* نسبة مشاركة الفقراء 7 % بينما تكشف أرقام الأمم المتحدة أن أكثر من مليون لبناني تحت خط الفقر
* الانتفاضة ستجذب المزيد من الجماعات خصوصًا المطرودين تعسفيًا من وظائفهم
* في المستقبل سيزداد الضغط على المصارف
* التغيير الحقيقي في لبنان يحتاج إلى ثلاثة أجيال ليحصل
* 200 ألف لبناني سيخسرون وظائفهم مع نهاية عام 2019
بيروت: في الأسبوع الثاني من شهر ديسمبر (كانون الأول) استعادة الانتفاضة اللبنانية بريقها، بعدما ظن كثيرون أن المظاهرات التي اندلعت في أكتوبر (تشرين الأول) في مختلف المناطق اللبنانية دخلت مرحلة الانكماش. عوّلت الأحزاب المتمثلة بالسلطة على أنه مع مرور الوقت ستخمد الاحتجاجات.
في 15 ديسمبر (كانون الأول) عاد الزخم الشعبي إلى الشارع حين صد المحتجون خطوة مجلس النواب لعقد جلسة إلزامية بهدف مباشرة تكليف الحكومة العتيدة. فالطبقة الوسطى في لبنان كلما تزعزع وجودها سيزيد ذلك من الضغط الشعبي.
طيلة الفترة السابقة لهذا التاريخ، حاولت السلطة اللبنانية التي تمثل كافة الأحزاب، ضبط إيقاع الأزمة اللبنانية في حدود تغيير الحكومة فقط. ولكن مساء 15 ديسمبر (كانون الأول) تحرك الشارع ضد مجلس النواب وما يرمز إليه، والذي يعتبره المتظاهرون مسؤولاً مباشرا عن إنتاج المنظومة الحاكمة العاجزة عن حل أبسط المطالب، كأزمة النفايات التي ما زالت دون حل منذ عام 2015.
ورغم التحليلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي ترافق مشهد الانتفاضة اللبنانية التي انطلقت في 17 أكتوبر (تشرين الأول)، غير أن هذا التحليلات المترافقة مع المشهد الشعبي اللبناني العنيف تنقصها الأرقام والإحصاءات الضرورية لتشكيل صورة أوضح عن موقف اللبنانيين من الانتفاضة التي طالت شعاراتها السلطة التشريعية والرئاسية والحكومية وصولاً إلى التصويب على القضاء اللبناني لتطهيره من المحسوبيات والصفقات التي أوشكت على ضرب سمعة القضاء.
تبادر مراكز إلى جانب مبادرات فردية إلى فهم الانتفاضة اللبنانية عبر الأرقام. تظهر الإحصاءات الأولية عن الانتفاضة موافقة شريحة كبيرة من المتظاهرين على شعار «كلن يعني كلن»، وذلك بحسب ما كشفته دراسة صدرت عن مجلة «الفينيق» اللبنانية وناقشها مركز نفسانيون في ندوة جرت في 13 ديسمبر في بيروت. تقول الدراسة إن 74 في المائة من الذين شاركوا في الاستبيان يؤيدون شعار «كلن يعني كلن»، والذي أدى إلى إشكالات كبيرة حين طال رموز «حزب الله» وحركة أمل. يظهر الاستبيان أن 29 في المائة من المشاركين في الاستبيان لم يشاركوا في المظاهرات، ومرجح أن عدم مشاركتهم في المظاهرات، سببه الخوف من أن تهدد المظاهرات، أمنهم الاجتماعي والاقتصادي.
وقد طال الاستبيان أكثر من ألفي مواطن لبناني. وفي مقاييس العينات الاستبيانية فإن عدد الأشخاص الذين شملهم الاستبيان تماثل الواقع وتحاكيه، خصوصًا أن الاستبيان راعى التوزع الديموغرافي والتنوع الطائفي والفروقات الطبقية. حيث إن 27 في المائة ممن شاركوا في الاستبيان من الطائفة السنية، و23 في المائة من الطائفة الشيعية، و20 في المائة من الموارنة، و12 في المائة من الطائفة الدرزية، و10 في المائة من الطائفة الأرثوذكيسية، و4 في المائة من الأقليات الدينية، بينما 35 في المائة لم يحددوا هويتهم الطائفية وهو مؤشر أخذه الأستاذ يوسف كفروني معد الاستبيان على أنه مؤشر أكثر من إيجابي عن التحول الفكري الذي يحصل في لبنان.
أكثر من 20 في المائة من المشاركين في الاستبيان جاءت أعمارهم دون 24 عامًا، ونحو 50 في المائة دون 44 عامًا، مما يشير إلى الزخم الشبابي في دفع الانتفاضة إلى الأمام.
الطبقة الوسطى وقود الانتفاضة اللبنانية
الانتفاضة في بيروت إذا ما كانت تتلقى بعض وقودها من الطبقات المسحوقة في المدن المركزية والأطراف اللبنانية، إلا أن نبضها يعود للطبقة الوسطى، أي الموظفين الذين يواجهون خطرًا وجوديًا يهدد مكانتهم في المجتمع اللبناني. هذه الطبقة الوسطى التي تتمثل بالعمال والموظفين في الدوائر الحكومية وغير الحكومية ويتقاضون رواتب تكفيهم على إعانة حياتهم اليومية. الأزمة المالية التي دخلها لبنان قبل انتفاضة 17 أكتوبر اشتدت مع إحجام المصارف اللبنانية عن تسليم الأموال المودعة في البنوك لأصحابها.
الطبقة الوسطى هم الأكثر استفادة من المصارف من خلال القروض الميسرة إضافة إلى رواتبهم التي يتقاضونها من البنوك.
منذ بداية الانتفاضة فرضت المصارف قيودًا شديدة على المودعين، فحددت سقف سحب الأموال إلى 200 دولار كحد أقصى في الأسبوع. وتضرر الطبقة الوسطى من تدني مستوى الحياة في لبنان، أكده الاستبيان، إذ يفيد الأخير بمشاركة 52 في المائة من الطبقة الوسطى في الحراك الشعبي، خصوصاً أن أرقام البنك الدولي تشير إلى أن هذه الطبقة معرضة للانهيار في حال خسرت العملة اللبنانية 25 في المائة إضافية من قيمتها في المستقبل القريب، ليدخل مع هذه الخسارة نحو نصف مليون لبناني عالم الفقر. أما ما يثير الغرابة أن الطبقات التي تقع ظروفها تحت خط الفقر بلغ حجم مشاركتها نحو 7 في المائة بينما بلغت نسبة مشاركة الطبقات الميسورة في الانتفاضة 4 في المائة.
الفقراء غائبون عن زخم الشارع المنتفض
تتقارب نسبة مشاركة الأغنياء بنسبة مشاركة الطبقات المسحوقة. نسبة مشاركة المسحوقين ضئيلة جدًا، لا بل مخيبة للآمال. الفقراء ليس لديهم شيء ليخسروه. في لبنان يبلغ عدد الفقراء نحو المليون نسمة بعضهم يتقاضى دولارين فقط باليوم أي ما يقارب 233 دولار في الشهر فقط. ويسندون أنفسهم من خلال خدمات صحية لا يعود معظمها للدولة بل إلى القوى الحزبية التي تنشئ مستوصفا هنا وتعاونية تقدم للفقراء مواد غذائية من خلال بطاقات إعانة. قد يرى الفقراء أنهم ليسوا متضررين حتى من انحسار العملات الصعبة. فالصراع على المال محصور فقط بين المصارف والطبقات الوسطى والثرية. يرى الفقراء أن الوضع الذي كان قائما أفضل من المجهول.
تكشف أرقام الاستبيان أن الميسورين والمسحوقين، هم الأكثر استنفاعًا من القوى السياسية الحاكمة، فعلى صعيد الأغنياء يتخوفون من خسارة امتيازهم الذي يمر عبر الدولة والأحزاب،
كما أن مصادر خاصة كشفت لـ«المجلة»، أن ما يقارب الـ40 ألف دولار يتم ضخها يوميا لشراء العملات المشفرة خصوصًا بعد انكسار الثقة بالعملة الورقية والتخوف من انهيار إضافي لليرة اللبنانية أمام العملات الصعبة. من المؤكد أن الكتلة النقدية الهاربة من العملة الورقية إلى العملة المشفرة هي بين أيادي الأغنياء، ذلك أن مالكي البتكوين يضعون شروطًا لبيعها، أبرزها أنه لا يمكن شراء العملة المشفرة بأقل من ألفي دولار كحد أدنى.
يبدو أن حسابات الفقراء نحو المشاركة في الانتفاضة مختلفة، إذ ترى الشريحة العظمى من القابعين تحت خط الفقر أنه في حال تعرضت القوى الحاكمة إلى خطر فستخسر صَلَتها مع عناصر توفر لها في الحد الأدنى خدمات عينيّة وطبية، وهنا فإن تقاعص الفقراء عن منح الانتفاضة زخمها ما زال مجهولاً ويحتاج إلى المزيد من الدراسات، وتزداد الحاجة إلى دراسة علاقتهم مع القوى الحاكمة في أن تحركات ساحات بيروت كساحة رياض الصلح وساحة الشهداء والرينغ تشهد دائمًا زخمًا في مشاركة الفقراء الذين يقطنون في مناطق محيطة ببيروت الإدراية إلى جانب الثنائية الشيعية في قمع المتظاهرين.
وبحسب الاستبيان، فإن 83 في المائة من اللبنانيين يؤيدون الانتفاضة، و9.1 في المائة فقط يرفضونه بشكل قاطع. كما تظهر الأرقام أن 92 في المائة يؤيدون الاعتصامات في الساحات، بينما 39 في المائة يؤيدون قطع الطرقات. و73 في المائة يؤيدون شعار «كلن يعني كلن» وهو شعار سبب حين طال رموزا دينية وحزبية الكثير من الاشتباكات والاعتداءات على ساحات الاعتصام. كما أن 7 في المائة من اللبنانيين يؤيدون السباب والشتائم، وأكثر من 95 في المائة يؤيدون حلقات الحوار والندوات التي تعقد في ساحات الاعتصامات.
كذلك فإن 62 في المائة من اللبنانيين يريدون من رئيس الجمهورية ميشال عون الاستقالة، أما 73 في المائة فيريدون حل مجلس النواب، بينما أيد 84 في المائة استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري. يقول الاستبيان أيضًا أن 98 في المائة يريدون محاكمة الفاسدين لأي فئة سياسية انتموا، ويريدون استعادة الأملاك المنهوبة كالمساحات العامة عند الشاطئ اللبناني الذي تحول إلى منتجعات خاصة تخضع لمحسوبيات سياسية بحسب المناطق المقامة بها، و10 في المائة من اللبنانيين يؤيدون استمرار النظام الطائفي الحالي، و89 في المائة يريدون إلغاء الطائفية السياسية، و88 في المائة يريدون فصل الدين عن الدولة، و83 في المائة يؤيدون منع رجال الدين من التدخل في السياسة، و85 في المائة من اللبنانيين يريدون شطب المذهب عن الهوية. أما بالشق المعيشي، فيريد 74 في المائة من اللبنانيين فرض قانون الضريبة التصاعدي.
خلال الندوة التي جرت تحدث معد الاستبيان يوسف كفروني عن أن الأكثر مشاركة في الحراك من أبناء الطائفة السنية والدرزية.
المزيد من المواطنين سيلتحقون بالانتفاضة
الانتفاضة ستجذب المزيد من المواطنين الذين خسروا وظائفهم، وفي هذا السياق قال المستشار السابق في الجمعية اللبنانية لتعزيز الشفافية «لا فساد» الأستاذ سعيد عيسى، قال لـ«المجلة» إن الأرقام التي عرضها الاستبيان تحتاج إلى ثلاثة أجيال كي تتحول إلى حقيقة عملية على أرض الواقع. وبحسب قوله فإن «الجميع يتحدث عن ضرورة قيام دولة مدنية ولكن مسار بناء الدول المدنية بعيد ويحتاج إلى صيرورة طويلة من العمل السياسي».
ويرى عيسى أن «الانتفاضة كسرت محرمات عدة، أبرزها الحضن الطائفي الذي كان يؤوي شريحة كبيرة من اللبنانيين». حتى بدت القوى الحزبية التي تحاول افتعال إشكالات طائفية لحرف مسار الانتفاضة ضعيفة. تلعب هذه القوى على ثلاث غرائز، الخوف والجوع والجهل.
تحاول قوى حزبية تخويف الناس من الجوع في حال استمروا في انتفاضتهم.
أما فيما يخص شعار «كلن يعني كلن» فيقول عيسى إن الشعار في حال استمر الشارع في تبنيه سيترجم بقوة أكبر في أرض الواقع.
يشير عيسى إلى أنه رغم رغبة اللبنانيين في محاسبة الفاسدين «إلا أن ذلك قد يكون صعبًا نوعًا ما، إذ سنشهد محاسبة ولكن ليس بالحجم الذي يرغب فيه المواطنون». مع الأخذ بعيّن الاعتبار أن ما يحصل في الشارع يؤسس لقضاء حازم مع الفاسدين. يتوقع عيسى أن الأزمة المالية التي ضربت الاستقرار المعيشي للبنانيين ستدفع جماعات بشرية لم تشارك سابقًا في الانتفاضة إلى المشاركة بالمظاهرات، وعلى رأسهم الموظفون الذين بدأ جزء منهم يخسر وظيفته.
المحلل السياسسي وسام سعادة قال في حديثه مع «المجلة» إن «الذين يبيعون قوة عملهم شكلوا ويشكلون الأكثر مشاركة في الاحتجاجات. لقد كان حضور البرجوازية الصغيرة التي تعتمد في معاشها على الريوع والخدمات بارزًا في الاحتجاجات، ويتفاوت زخم مشاركتها بحسب الأحداث».
يقول وسام سعادة إن الضغط على المصارف ما زال محدودًا، نسبة إلى عمق أزمة ثقة المواطنين بالنظام المصرفي حاليًا، أو نسبة للانتفاضة ككل.
في الأونة الأخيرة أرسلت عدة مصارف رسائل نصية إلى اللبنانيين تبلغهم تأجيل العمل بصرف الودائع المالية لديها، كذلك قام لبنانيون بالدخول إلى عدة مصارف وتنفيذ وقفات احتجاج داخلها، كما قام مواطنون بتلطيخ آلات سحب الأموال الخارجية بالطلاء الأحمر، وانتشر فيديو لامرأة تندب حالها عند باب مصرف، وتطالبه بمنحها القليل من الليرات لإطعام أطفالها. لا يستبعد سعادة أن «يزداد الضغط على المصارف»، مضيفا: «الأهم هو تنظيم حركة المودعين الضاغطة تبعًا لكل مصرف».
ليس واضحًا، متى سيخرج اللبنانيون من عنق الزجاجة. لا بل على العكس، يبدو أن السلطات اللبنانية مجتمعة تتوقع الأسوأ، فقبل أيام باشر مجلس النواب تشييد جدار عازل كبير عند أسواره المطلة على حي المصارف الشهير وسط بيروت، في دلالة إلى أن التحركات القادمة ستكون بوجه المصارف ومجلس النواب الذي يتحمل مسؤولية كبيرة عمّا يحصل.
مع نهاية العام الحالي، من المتوقع أيضًا أن يخسر 200 ألف عامل لبناني وظائفهم بسبب الفصل التعسفي، كذلك توجد فئة من الموظفين تعمل دون أن تتقاضى رواتبها وتخاف من تقديم استقالتها لأنها ستخسر بذلك قدرتها على الحصول على تعويضات مالية. رئيس الاتحاد العام لنقابات العمال مارون الخولي طالب وزارة العمل بالكشف عن الإحصاءات الرسمية لعمليات الفصل الجماعية الحاصلة، وتوثيق الانتهاكات الحاصلة بحق العمال.
بداية عام 2020 سيحافظ 50 في المائة من العمال على وظائفهم ولكن برواتب متقطعة وحتى دون رواتب.