* شعار «كلن يعني كلن»، ليس على أساس مذهبي، أو طائفي، أو مناطقي حتى، إنما على أساس تحميل السلطة، متضامنة ومتكافلة، مسؤولية الكارثة الاقتصادية والمالية والاجتماعية التي وصل إليها البلد
لم يفهم بعد أمراء الحرب أن لا دور لهم في بناء مستقبل لبنان.
انتهت الحرب عام 1991 من دون أن يعرف اللبنانيون كيف ولماذا؟ استفاقوا على فرار جنرال التحرير ودخول الجيش السوري إلى المناطق «المسيحية» والتي في المبدأ كان ممنوعا عليه دخولها. سقطت الخطوط الحمراء بوجه النظام السوري برضا الأميركي الذي اصطحب معه الرئيس الأسد إلى حرب الخليج الثانية.
ودخل لبنان دوامة الوصاية السورية. فيما كان من المفروض تطبيق اتفاق الطائف، في نزع سلاح الميليشيات، وإلغاء الطائفية السياسية، وإعادة انتشار الجيش السوري إلى البقاع، انصرف الرئيس حافظ الأسد إلى افتعال حرائق داخلية ليهرع هو نفسه إلى إطفائها، بمعّية كل الكتل السياسية اللبنانية غير المغضوب عليها أيامها.
هذا كان قبل اغتيال الرئيس الحريري، وفي وقت الإعمار حيث كان العرب يغدقون على لبنان بالمال والمساعدات. كان الجميع سعداء. فالأعمال الخدماتية كانت تدر أرباحا على أصحابها. المشكلة أن هذا الازدهار الاقتصادي البسيط كان شبه محصور ببيروت.
على كل الأحوال التطور في البنى التحتية اللبنانية بعد فترة الحرب كان مقارنة بالأموال الطائلة التي صرفت عليها خجولا. فلم تسع الحكومات التي تتالت بعد الحرب الأهلية إلى ربط الأطراف بالمدن الكبرى، أو إنشاء مواصلات عامة أو تحسين شبكات الطرقات، أو تطوير شبكات الإنترنت، أو معالجة مشكلة الكهرباء إلى ما هنالك من أمور كان يجب أن تعالج، خاصة أن الأموال كانت متوافرة. للأسف لبنان الرسمي اكتفى بأن يكون اقتصاد البلد قائما على سرية المصارف من أجل جذب المودعين من كل أنحاء العالم وعلى الخدمات السياحية على أنواعها. نجاح هذا النموذج الاقتصادي يرتكز بشكل أساسي على الاستقرار الذي يولد الثقة لدى المودع والسائح على السواء، مع أنه ينحصر بالعاصمة وضواحيها بشكل كبير ويهمل الأطراف.
مع اغتيال الحريري دخل لبنان مرحلة من عدم الاستقرار السياسي تلته تطورات في المنطقة وحروب أدت إلى انكماش اقتصادي أثر على لبنان بشكل مباشر خاصة أنه تحول إلى ساحة مواجهة بين الإيرانيين ممثلين بـ«حزب الله» والعرب.
وبين هذه وتلك دخل الأميركيون على خط المواجهة، وأطلقوا مشروع كاساندرا لمكافحة الإرهاب وكانت أولى نتائجه اتهام البنك اللبناني الكندي بتبييض الأموال لصالح «حزب الله». ثم بدأت سلسلة العقوبات الأميركية تطال أعضاء في «حزب الله» ورجال أعماله بالتوازي مع فرضهم قوانين صارمة على المصارف اللبنانية أطاحت نوعا ما السرية المصرفية التي طالما تغنى بها وسمحت له باستقطاب ودائع كبيرة.
بدأت الثقة بلبنان تتزعزع. وبدأت رؤوس الأموال تبحث عن ملاذ آمن آخر، واكتشف اللبنانيون أن اقتصادهم كان قائما على وهم وسراب.
لا، بل أكثر، اكتشفوا أيضا أن سياسييهم وزعماءهم نهبوا مليارات الدولارات لأكثر من ثلاثين عاما، فإذا بطرقاتهم تغرق مع كل شتاء، وكهربائهم تستنزف الميزانية العامة بأكثر من ثلثها كل عام. واكتشفوا أن التعهدات تُعطى ليس للأكفاء أو الأوفر على خزانة الدولة، إنما تُعطى لموالي الزعيم وحتى لو لم يكن يملك خبرة تؤهله للقيام بالأعمال التي رست بقدرة قادر عليه.
اكتشف اللبنانيون أن هناك شركات وهمية أسسها الزعماء لكي تحصل على قروض صناعية مدعومة من دون أن يكون لديهم مصانع، بل مجرد جشع لإيداعها في البنوك والاستفادة من الفرق بين فائدة الدعم وفائدة الإيداع. وهذا غيض من فيض لمآثر الزعامات اللبنانية في المال العام والتي وصلت بفضل التكنولوجيا ووسائل التواصل لاجتماعي إلى كل بيت وأصبح من المستحيل إخفاؤها عن العامة.
هكذا استفاق اللبنانيون في 17 أكتوبر (تشرين الأول)، على واقع دولة منهوبة ومنكوبة، ونزلوا يطالبون بالمحاسبة والتغيير. بعد أكثر من شهرين من الحراك لم تشعر هذه السلطة السياسية بأي حرج من جراء غضب الشعب عليهم، بل بدأت بتقاذف التهم والتبرؤ من مسؤولية انهيار الدولة. وبدأ البعض منها يستعد لركب موجة الثورة وتأييد مطالبها كالقوات اللبنانية والتيار العوني، ومنها من وقف ضد الحراك واتهمه بالعمالة كأحزاب الممانعة. ولكن، وهنا المشكل الأساسي، فجميعهم يعتقدون أنهم جزء من الحل الآتي، أو يقدمون أنفسهم على أنهم يملكون وصفة لإنقاذ لبنان من الحال الذين هم أنفسهم أوصلونا إليه.
من هنا كان شعار «كلن يعني كلن»، ليس على أساس مذهبي، أو طائفي، أو مناطقي حتى، إنما على أساس تحميل السلطة متضامنة ومتكافلة مسؤولية الكارثة الاقتصادية والمالية والاجتماعية التي وصل إليها البلد.