* شريف سرحان فنانٌ فلسطيني يسكن في حي الصبرة الواقع جنوبي مدينة غزة، بدأ مسيرته الفنية منذ أكثر من عشرين عامًا، في مجالات الرسم والنحت والتصوير الفوتوغرافي والتصميم، وفي وقتٍ لاحق طوّر أساليب فنية قديمة واستحدث أخرى، تعبر عن قضايا مختلفة منها الوطني والإنساني
* من بين المشاريع الشخصية التي أنجزها سرحان: «منارة ميناء غزة» التي شكّل وجودها صورة حيوية جدًا عكست جوانب الفرح والحياة في القطاع الذي يعيش ظروفًا معيشية صعبة
* عام 2009 كان فارقًا جدًا بالنسبة لسرحان، الذي انتقلت لقاءاته بمجموعة من أصدقائه الفنانين من قهاوي قطاع غزة، إلى مقرٍ رسمي يتبع لمؤسستهم الفنية
غزة: داخل ورشته الصغيرة، التي تشدّ عيون الناظرين بكلّ ما تحتويه من ألوان وأدوات رسم وتشكيل وحفر يقضي الفنان شريف سرحان ساعات نهاره الطويلة غير آبه بتفاصيل التعب والشقاء. يمسح حبات العرق على جبينه، ثمّ يمضي متأملاً ما وصلت له آخر مشاريعه العالمية التي يعالج من خلالها قضايا إنسانية لها علاقة بالمهاجرين والجنود والخرسانة. يوزع نظراته بين قاربٍ صغير يضم عددا من المجسمات يبدو أنّها لأفارقة يعبرون البحر نحو أوروبا، وبين تمثالٍ صغير لجندي شكّله بالطين ليشير من خلاله إلى طبيعة علاقته بتفاصيل الحياة غير العسكرية، ويروح به الخيال نحو تفكيرٍ عميق.
على مقربة تمرّ دقائق يمسك خلالها سرحان آلة حفر يدوية، ثمّ يتناول قطعة خشبية صلبة، ليبدأ على الفور حفرها وتشكيلها بصورة احترافية، وما إنّ ينقضي من ذلك حتّى ينحو بسرعة تجاه طاولة صغيرة جمع عليها مختلف الألوان، ويبدأ هناك بطلاء القطعة الخشبية بتناسقٍ شديد. يتفحصها بنظراتٍ دقيقة وقد بدت بشكلها النهائي مجسمًا لطيرٍ يحمل رسائل الحرية والحبّ، ثم يقول: «لقد أصبحت جاهزة»، ويبتسم.
رحلة فنية شاقة
شريف سرحان هو فنانٌ فلسطيني يبلغ من العمر 43 عامًا يسكن في حي الصبرة الواقع جنوبي مدينة غزة، بدأ مسيرته الفنية منذ أكثر من عشرين عامًا، في مجالات الرسم والنحت والتصوير الفوتوغرافي والتصميم، وفي وقتٍ لاحق طوّر أساليب فنية قديمة واستحدث أخرى، ليستطيع من خلالها تحويل المخلفات والقطع البالية سواء كانت بلاستيكية أو خشبية أو إسمنتية لمجسماتٍ فنية، تعبر عن قضايا مختلفة منها الوطني والإنساني وغير ذلك من كلّ ما يرتبط بتفاصيل الحياة.
لم يشأ سرحان منذ البداية أن يربط بين قدراته الفنية وأي مجالٍ آخر، فمن وجهة نظره يعدّ التفرّغ في الجانب الفني والتصويري عاملاً مهمًا لتحفيز الإبداع والشغف، وموضحًا أنّ كثيرا من الفنانين حول العالم يجمعون بين الفن والشغل، لغرض توفير المال وما يتصل به من احتياجات حياتية لازمة، لكنّه ليس كذلك.
ويبيّن في حديثٍ لـ«المجلة» أنّ التحاقه ببرنامج الفنون التابع لجمعية الشبان المسيحية عام 1995 في قطاع غزة، والذي كان يهتم بتدريب الفنانين الشباب والهواة على أسس استخدام الألوان والتصاميم والرسم وغيرها من الأدوات المتصلة بالمجال في فترة سنتين، شكّل نقلة نوعية لديه.
حيث إن ذلك البرنامج منحه أساسًا مميزًا وأرضية فنية بنى من خلالها بشكلٍ مبدئي هويته البصرية والتشكيلية، لكنّه سرعان ما اصطدم بالواقع الفلسطيني الصعب، الذي لم يعطه بسهولة فرصة يظهر ضمنها للناس بشكلٍ قوي، فاضطر للعمل بمجالاتٍ فنية شعبية مثل الرسم على الجدران والتصوير الفوتوغرافي، منبهًا إلى أنّه انتقل عام 2000م إلى العاصمة الأردنية عمان، والتحق هناك بورشة فنية إلى جانب مجموعة من الفنانين العرب والعالميين، الأمر الذي مكنه من اكتشاف ذاته بصورة أفضل، ودفعه للبحث عن أشكال فنية جديدة وعميقة.
وفي عامين تابعين شارك الأربعيني بذات الورشة، وعاد للقطاع عام 2003. ووقتها كان قد اتجه للعمل مع عدد من المؤسسات الدولية بمجالاتٍ فنية متعددة، وصار مع الوقت صاحب هوية خاصّة يدمج من خلالها بين التصوير الفوتوغرافي والفن التشكيلي العادي بأسلوبٍ معاصر يتماشى مع الحركة العالمية، ويلفت إلى أنّه كغيره من الفلسطينيين القاطنين في قطاع غزة تأثر بالحصار الإسرائيلي الذي فُرض عام 2006م، وقيّد من حركة السفر والتنقل، ولم يتمكن من السفر لحضور المعارض التي شاركت بها أعماله خلال سنواته المستمرة.
مشاركات وتدخل في الفضاء العام
«الأردن، وبريطانيا، والولايات المتّحدة الأميركيّة، والبرازيل، والنّمسا، وألمانيا، والإمارات العربية المتحدة، والقاهرة، وقطر، والعراق، وفرنسا، وإيطاليا»، هذه هي البلاد التي طافتها أعمال سرحان للمشاركة في المعارض والفعاليات وفقًا لكلامه، مبيّنًا أنّه سافر في عام 2012م إلى فرنسا ومكث هناك عدّة أشهر اطلع خلالها على عوالم فنية مختلفة، فتحت باب التفكير والتأمل أمامه، بصورة لم يعهدها من قبل، كما أنّها وضعته في شعور المشاهد المباشر للتجارب، بعدما كان يتابعها من خلال الإنترنت في الفترة السابقة.
بعد تلك التجربة عاد لغزة، وحينذاك اختلفت لديه كثير من الأفكار، فصار ينظر للمخلفات البيئية المتنوعة التي غالبًا ما يشار إليها كمهملات من الناس، على أنّها أساس يمكن من خلاله بناء اللوحات الفنية وتصميم الأشكال في الفضاء العام بصورة تحقق الراحة، مؤكدًا أنّ ما عزز لديه تلك الفكرة، هو كثرة تواجد الركام الناتج عن تدمير إسرائيل للبيوت الفلسطينية خلال عدوانها: «فصار يجمع المخلفات من الشوارع التي تعوّد على السير بها يوميًا، ومن الأسواق الشعبية التي تبيع الأغراض القديمة».
ومن بين المشاريع الشخصية التي أنجزها سرحان خلال مسيرته الفنية محليًا، كان «منارة ميناء غزة» التي شكّل وجودها صورة حيوية جدًا عكست جوانب الفرح والحياة في القطاع الذي يعيش ظروفًا معيشية صعبة، يسرد «فكرة المنارة جاءت من خلال مشاهدتي الدائمة لمخلفات الحرب والبيوت المهدمة والحجارة في الشوارع. وأضحيت مع الوقت مقتنعًا بضرورة استغلالها بصورة مغايرة تشدّ الانتباه»، مبيّنًا أنّه بعد مشاوراتٍ مع أصدقائه اهتدى للفكرة وقرر تنفيذها.
ويشير إلى أنّ تنفيذها استدعى وجود 15 شخصا من تخصصاتٍ فنية مختلفة منها الحدادة والإضاءة والهندسة، وتكوّنت قاعدة المنار، من ركام أبراج الندى التي دمرتها إسرائيل خلال حروبها على غزة وكذلك باقي جسمها، وتمّ طلاؤها بالحديد المقاوم للصدأ والظروف الطبيعية، وفي منتصف عام 2016م تمّت إضاءتها، مضيفا: «المشروع الآخر المحلي اللافت كان معرض (حروف ومدينة) والذي نُظم عام 2015م وجالت لوحاته الـ27 عددا من المدن الفلسطينية، وكُتبت عليها الأحرف العربية بشكلٍ مبعثر، وظهرت في بعضها بنايات ومشاهد كُتل إسمنتية».
مجموعة محترف شبابيك
عام 2009 كان فارقًا جدًا بالنسبة لسرحان، الذي انتقلت لقاءاته بمجموعة من أصدقائه الفنانين من قهاوي قطاع غزة، إلى مقرٍ رسمي يتبع لمؤسستهم الفنية التي قرروا تأسيسها بعدما وجدوا أنّهم امتلكوا المعرفة والخبرة الكافية التي تمكنهم من تشكيل هوية بصرية مختلفة في الحالة الفنية الفلسطينية، وأطلقوا عليها وقتذاك اسم «محترف شبابيك للفنون البصرية» وتتبع بشكلٍ مباشر للاتحاد العام للمراكز الثقافية الفلسطينية، وتهتم بفنون الرسم والتشكيل والنحت والحفر والأعمال التصويرية والفيديو إيرث، وغيرها من الأنماط العصرية.
ويروي أنّهم يحاولون من خلال مجموعتهم مساعدة الفنانين وتقديم كلّ ما يلزم لتحقيق نهضة فنية عصرية في فلسطين بشكلٍ عام، وذلك يتم من خلال المساهمة في عقد الورش التدريبية والتوعوية وإقامة المعارض، وكذلك عبر تسويق الأعمال الفنية الشبابية للخارج، كما أنّهم يوفرون قدر الإمكان الأدوات اللازمة للإنتاج الفني، لافتًا إلى أنّهم يحرصون على أن يكون ما يخرج من خلالهم من أعمال بصرية، جميل ومختلف، ليكون لديهم فرصة أكبر على ترويجه محليًا ودوليًا، الأمر الذي يساعد في إيجاد مصادر دخل للفنانين.
وأنجزت المجموعة حتّى هذا الوقت عددا من المعارض الفنية التي ضمت مختلف أشكال الفنون البصرية، وجابت مناطق مختلفة، ويزيد سرحان «أهم المعارض المحلية التي نفذناها في قطاع غزة، حمل اسم (مقارنات تأملية)، وعُقد خلال العام الجاري على مدار عدّة أيام، وأمّه أكثر من 15 ألف زائر، وهذا يعدّ سابقة في تاريخ الفن الفلسطيني، وكذلك هو إشارة لمؤسستنا، بأنّ الناس بحاجة كبيرة للمزيد، وهم متشوقون لكل ما يربطهم بالحياة وتفاصيلها أكثر».
وفي وقت إقامة المعرض قال المقيّم العلمي له أحمد أبو دية: «لطالما ارتبطت الحالة الفلسطينية الفنية بالواقع السياسي ومتغيراته، وكانت في كلّ مرحلة تعبر عن المقاومة وتتغنى بالشهداء وترسم لوحات الحرية للأرض والإنسان، لكنّ المعرض جاء ليكسر تلك النمطية (المهمة)، من خلال تركيزه على القضايا الحياتية وجوهر الإنسان ومشاعره»، مشيرًا إلى أنّ المعرض يُعطي للمشاهد فرصة لتأمل الأعمال الفنية ويُدخله بمقارنة ذاتية يعيش تفاصيلها بسلاسة، ثم يفتح له الباب لاكتشاف العلاقة بين القضايا التي تجول في خاطره وبين ما أراد الفنانون إيصاله».
ومن المعارض الأخرى كان معرض «شبابيك على غزة» الذي زار عددا من المدن الأيرلندية حاملاً الرسالة الفلسطينية بأبعادها المختلفة، ومعرض آخر عُقد في إيطاليا واستمر متاحًا للجمهور أكثر من ثلاث سنوات، وزاره الآلاف من المواطنين الأوروبيين وقرأوا من خلال لوحاته وأشكاله النحتية والزخرفية اسم فلسطين وألوان علمها ودلالته، ويذكر سرحان أنّ إصرارهم على إقامة المعارض الدولية، يأتي في إطار تأكيدهم على فكرة الفن العابر للحدود الذي يمكن له أن يحمل كل تفاصيل الحياة بشكلٍ صامت يحرك المشاعر تجاه موضوع معين.
مشاريع عالمية شخصية
ويشتغل الأربعيني في الفترة الحالية على عدد من المشاريع الفنية العالمية، منها مشروع «مسارات المهاجرين» الذي يتوقع أنّ يخرج للناس خلال العامين القادمين، ويستطرد أنّه يركز خلال بحثه على قضايا المهاجرين واللاجئين من كلّ قارات العالم، ويحرص على سماع الروايات بشكلٍ مباشر من أصحاب التجربة، لأن ذلك بالنسبة له هو روح العمل الفني، لافتًا إلى أنّ المشروع ككلّ يربط بين العمل التشكيلي والتصويري الفوتوغرافي فهو من جانب ينتج المجسمات باستخدام أدوات مختلفة، منها «الإسمنت والخشب» ومن الآخر يقوم بنقل هذه الأعمال للبحر ويعمل على تصويرها بنفسها لتخرج اللوحة متكاملة.
ويعمل الفنان كذلك على مشروعٍ دولي آخر، يحمل اسم «الجند والخرسانة»، وفي تفصيله يروي أنّه «يحمل قضايا الجنود في كلّ بلاد العالم، الذين يشكل كلّ واحدٍ منهم قصة تستحق أن تروى، فالجندي الحقيقي هو الذي يمتاز بالصلابة حين تُوكل له مهمة الدفاع عن وطنه وحدوده، هو ذاته الإنسان الهش الذي تنهار مشاعره مع صوت بكاء طفل أو امرأة»، مستكملاً: «سأحاول من خلال هذا المعرض الذي يمكن أن يرى النور في بداية العام القادم على نفقتي الشخصية، إيصال رسالة الجندي المقاتل الإنسان في فلسطين ولبنان وسوريا وصربيا واليمن وغيرها من الدول».
وفي ختام كلامه ينحو سرحان للحديث حول أهم المعوقات التي تواجه الحركة الفنية البصرية الفلسطينية بشكلٍ عام، قائلاً: «أول التحديات الموجودة، هو غياب الجسم النقابي الموحد الذي يجمع كل الفنانين تحت مظلته ويدافع عن حقوقهم، ويساهم في دعمهم ماليًا ومهنيًا، أو حتّى تنظيم الدعم الذي يصلهم، والتحدي الثاني هو إهمال الجهات الرسمية في كثير من الأحيان للحالة الفنية، بسبب تزاحم الأحداث السياسية»، منوهًا إلى أنّهم حاولوا التغلب على أول عقبة من خلال توحيد الجهود الفردية عبر مجموعات فنية، ومن ثمّ ربط جسور تواصل بينها، وبالتالي أصبحت الحالة شبه موحدة، والثانية تجاوزوها من خلال تكثيف الأعمال الفنية الشعبية القريبة من الناس.
