة على الأرض الليبية».
وبحسب الحرشاوي: «فإن الحل في ليبيا لن يكون غربيا. وسيبرم الروس والأتراك يالطا جديدة في ليبيا»، في إشارة إلى تقاسم النفوذ الأميركي - السوفياتي في 1945، مضيفا: «إنهما يواصلان نفس المنطق المناهض لأوروبا.
هل تدعم روسيا الجيش الليبي؟
لا تنفصل محركات الموقف الروسي عن علاقات موسكو المتنامية على عكس أنقرة مع الدول العربية التي تصر على دعم وحدة الأراضي الليبية وتماسك الجيش الليبي. ولدى روسيا علاقات قوية مع كل من مصر والمملكة العربية السعودية والإمارات. وتعي أن مصر تنظر إلى الملف الليبي بحسبانه قضية أمن قومي. وثمة الكثير من المؤشرات التي تشير إلى أن موسكو تحاول أن تضفي الصيغ الدبلوماسية على موقفها بيد أنها على أرض العمليات تدعم الجيش الليبي في مواجهة الميليشيات الإرهابية وداعميها، ففي 7 أبريل (نيسان) 2019. بعد بدء عملية تحرير طرابلس منعت روسيا مجلس الأمن الدولي من إصدار بيان يدين تحركات الجيش الليبي، مصرة على أن البيان يجب أن يحث جميع القوى الليبية على وقف القتال.
ويعتقد الخبير العسكري الروسي بافل فيلغنهاور أن المرتزقة الروس ربما يكونون على أرض ليبيا وفي مجالها الجوي أيضا. ونظرًا لأنهم غير مرتبطين رسميًا بالحكومة، فهذا يساعد موسكو على «إنكار انحيازها لخليفة حفتر»، على حد وصفه. وقد زار حفتر موسكو ثلاث مرات منذ عام 2016. وأبحر على متن حاملة الطائرات الروسية الأدميرال كوزنتسوف عام 2017. وذلك لحضور مؤتمر جمعه بوزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو.
وتبدو موسكو بسبب قواعدها العسكرية في سوريا أقرب جفرافيا للشواطئ الليبية من تركيا ومن ثم قدرة تركيا العملياتية في الميدان الليبي مقيدة، كما أنها معرضة للإعاقة من قبل الكثير من القوى الإقليمية والدولية، سيما بعد اتفاقية ترسيم الحدود البحرية التي وقعتها مع حكومة الوفاق، والتي أفضت إلى توترات سياسية ومناوشات عسكرية لا يمكن تجاهلها في ظل علاقات موسكو الجيدة مع أغلب الأطراف التي تعارض سياسات تركيا فيما يخص الملف الليبي، ومن ضمنها كل من إسرائيل وقبرص الجنوبية واليونان بالإضافة إلى مصر.
ويبدو الموقف الروسي أكثر تماسكا وفهما لطبيعة الصراع وتعقيداته وتبعاته من الجانب التركي، فعلي سبيل المثال، قال وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، إن تركيا تسعى جاهدة لإنهاء العنف في كل من إدلب وليبيا بحل سياسي. وتابع وزير الدفاع التركي: «ليبيا هي جارتنا عبر البحر ومن غير المرجح أن نبقى على الحياد، بينما تتواجد هناك دول ليست جارة مثل الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية ومصر» هذا على الرغم من أن مصر تمتلك أطول حدود برية مع ليبيا، والتي تعد دولة عربية بالأساس بما يمنح الأدوار السعودية والإماراتية شرعية أكبر في محاولة الحفاظ على وحدة الدولة الليبية وذلك بالمقارنة بتركيا التي لا تعدو كونها دولة جوار جغرافي للمنطقة العربية.
واعتبر وزير الدفاع التركي أن السؤال حول سبب وجود الجيش التركي في ليبيا لا معنى له. وحول التطورات الأخيرة بعد رفض المشير خليفة حفتر التوقيع على اتفاق لوقف إطلاق النار في ليبيا، تمت صياغته خلال اجتماع في موسكو، قال أكار: «لا أعتقد أن قوى أخرى تريد مواجهة القوات التركية على الأرض في ليبيا، ومن المبكر القول إن وقف إطلاق النار في ليبيا قد انهار»، معتبرا أن هناك «بعض الهمس في أذن حفتر ممن يزعجهم الدور المركزي لتركيا وروسيا في الأزمة الليبية».
المصالح الروسية في ليبيا
تتنوع المصالح الروسية في ليبيا، وهي كما تركيا تعود إلى مرحلة القذافي. بيد أن العلاقات الروسية–الليبية كانت أكثر تشابكا وتطورا. فقد كانت ليبيا تعتمد على السلاح الروسي خلال السبعينيات. وقد تواجد بين 1973 و1982 ما يقارب الـ11 ألف مستشار عسكري لمساعدة الجيش الليبي على استعمال السلاح السوفياتي. ولقد أدت الإطاحة بنظام معمر القذافي إلى شعور موسكو بخطأ سياساتها حينما لم تتخذ مقاربات أكثر جدية للحيلولة دون ذلك.
وشكلت القضية الليبية أحد الملفات التي أدت إلى خلاف علني بين ميدفيدف وفلاديمير بوتين حينما كان رئيسا للوزراء حيث كان بوتين يحث على اللجوء إلى حق الفيتو ضد قرار مجلس الأمن. وما تزال روسيا منذ ذلك الحين مصابة «بعقدة» قبول القرار الأممي رقم 1973. بما يفسر تمسكها الشديد بموقفها في الملف السوري حيث استعملت موسكو حق الفيتو خلال السنوات الأخيرة على نحو مستمر متصدية لأي مشروع قرار ينتقد نظام دمشق. وهكذا يبدو أن ليبيا، التي كانت الدافع الحقيقي للموقف الروسي بخصوص الأزمة السورية، قد تصبح بوابة تزايد النفوذ الروسي في شمال أفريقيا.
وتشير تقديرات إلى أن موسكو على عكس أنقرة وجدت في الجنرال خليفة حفتر الشريك الذي يمكن التعويل عليه والذي كانت تفتقده في ليبيا ما بعد القذافي. فالجنرال الذي يقود الجيش الليبي في حرب ضد جماعات إرهابية، يبدو الرجل القوي في الجزء الشرقي من البلاد. وتنتظر موسكو اللحظة المناسبة للبدء في مده بالسلاح بعد فك الحظر االدولي المفروض من الأمم المتحدة على ليبيا ومع تقليص مخاطر وقوعه بين أيدي الجماعات المتطرفة.
وقد وُضع الملف الليبي تحت مسؤولية ميخائيل بوغدانوف، نائب وزير الخارجية المكلف بالشرق الأوسط. وقد أكد منذ مرحلة مبكرة وزير الخارجية سيرغي لافروف على الهدف الروسي المنشود في نهاية الندوة الرابعة لملتقى التعاون الروسي-العربي المنعقد في أبوظبي في فبراير (شباط) 2017. وقال: «إن موسكو ستعمل على مساعدة الليبيين على استرجاع سلامة أراضيهم ودولتهم». هذا الهدف يبدو متناقضا في الوقت الراهن مع سياسات تركيا التي تسعى بدورها إلى تعزيز الانقسام المناطقي وإطالة أمد الصراع من أجل الحفاظ على مصالحها وعدم تمدد الجيش الليبي إلى المناطق التي تسيطر عليها الفصائل المدعومة منها، على نحو دفع إردوغان إلى الإعلان في 16 يناير 2020 عن بدء إراسال الجنود الأتراك إلى ليبيا.
وعلى عكس تركيا يبدو واضحا أن روسيا تستبعد أن تخوض صراعا مسلحا مباشرا في ليبيا، من دون أن يعني ذلك عدم إمكانية تقديم الدعم على أي مستوى للجيش الليبي، مع إمكانية المساهمة في عملية بحرية متعددة الجنسيات لمنع وصول الأسلحة والجهاديين عن طريق البحر.
ويعد المحرك الاقتصادي عاملا مهما أيضا في تحركات موسكو نحو الجيش الليبي الذي يسيطر على أغلب المنشآت النفطية والمساحة الجغرافية الأوسع، وذلك في ظل قناعة بأن الساحة الليبية وما تشهده من صراعات لا يغيب عنها ما يمكن أن يطلق عليها «حروب النفط والغاز»، والتي من شأنها أن تؤثر على مصالح روسيا.
المصالح التركية في ليبيا
على عكس موسكو تتبنى تركيا خطابا مرتفع الحدة حيال الجيش الليبي. فقد هدد الرئيس التركي «بتلقين درس» للمشير خليفة حفتر، إذا استأنف هجماته ضد حكومة الوفاق في طرابلس وذلك بعد مغادرته محادثات موسكو من دون توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار. وقال إردوغان في خطاب أمام نواب حزبه «لن نتردد أبداً في تلقين حفتر الدرس الذي يستحقه إذا واصل هجماته ضد الإدارة المشروعة وضد أشقائنا في ليبيا».
وأكد إردوغان أيضا أنه سيواصل مشاركته في مؤتمر السلام في ليبيا المقرر عقده في برلين. وقال: «سنناقش هذه القضية في مؤتمر برلين الذي ستشارك فيه إلى جانب تركيا، ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وروسيا وإيطاليا ومصر والجزائر والإمارات العربية المتحدة».
وتستهدف تركيا التوصل إلى تسوية سياسية تضمن إنقاذ حكومة الوفاق وتحفظ مصالحها الاقتصادية في ليبيا، فيما تعتبر «حكومة السراج» الخيار التركي هو المتاح للحيلولة دون تقدم قوات الجيش الليبي والسيطرة على العاصمة طرابلس. وفي مقابل ذلك قدمت حكومة الوفاق لأنقرة ما قدرته بعض الاتجاهات بنحو 2.5 مليار دولار نظير تضرر الاستثمارات التركية في مرحلة ما بعد سقوط القذافي. كما منحت تركيا مسوغا يمكنها استغلاله لإقامة قواعد عسكرية على مسرح العمليات الليبي.
وتسعى تركيا إلى تعويض انحسار نفوذها وأدورها على الساحة السورية والعراقية. كما تستهدف التضيق على مصر التي تتخذ موقفا مضادا لتركيا فيما يخص غاز شرق المتوسط. وتمثل ليبيا بالنسبة لتركيا آخر محطة رئيسية من محطات الإسلام السياسي التي تعتبر أنقرة نفسها راعية له في المنطقة، بعد أن تلقى ضربات موجعة في مصر وسوريا والعراق والسودان، ولذلك لن تتخلى عن التدخل في الساحة الليبية، وهو ما يزيد من التباينات مع موسكو التي تتبنى نهجا مغايرا في علاقاتها مع هذه الدول.
وفي ضوء ذلك، أعلنت وحدات الجيش الليبي اعتبار الأهداف التركية على الأراضي الليبية أهدافًا معادية، وكذلك قررت استهداف السفن التركية في المياه الإقليمية الليبية.
وفي المقابل، جاءت ردود الفعل التركية أن قوات الجيش الليبي تعد أهدافا محتملة، لذلك تبدو المعركة الليبية طويلة وغامضة، والتصعيد في ظل المعطيات المتاحة متزايد، ولن يكون الحل إلا عبر مجابهة السياسات التركية والعمل على إتاحة الفرصة لدعم الجيش الليبي ونزع السلاح من الميليشيات المسلحة، وهي عملية تبغى موسكو أن تكون جزءاً منها لا مجابهة لها.