* الحراك الشعبي يصعّد تحركاته أمام المصارف... ومواجهة دامية مع القوى الأمنية
* الثورة الشعبية تتجدد تحت عنوان «أسبوع الغضب»، وعودة مشاهد قطع الطرقات
* الثوار يمهلون حسان دياب 48 ساعة للتشكيل الحكومي
* مراد: السلطة السياسية في لبنان متجذرة والاشتباك معها حتمي
* فرحات: التحركات الشعبية عفوية وخارجة عن السيطرة
* مصادر مطلعة على التأليف الحكومي: معلومات عن تكريس اتفاق الحكومة على أن تصدر مراسيمها في الساعات الـ48 ساعة المقبلة أو أكثر بقليل
بيروت:في اليوم الـ90 على بدء انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول)، عادت الثورة الشعبية على النظام الفاسد إلى بداياتها بعد أن منحته فترة سماح طويلة أعطاها المنتفضون للسياسيين لتأليف حكومة مستقلة من اختصاصيين، إلا أنه بدلا من أن يتحرّكوا لمعالجة الوضع المتأزم قبل سقوط الهيكل على رأس الجميع، كانت النتيجة إصرار أهل السلطة على تجاهل صرخات الناس والتلهي بتوزيع الحقائب الوزارية، لتحتفظ بمكتسباتها المحقَّقة بنهج الفساد.
وعلى وقع الأزمة الاقتصادية والمالية التي بلغت الحدود، وتحت عنوان «أسبوع الغضب»، تجددت الانتفاضة، يوم الثلاثاء الفائت، بزخم كبير فاق تقريبًا الأيام الأولى من انطلاقتها، فاشتعلت الساحات في مختلف المناطق اللبنانية مجدّدا، مُعيدة مشهدية إقفال معظم الطرق الأساسية والدولية والفرعية، فقطّع الثوار أوصال الوطن الرئيسية من الشمال إلى الجنوب، مرورًا بجبل الديب والزوق وجبيل، بالأجساد والإطارات المشتعلة ومستوعبات النفايات، مؤكدين أنهم لن يخرجوا من الساحات قبل تحقيق المطالب.
ولعلّ هذا المشهد منح يوم 14 يناير (كانون الثاني) رمزية كبيرة لجهة ما مثله من محطة مفصلية ثانية في مسار الثورة من جهة والأثر الذي ستتركه هذه الانطلاقة المتجددة على مجمل الواقع الكارثي في البلاد من جهة أخرى، لا سيما أنه للمرّة الأولى، منذ اندلاع الحراك، تشهد المواجهة حدة بين المحتجين والمصارف، مساء الثلاثاء، بدءًا من مصرف لبنان، وتلجأ القوى الأمنية إلى استخدام القنابل المسيلة للدموع، وإطلاق الرصاص المطاطي في الهواء، الأمر الذي أدى إلى سقوط جرحى من قوى الأمن الداخليوالمتظاهرين الذين عمدوا إلى الاعتداء على بعض المصارف في الحمراء وتحطيم الواجهات الزجاجية لها، إذ بقيت عمليات الكر والفر بين الطرفين، إلا أن اللافت كان مشاركة بعض مناصري الثنائي «حزب الله»، و«حركة أمل»، بالتحرك تجاه المصارف مما دفع البعض بالاعتبار أن هذا الزخم المستجد مشبوه، بسبب استغلاله من قبل الثنائي الشيعي للضغط وتوجيه رسائل إلى حاكم مصرف لبنان، رغم نفي كل من «حزب الله»، و«حركة أمل» أي علاقة لهما بما حدث.
على وقع الأزمات الانتفاضة تستعيد زخمها
ليس تفصيلاً الذلّ الذي يعيشه المواطن اللبناني على أبواب المصارف، عبر الوقوف يوميًا منذ الصباح الباكر في طوابير للحصول على 200 دولار المبلغ المحدد أسبوعيًا، من أموالهم، بسبب القيود التي تفرضها المصارف على أموال المودعين وحتى على الرواتب «الموطّنة» لديها. وليس تفصيلا أيضا خسارة المواطن اللبناني 40 في المائة من قدرته الشرائية في ظل استمرار أزمة شحّ الدولار الأميركي الحاصل بالأسواق، ومواصلة مسلسل انهيار الليرة اللبنانية مع بلوغها مؤخرًا حاجز 2500 ليرة للدولار الواحد، مع تزايد ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية ما بين 35 و50 في المائة وفقدان بعضها الآخر.
ولعلّ التعثر السياسي الذي بلغ حدوده القصوى، وفشل القوى السياسية من تشكيل حكومة تحتاج إليها البلاد اليوم قبل الغد، في ظلّ الاحتقان الشعبي جراء الوضع المالي والاقتصادي والاجتماعي الكارثي الذي يجتاح البلاد، والذي ألقى بثقله على جميع القطاعات، جميعها عوامل شكلت دفعا قويا لاستعادة الانتفاضة الشعبية زخمها لمواجهة تغطرس المسؤولين السياسيين الذين لم يرف لهم جفن إزاء ضرورة احتواء الوضع والمسارعة إلى معالجة الانهيار. فليس تفصيلا الرعب الذي ينتاب المواطن من الغد والمستقبل برمته، وتساؤلاته عن الدولار وتسعيرته، والمحروقات وتوافرها، ناهيك عن نفاد المستلزمات الطبية من المستشفيات، والكهرباء الغائبة فضلا عن الارتفاع الجنوني في أسعار السلع الاستهلاكية.
فماذا يقول الثوار عن أسباب عودة الروح والنبض إلى الشارع؟
في هذا السياق، رأت المحامية هبة فرحات، وهي من أعضاء فريق يطلق على نفسه «محامي الثورة»، في حديثٍ لمجلة «المجلة»، أن «الناس لم تخرج من الشارع بشكل كلّي، إنما ثمة الكثير من العوامل أدت إلى تضاؤل الحضور الشعبي، منها الأحوال الجوية، إضافة إلى السلطة السياسية التي حاولت محاربة الثوار بشتّى الطرق، ومنها الأوضاع الاقتصادية التي عيّشت المواطنين فيها وتضييق المصارف على الودائع، إلا أن السحر انقلب على الساحر مع عدم قدرة المواطنين على تحمّل الضائقة المادية والمعيشية»، وتابعت: «في وقت كانت السلطة تراهن على تعب الناس وخروجهم من الشارع، لكن محاولاتهم كان لها تأثير عكسي عبر إعادة الزخم الشعبي للانتفاضة».
إلى ذلك، أشارت فرحات إلى أن «جزءا من عودة الزخم للانتفاضة يتعلق ربما بالأحزاب السياسية، لأن المتحزبين أيضا تأثروا بالأزمة المعيشية والمالية، وهم عاجزون اليوم عن الدفاع عن أحزابهم وزعمائهم»، لافتة إلى «التأخر في الولادة الحكومية والتجاذبات السياسية الحاصلة حول تقاسم الحصص الوزارية رغم الأزمة التي تعيشها لبنان، فمن الطبيعي أن نرى تجدّد التحركات الاحتجاجية».
كما تطرقت فرحات إلى التنسيق والتنظيم بين مجموعات الحراك، فبعد ثلاثة أشهر على ثورة «17 تشرين»، أصبح الثوار في كل لبنان يعرفون بعضهم البعض وأصبح هناك علاقة وثيقة بينهم، وهناك تواصل دائم عبر تنظيم مجموعات مشتركة وتنسيق التحركات».
وعن برنامج التحركات في الأيام المقبلة، قالت فرحات إن «الخيام أعيد نصبها في ساحات الاعتصام في مختلف المناطق اللبنانية، ويبدو أن الناس عادت وستبقى في الشارع»، مؤكدة أن «غالبا ما تكون التحركات في الشارع عفوية وكذلك هي خارجة عن السيطرة»، مشيرة إلى أن «المطالب لا تزال كما هي ولم تتغيّر بدءًا من حكومة اختصاصيين ومستقلين».
وعن قطع الطرقات أشارت فرحات إلى أنه سيتم قطع الطرقات في مختلف المناطق بشكل يومي، فهي وسيلة تعبير مشروعة، لافتة إلى أنهم مستعدون لمواجهة قمع السلطة وتضييق القوى الأمنية. وتابعت: «نحن كلجنة محامين دائما كنا برفقة الثوار على الأرض لمواجهة التوقيفات التعسفية».
وفي الختام، شدّدت فرحات على أن «الثورة ستؤدي إلى نتائج وستنجح، ونحن من البداية كانت نظرتنا واقعية للأمور، وكنا ندرك أن النتائج المرجوة لن تتحقق بسرعة إنما تحتاج إلى وقت وستحقق عاجلاً أم آجلاً».
هل تتصاعد الانتفاضة الشعبية وهل هذا الزخم مشبوه؟
في حديث مع أستاذ القانون الدولي الدكتور علي مراد، وهو أحد الفاعلين والمشاركين في «انتفاضة 17 تشرين الأول»، لـ«المجلة» رأى أن «الثورة ترتبط بسيرورة، وزخمها مرتبط بظروف عملية منها الأعياد والطقس العاصف الذي شهده لبنان طيلة 3 أسابيع، ناهيك عن انشغال طلاب الجامعات وتلامذة المدارس بالامتحانات الأسابيع الماضية، فجميعها عوامل تضافرت وأثرت على زخم الانتفاضة»، مضيفا أنه «لا يمكن إغفال تراكم اللامسؤولية لدى السلطة السياسية، إذ لم نر أي تصريح لمسؤول يصارح فيه اللبنانيين حول الأوضاع المالية والآفاق والاحتمالات التي يمكن أن تواجه المواطنين في الأيام المقبلة، باستثناء حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي لم يعط صورة واضحة عما تمرّ به البلاد».
إلى ذلك رأى مراد، أن العوامل السياسية لعبت أيضًا دورًا مهما بإعادة نبض الشارع، لا سيما مع التأخر في التشكيل الحكومي بسبب الصراعات بين أركان السلطة، مشيرا إلى أنه «حتى اليوم لا تزال السلطة السياسية تتصارع حول الحقائب الوزارية، حتى إننا لن نسمع بأي خلاف حول البرنامج السياسي والاقتصادي المنتظر»، وأضاف: «اللحظة كانت جد طبيعية أن يعود الشارع ويتحرك، وكنا ننتظر هذا الأمر».
وعن الحديث حول مشاركة بعض الأطراف السياسية في التحركات الشعبية في اليومين الأخيرين، قال مراد إنه «ثمة أطراف سياسية اليوم لديها مصلحة أن تطيح بالرئيس المكلف حسان دياب عبر المشاركة بالتحركات، لكنّ استغلال الأطراف السياسية للحراك أمر متوقع وعلينا أن نتعايش معه كمحتجين وكثوار»، مشيرا إلى أنه «حتى ولو حاولت بعض الأحزاب السياسية استغلال الحراك فإن الموضوع خرج من يدها، والناس واضحة في هذا المجال عندما تصرّ على شعار (كلن يعني كلن) بغض النظر عمن يظن نفسه مستفيدًا آنيا بالإحراج وزيادة الضغط على الرئيس المكلف».
وحول عودة مشهد قطع الطرقات بعدما استعاض الثوار عنه في الأيام الأخيرة بأساليب أخرى للضغط على السلطة السياسية، قال مراد إن «قطع الطرقات هي وسيلة وليست هدفا بحد ذاتها، وهي طريقة تعبير مشروعة في كل دول العالم وتستخدم في مختلف الاحتجاجات»، لافتًا إلى أن «الناس تستخدم حق قطع الطرقات للضغط على السلطة وهو أمر مشروع ولا يحق لأحد أن يخوّن أو أن ينتقد المحتجين لاستخدامهم هذا الأسلوب»، مشيرا إلى أن «قطع الطرقات من دون مشاركة شعبية كبيرة لا معنى لها، بل على العكس فإنه يضر بالثوار».
إلى ذلك أكّد مراد أن «المواجهة مع طرفين، إذ يجب الضغط على المصارف من جهة، وكذلك الضغط على السلطة السياسية من جهة أخرى، ولا يمكن الاكتفاء بواحدة منها أو المفاضلة بينهما»، وتابع: «قوّة التحرك هي عبر الضغط على الجهتين».
وعن مطالب الانتفاضة الشعبية، رأى مراد أن «الطلب اليوم هو بخروج دياب من السلطة، فعلى الرغم من أن بعض المجموعات أمهلته 48 ساعة للتشكيل، إلا أن المزاج العام يتجه نحو اعتذاره عن التأليف الحكومي لأنه من الواضح أن دياب لا يستطيع أن يكون مدخلا للحل، لا على المستوى الموضوعي للظروف السياسية التي أدت إلى تكليفه ولا الظروف الموضوعية المرتبطة بكفاءته الشخصية وقدرته على إخراج لبنان من هذه الأزمة».
كما اعتبر مراد، أن «المشكلة الأساسية ليست مشكلة أشخاص إنما هي بشكل أساسي مشكلة مقاربة، فالعقل الذي اختار دياب لا يزال يفكر بمنطق ما قبل (17 تشرين) فيما يتعلق بالمحاصصة وتقاسم الحقائب والمقاعد الوزارية، فحتى لو تم تكليف أكفأ شخصًا فهو لن ينفع في ظل هذه السياسة، إلا من خلال تغيير المقاربة عبر مناقشة البرنامج السياسي والاقتصادي، ومن سوف يتحمّل كافة هذه الأزمات والانهيارات، وهل سيتم تحميلها للطبقات الأكثر فقرًا أم لا، وعندها يصبح موضوع الأسماء أقلّ أهمية».
وفي الختام، شدّد مراد: «إننا في معركة صعبة، فالسلطة السياسية في لبنان متجذرة، وهي أقوى مما نظن والمواجهة معها ليست رحلة استجمام، وبالتالي الاشتباك معها حتمي ولا يوجد سوى الضغط الذي سوف يجبرها على التراجع، وتابع: «السلطة لا تزال تشتري الوقت فجربت العنف وكذلك الاحتواء ومن ثم التخوين والاتهام بالتمويل الخارجي إلا أن كل ذلك لم ينفع، وفي النهاية ستدرك السلطة وجوب الانصياع لإرادة الشعب»، مشددًا على أنها «حرب ميزان قوى».
المستجدات الحكومية
تتأرجح بورصة التأليف الحكومي صعودًا وهبوطًا، فعل الرغم من أن مطلع العام شاعت أجواء توحي بأن ولادة الحكومة باتت قاب قوسين أو أدنى من التشكيل، لكن سرعان ما تبخرت كل هذه الآمال، وأُعيد خلط جميع الأوراق مجددًا لا سيما بعد التطورات الإقليمية المتعلقة بالاغتيال الأميركي لقائد فيلق القدس، قاسم سليماني، من جهة، ورد الإيراني من جهة ثانية.
وفيما شهدت الأيام الأخيرة انقلاب أصحاب التكليف على التأليف الحكومي، بعدما وجدوه غير مطواع كما توقعت، فأمعنت بوضع الشروط والتضييق على رئيس الحكومة المكلف حسان دياب لدفعه نحو الاستقالة، وهو ما يترجم مشاركة بعض أحزاب السلطة في التحركات في اليومين الماضيين، والتي جاءت بعد تلويح رئيس مجلس النواب نبيه بري بعدم مشاركته في الحكومة العتيدة وإصراره على تشكيل حكومة تكنوسياسية جامعة، بخلاف حكومة «التكنوقراط» التي يقال إن دياب يعمل على تشكيلها، ومن جهة ثانية الخلاف المستجد بين الراعي الأوّل للتكليف، وزير الخارجية والمغتربين في حكومة تصريف الأعمال، جبران باسيل، حول الحقائب؛ إذ تشير مصادر مطلعة على عملية التأليف لـ«المجلة» إلى أن «الخلاف بدأ بين باسيل ودياب على خلفية رغبة الأخير بالحصول على حقيبتي الداخلية والخارجية وحول بعض الأسماء التي يعترض باسيل على توزيعها.
ورأت المصادر المتابعة نفسها أن «ما بعد 14 يناير ليس كما قبله، إذ ساهم ضغط الشارع إلى حد ما بحلحلة حكومية، إذ أظهرت الاتصالات على خط التأليف الحكومي أمس أجواء تميل إلى إيجابية محدودة، وشاعت ليلاً معلومات عن تكريس اتفاق على حكومة اختصاصيين تتكوّن من 18 وزيرا، على أن تصدر مراسيمها في الـ48 ساعة المقبلة أو أكثر بقليل بعد استكمال الاتصالات بشأنها. وبرز هذا التطور في ظل تصاعد الحراك الشعبي مجددًا.
وأكدت المصادر نفسها عدم وجود تغييرات جوهرية طرأت على شكل الحكومة وتوزيع الحقائب والأسماء باستثناء أمور تتعلق ببعض «الرتوش».
فهل فعلاً سنشهد ولادة حكومية في اليومين المقبلين قادرة على مواجهة الأزمات المستفحلة، وهل ستحظى هذه الحكومة بثقة وتأييد الشارع الثائر؟ وحدها الأيام كفيلة بتحديد ما إذا كان ما يُحكى عن تقدّم كبير على خط تشكيل الحكومة حقيقيا، أم إنّنا لا نزال ندور في الحلقة المُفرغة نفسها وأن ما يحدث مجرد محاولة لكسب المزيد من الوقت عبر إشاعة أجواء إيجابية لعلها تمتص غضب الشارع.