* نلحظ اهتمام المخرجة بالتفاصيل المعمارية. مطوعة حركة الكاميرا لجذب عين المشاهد لكافة التفاصيل مع تلاعب مبهر بالضوء والظلال كلوحة فنية تشكيلية
* الفيلم يحمل اسم «scales» في العروض الدولية، وعرض في حفل «جالا» عبر السجادة الحمراء بالدورة الـ41 لمهرجان القاهرة السينمائي
* يبث الفيلم الكثير من الشجون فيما يتعلق بأوضاع النساء في المجتمعات العربية لكنه يبشر بسينما عربية تحلق في آفاق العالمية
القاهرة: تأخذنا المخرجة السعودية الواعدة شهد أمين في فيلمها الجديد«سيدة البحر» أحدث إنتاج شركة «إيمدج نيشن أبوظبي» في رحلة عبر اللازمان واللامكان إلى عوالمها المتخيلة حيث تسقط براعة الأساطير وميثولوجيا البحر وعرائس البحر على واقع النساء في عدة مجتمعات ومعاناتهن من اللامساواة والقهر.
الفيلم الذي يحمل اسم «scales» في العروض الدولية عرض في حفل «جالا» عبر السجادة الحمراء بالدورة الـ41 لمهرجان القاهرة السينمائي، وهو يقدم عدة مستويات للتأمل والوقوف أمام طبيعة المجتمعات الذكورية حول العالم، إذ تدهش المخرجة المُشاهد ببداية صادمة عن مجتمع يقدم الفتيات الرضع كقرابين لوحش غامض بالبحر إلا أن أحد الآباء يتعاطف مع صراخ طفلته فيجذبها بقوة من براثن الوحش البحري الذي يحول الفتيات إلى عرائس بحر. البحر عند شهد رمز للحياة بكل صراعاتها ومعاناتها التي تتحمل النساء الكثير منها دون الذكور. ومع أحداث الفيلم الذي يخاطب بلغة بصرية وإيقاع هادئ، تتكشف حقيقة أهل هذه البلدة الساحلية الصغيرة الذين يعيشون على صيد بناتهن بعد تحولهن لعرائس بحر، فيما يعزلون الفتيات في منازل أشبه بالسجون في انتظار قرار موتهن.
وهنا نلحظ اهتمام المخرجة بالتفاصيل المعمارية لهذه القرية المتخيلة وبناء هذا العالم بكل تفاصيله. مطوعة حركة الكاميرا لجذب عين المشاهد لكافة التفاصيل ومعايشته للحياة في تلك القرية مع تلاعب مبهر بالضوء والظلال كلوحة فنية تشكيلية. وفي الوقت الذي لا يجود به البحر على أهل القرية بأي صيد من بناتهن السابقات يقيمون مراسم تقديم القرابين بعدد من الفتيات الجدد وينشدون أناشيد تمجد البحر وتستعطفه، لنجدهم في النصف الثاني من الفيلم يعيشون على أكل هؤلاء الفتيات بعد قطعهن لنصفين وتناول جزء ذيل السمكة، وفي مشهد صامت غني بالإسقاطات تتمرد «حياة» على حياتها ومجتمعها وتتحدى كبير الصيادين بخوض البحر وجلب عروس بحر؛ بل وتقطيعها بنفسها في حين يرفض والدها تناول هذا الطعام من يدها. تحظى «حياة» بثقة كبير الصيادين لتخوض معه عباب البحر في سفينة الذكور الذين يرفضون التعاون معها ويعتبرونها رمزا لقلة الحظ، ونجد بعض الصيادين الذكور ينعمون بالنوم في حين تستيقظ «حياة» باكرا لتجهيز معدات الصيد، في إشارة لتحامل المجتمعات على النساء.
وفي مشهد مثير، تواجه «حياة» كبير الصيادين الذي يجسد دوره الفنان الفسلطيني أشرف برهوم. هنا برعت شهد أمين في تجسيد بشاعة المجتمعات التي تتجنى على النساء بصورة رمزية تعكس للمشاهد حجم الظلم الذي تتعرض له المرأة في المجتمعات الذكورية. تقرر «حياة» أن تختفي فتلقي بنفسها في البحر متحدية كل شيء من حولها وتغيب عن القرية لفترة فيتراجع البحر وتنحسر مياهه وتختفي كل عرائس البحر وتحل المجاعة بأهل القرية. لتظهر «حياة» بعد فترة وتجلب معها الحياة للقرية وتظهر جثة لعروس بحر نافقة هي صديقتها فاطمة وتقرر «حياة» التمرد على تقاليد القرية ودفن عروس البحر بدلا من أكلها، معلنة بصورة رمزية انتهاء تقاليد القرية اللعينة وتختتم المخرجة الفيلم بمشهد عودة مياة البحر للقرية بعد سنوات من الجفاف. وهنا ترمز المخرجة للمرأة بالحياة فعودتها ووجودها هو الحياة.
وكان لا بد أن نلتقي بالمخرجة شهد أمين للتعرف على رؤيتها الفنية في فيلمها الروائي الأول الذي من المتوقع أن يحصد المزيد من الجوائز العالمية بعد حصوله على 3 جوائز بالتزامن مع عرضه بالقاهرة، وثلاث جوائز خلال منافسته في المسابقة الرسمية للأفلام الروائية في مهرجان الرباط الدولي لسينما المؤلف، وهي: جائزة لجنة التحكيم أفضل فيلم، وجائزة أفضل مخرج للمخرجة شهد أمين، وجائزة لجنة تحكيم النقاد. ويتوقع أن يحصد المزيد من الجوائز العالمية بعد أن حصد مؤخرا جائزة «فيرونا» للفيلم الأكثر إبداعًا في مسابقة أسبوع النقاد المرموق في مهرجان البندقية الـ76. كما يستكمل فيلم «سيدة البحر» مشاركته بمهرجان سنغافورة السينمائي الدولي كأول عرض آسيوي للفيلم في الفترة من 21 نوفمبر (تشرين الثاني) لـ1 ديسمبر (كانون الأول).
تقول شهد أمين لـ«المجلة»: «أقدم فيلما يعكس تجربتي الشخصية، هو أشبه بسيرة ذاتية تتقاطع مع حياة ملايين النساء، بدأت كصانعة أفلام من عمر 10 سنوات مدفوعة بعشقي للأفلام التاريخية ثم توجهت لدراسة السينما بلندن».
وتلفت: «استلهمت الفيلم من قصة أول أسطورة حورية بحرية أتراغاتيس، التي كانت تُعد رمزًا للخصوبة والحياة في البحار والمحيطات، ارتأيت أنها قد تكون مصدرًا ملهمًا للمرأة الحرّة الأبية التي تحدد مصيرها بيدها وترسم طريقها بنفسها وتقرر رفض التقاليد حتى وإن كان ذلك سيعود عليها بعواقب وخيمة».
وحول تصنيفها بعد 3 أفلام قصيرة حققت نجاحا لافتا بأنها نسوية التوجه، تقول: «بالفعل أنا نسوية في أفكاري ولكن لا أفهم هذا التصنيف فيما يتعلق في ارتباط أفلامي بقضايا المرأة أنا فتاة لا بد أن أكتب عن قضايا الفتيات، فالرجل لا يواجه ذات التصنيف حتى لو أخرج عشرات الأقلام عن الذكور. أفلامي جزء من وجودي وهي جزء من دفاعي عن النساء».
وعن صعوبات التصوير والتعامل مع البحر ذي الطبيعة المتقلبة دائما، قالت: «من أساسيات السينما تجنب صعوبات التصوير في البحر أو على قارب أو مع الأطفال، وفعلا واجهت صعوبات أثناء التصوير مع البحر لأن أي تغيير مع مسار السفينة كان يتطلب 4 ساعات إضافية لتعديل المشهد أو في حال بلل الملابس ننتظر لإعادة المشهد».
نجد روح مدينة «جدة» تظهر بالفيلم عبر إيقاعات أغاني الفيلم الحجازية وتأثر المخرجة التي تتحدر منها بطبيعتها الساحلية وحياة الصيادين التي برعت في تجسيدها بدقة بالغة بداية من لغة الجسد لدى الصيادين وشيخهم إلى تقاليد وطقوس هذا المجتمع. وحول الموسيقى التصويرية والأغاني التي شكلت جزءا من نسيج الأسطورة التي صاغتها شهد بفيلمها، كشفت: «فضلت الاستعانة بموسيقى الطبيعة في أثناء المونتاج حذفت الكثير من الموسيقى التصويرية وقررنا أن تنبع الموسيقى التصويرية من الهدوء والطبيعة وكان فريق العمل مبدعا في ذلك، ثم سجلنا الأغاني الخاصة بالصيادين في العراق لكن وجدناها تدل على المجتمع العراقي لذا سجلنا مع فرقة موسيقية تراثية في جدة بالمقام الحجازي العربي الأصيل لتصبح أكثر شمولية».
يشعر المشاهد بأن الفيلم يجسد مزيجا من الواقع والخيال، هنا توضح: «الفيلم بالنسبة لي تجربة حياة تشتبك مع حياة بطلة الفيلم أخوض نفس صراعاتها، لا أريد أن أقلد قصصا أو أفلاما لمخرجين من مجتمعات أخرى، أود تقديم أفلام من واقعنا وحياتنا وتجسد ثقافتنا ومشاكلنا اليومية». تؤمن المخرجة شهد أمين بأنه: «إذا لم يكن المخرج جريئا فلا حاجة له بأن يخوض مجال السينما» وتضيف: «حاولت أن أصنع شيئا أقدر أقول إنه صوتي وصوت أصيل، من خلال هذا العالم سردت القصة البصرية».
وتأتي رمزية تصوير الفيلم بالأبيض والأسود كنوع من ربط الماضي والحاضر وتأصل القهر الذكوري منذ العصور القديمة والذي يستمر رغم تطور المجتمعات والتحولات الكثيرة التي مرت بها، تقول شهد أمين: «كل كادر يحمل رمزيات متعددة وكل مشهد يجسد عالما بصريا أثناء العمل، وقد وقع الاختيار لدور حياة على الفنانة الموهوبة بسمية وهي ممثلة جبارة برغم صغر سنها وعظيمة بروحها تتحرك الكاميرا وبعيونها تنطق الشخصية دون حوار، ويعقوب الفرحان بطل الفيلم كان لديه هذه الطاقة المعبرة عن (النسوية) بداخله ورفضه لهذا النوع من القهر الذكوري».
وتضيف: «كتبت في عالم الحوريات من قبل وقررت الغوض في هذا العالم وتقديم فيلم طويل عنهم، الأفلام القصيرة التي أنتجت مؤخرا في السعودية فيها دمج ما بين الواقع والخيال وهي سينما من الواقعية السحرية التي بدأت في أميركا الجنوبية. هذا العالم يغويني وأظن سأستمر في الجمع بين الواقع والخيال، حياتنا كلها عبارة عن إيمان كامل بفكرة. دائما هناك خط رفيع جدا بين الواقع والخيال».
وتوضح أمين: «أنا أنانية في سرد الحكاية وخلقت عالم الفيلم لتجسيد رحلة البطلة حياة في استكشاف جسدها، لأثبت أن التصنيف ما بين الذكر والأنثي شيء خاطئ هما في النهاية بشر؛ لذا أحببت أن يروي الفيلم حكاية عالمية لأن الفيلم أيضا يقدم حكاية رجل لا يتقبله مجتمعه».
تم تصوير «سيدة البحر» في سلطنة عمان بالقرب من مضيق هرمز في منطقة ساحرة تتسم بوجود سلاسل جبلية بديعة بالقرب من ساحل البحر. ومن المنتظر أن يعرض الفيلم قريبا في المملكة العربية السعودية، بعد مشاركة الفيلم في عدة مهرجانات عربية ودولية.
تعبر أمين عن تفاؤلها بالسينما العربية ووجود رؤية بصرية مختلفة وبطريقة معاصرة فيها هوية: «أود أن أكون قريبة من المجتمع السعودي وأسرد قصصي بصريا وأكون صادقة مع ذاتي وجمهوري. السينما صعوبات وتحدٍ المهم أن لا تختاري الخيار السهل».
وحول نهاية الفيلم التي جسدت فيها البطلة نوعا من التسامح مع ذاتها ومجتمعها دون انتقام منهم، قالت المخرجة: «قررت أثناء كتابة السيناريو أن تبدأ (حياة) بالقتل وتبدأ تكره نفسها وتكره جسدها وتتقرب من هذا الجسد لتتقبله أكثر، فقط وجهها المجتمع ودفعها لذلك، وفي رحلتها الطويلة بالبحر تكتشف القوة الكامنة في جسدها وأن المجتمع فهمه بشكل خاطئ».
وتوضح: «كل شخصية في هذا الفيلم وهذه القرية كان ضحية لظروف وجودهم وحتى الرجال ضحايا فرض عليهم شيء وينفذونه من دون تفكير، هم ليسوا أشرارا بل يحاولون التعايش مع الموقف، لذا فضلت أن يكون التعبير بالعيون، ولغة الجسد هي سيدة الموقف».
ولدت الكاتبة والمخرجة شهد أمين وترعرعت في مدينة جدة السعودية، وهي حاصلة على درجة البكالوريوس في الإنتاج المرئي والدراسات السينمائية من جامعة غرب لندن، كما تحمل شهادة في تأليف السيناريوهات.
من أفلامها القصيرة «موسيقانا» و«نافذة ليلى». وعُرض فيلمها القصير «عين وحورية» (2013) للمرة الأولى في مهرجان دبي السينمائي الدولي. ويعد «سيدة البحر» أول فيلم روائي طويل من إخراجها.
الفيلم الذي تدور أحداثه في 76 دقيقة من إنتاج شركة «إيمج نيشن أبوظبي» بالتعاون مع المنتجين التنفيذيين محمد الدراجي وماجد الأنصاري، وبطولة السعوديين بسيمة حجار ويعقوب الفرحان والإماراتية فاطمة الطائي والفلسطيني العالمي أشرف برهوم. ويبث الفيلم الكثير من الشجون فيما يتعلق بأوضاع النساء في المجتمعات العربية لكنه يبشر بسينما عربية تحلق في آفاق العالمية.