* ماذا بعد سليماني؟
لا أحد يعلم. الانتقام؟ التفاوض؟ الرضوخ؟ الحرب؟ الانسحاب الأميركي من العراق؟
كل الاحتمالات تبقى قائمة في ظل توافد أعداد هائلة لسلاح الجو الأميركي إلى الشرق الأوسط بشكل ينذر بحرب وشيكة
لم يعتقد الإيرانيون يوما أن يعطي الرئيس ترامب الأمر للبنتاغون بالتخلص من قاسم سليماني. هو بالنهاية الرجل الأقوى في طهران.
ولكي نفهم الذهول الذي أصاب الجميع على وقع خبر اغتيال سليماني، يجب أن نعرف مدى أهمية الرجل، ليس فقط في إيران إنما في المنطقة أيضا. سليماني هو رجل يتمتع بحس استراتيجي متطور، مما مّكنه من الجمع بين الأمن والسياسة وكان فعّالا في المجالين، وهنا تكمن خطورته.
يتحدر سليماني من عائلة فقيرة تسكن إحدى ضواحي كرمان، رجل قصير القامة قليل الكلام. التحق بالحرس الثوري في العام 1980 ومات قائدا لفيلق القدس.
طّور قدرات فيلق القدس بشكل كبير ولافت للنظر أمنيا وعسكريا واقتصاديا حتى صنع منه قوّة مهابة في المنطقة لها تأثيرها في أكثر من ساحة. في العراق وفي سوريا وفي لبنان كما في اليمن. نفوذ فيلقه وصل إلى أميركا اللاتينية وآسيا وأفريقيا حتى. له الفضل الأكبر في تكوين جبهة الممانعة، هذا الجسر الذي بناه لكي تمارس إيران نفوذها خارج حدودها فتصل إلى حدود الجولان لتحاصر إسرائيل من ثلاث جبهات.
دعم «حزب الله» ورعى ميليشيات ترتبط بإيران عقائديا كفيلق بدر، وجيش المهدي في العراق.
حسه الاستراتيجي دفعه لمساعدة الأميركيين في أول أيام اجتياح العراق وأفغانستان.
واستمر التعاون بين البلدين خلال المرحلة الأولى من الحرب بفضله.
يروي السفير الأميركي ريان كروكر لصحيفة «نيويوركر» كيف أنه تسلم في وقت من الأوقات من رئيس المفاوضين الإيرانيين الذي كان يلتقيهم في جنيف بعد اعتداءات 11 سبتمبر (أيلول) خريطة توضح بالتفصيل مواقع قوات طالبان:
«إليك نصيحتنا- قال له المفاوض الإيراني- اضربهم هنا أولاً، ثم هنا».
سأل كروكر: «هل يمكنني تدوين الملاحظات؟».
- «يمكنك الاحتفاظ بالخريطة».
ويذكر السفير كروكر أنه في إحدى المرات، أعطى مفاوضيه الإيرانيين اسم وعنوان أحد عملاء تنظيم القاعدة الذي كان يعيش في مدينة مشهد الشرقية.
عندما تأكد سليماني أن إيران ليست هي الهدف التالي بعد العراق انتقل إلى مرحلة طرد الأميركيين من بلاد الرافدين كي يستطيع التحكم بها من دون منازع.
كان يعرف أن عدد النعوش الآتية من العراق ستخلق ردّة فعل غاضبة في الأوساط الأميركية. فكثف من عملياته من خلال الميليشيات العراقية التي كان يرعاها.
تحقق له أكثر ما كان يأمل بانتخاب أوباما رئيساً.
كان الترهيب والقتل من أدوات العمل لديه. فهو متهم بعمليات إرهابية في تايلند ونيودلهي ولاغوس ونيروبي وبلغاريا. ولكن أشهر عملياته تبقى محاولته اغتيال السفير السعودي في أحد مطاعم واشنطن الذي يبعد أميالا عن البيت الأبيض.
تدخله في الحرب السورية دعما للرئيس الأسد جعله يدع ظلّه جانبا، ويظهر على الجبهات بشكل لافت وبين عسكره ومقاتليه. وبدأ ينتقل كثيرا ما بين لبنان وسوريا والعراق.
أنقذ مع الروس نظام الأسد من السقوط. استعمل حجة «الحرب على الإرهاب» لتبرير تدخله العسكري المباشر في كل المنطقة، وأصبح حليفا موضوعيا للرئيس أوباما في تلك المهمة، مستفيدا من رغبة الأخير في تجديد العلاقة مع طهران من خلال إعفائها من العقوبات والتوقيع معها على اتفاق نووي لا يمنعها من الاستحواذ على القنبلة النووية.
في اجتماع مع القادة العرب في كامب ديفيد الذي قاطعه ملك السعودية أبدى الرئيس الأميركي إعجابه بالحرس الثوري وفيلق القدس وقائده.
كان لسليماني حضور أيضا مميز في الساحة السياسية الإيرانية وتأثير على السياسة الخارجية حدا بوزير الخارجية جواد ظريف الاستقالة من منصبه اعتراضا على تهميش دوره لصالح «قائد الظل».
ربطته علاقة مميزة مع مرشد الثورة الإيرانية سمحت له بأن يكون الرجل الأقوى في إيران.
نشاطاته الاقتصادية كانت تقوم أساسا على أعمال إجرامية كتبييض العملة وتهريب المخدرات وبيع السلاح، يساعده في تسهيل مهامه مجتمع شيعي منتشر في أكثر من قارة، إضافة إلى علاقات متينة مع بعض «ثوار» أميركا اللاتينية كهوغو شافيز مثلا وبعض قادة أفريقيا كرئيس غامبيا السابق يحيا جامي.
رغم تلك القوة التي تمتع بها فيلق القدس وقائده كانت إيران وما زالت ترزح تحت عبء اقتصادي قاس نتيجة حصار الولايات المتحدة لها.
لم يستطع سليماني إغواء ترامب كما أغوى قبلا أوباما، وعارض بشدة دعوة الرئيس الأميركي للتفاوض لأن شروط التفاوض التي أعلن عنها وزير خارجية أميركا مايك بومبيو ولخصها في 12 نقطة كانت بمثابة إنهاء لمهام فيلق القدس الذي ضحى بحياته من أجله.
أشرف مؤخرا على قمع الثورة العراقية وتلك التي اندلعت داخل إيران بالعنف والدم.
هذا القليل مما يعرف عن الرجل ومهامه، يختصر أهميته في المشهد الداخلي الإيراني والإقليمي. لهذا لا يزال الذهول سيد الموقف بعد مضي أسبوع على اغتياله من قبل الأميركيين.
ماذا بعد سليماني؟
لا أحد يعلم. الانتقام؟ التفاوض؟ الرضوخ؟ الحرب؟ الانسحاب الأميركي من العراق؟
كل الاحتمالات تبقى قائمة في ظل توافد أعداد هائلة لسلاح الجو الأميركي إلى الشرق الأوسط بشكل ينذر بحرب وشيكة.
من قتل الرجل الثاني في إيران هل يضرب قلب طهران إذا ما قامت الأخيرة بعمل انتقامي؟