* من كان يظن أن بعضاً من رقص وغناء سيزعزع عرش الديكتاتور الطائفي... ها هو يترنح اليوم، والسؤال: متى يقع؟
الطائفية تحكمت بمفاصل حياة لبنان الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، منذ الاستقلال وقبله أيضًا.
قبل اتفاق الطائف كانت المقصلة الطائفية توازن بين المسيحيين والمسلمين، أما بعد اتفاق الطائف فقد أصبح البلد ونظامه الطائفي مقسومين على ثلاثة أركان، إذ دخل العامل الشيعي بقوة سلاح «حزب الله» كحصة منفردة عن تلك السنية. وبدأت ممارسة هذه «الترويكا» على عهد الرئيس إلياس الهراوي أول رؤساء جمهورية اتفاق الطائف. فكان إلى جانب الحريري الأب وبرى الممثلين الرسميين لمصالح طوائفهم في النظام.
طبعا من المستحيل في هذه الجمهورية العمل بالاقتصاد أو بالسياسة من دون حفظ التوازنات الطائفية. فكان من البديهي مثلا لأي مشروع إنمائي لمنطقة معينة ذات طابع مذهبي معيّن أن يقابله مشروع آخر لمنطقة أخرى ذات طابع مذهبي، حتى لو لم يكن له مردود للدولة أو جدوى اقتصادية له، وذلك حفاظا على ما اتفق على تسميته «بالعيش المشترك». هكذا عاش اللبنانيون على هذا المنطق لعقود وعقود.
الاستثمار في خوف اللبنانيين بعضهم من بعض على أساس أن الآخر المختلف طائفيا ومذهبيا يريد أن يغير من معالم البلد وثقافته، كان من عدة عمل «الزعماء» في لبنان إلى جانب الفساد الذي يمدّهم بالمال والنفوذ من أجل «خدمة» مناصريهم منذ عام 1943 عام الاستقلال.
ولكن شيئا ما تغير بعد ثورة «17 تشرين» التي يقوم بها جيل شاب، معدل أعماره في حدود الـ25 عاما.
التكنولوجيا دخلت على الخط، وأصبح شباب لبنان متصلا بعضه ببعض، وأيضا بشباب العالم. لم يعد إذ ذاك بالإمكان السيطرة على عقولهم أو بيعهم أوهاماً أو الاستثمار في الخوف من الآخر المختلف. فهم أصبحوا في غفلةٍ جيلَ المعرفة. وهو جيل يتواصل مع الجميع ويتقبل فوارق الجميع مهما كانت طبيعتها، وينحاز لبيئة نظيفة، لوثتها الماكينة الاقتصادية لرأس المال فكان له من النموذج الاقتصادي موقف سلبي، ومن الطبقة الحاكمة المتماهية والمستفيدة من هذا النموذج موقف سلبي أيضًا.
هذا التطور التكنولوجي واكبه إفلاس الدولة اللبنانية مالياً واقتصادياً بحيث تم في هذا السياق فضح حجم الاختلاسات التي قامت بها السلطة الحاكمة على حساب مستقبل الشباب. واكتشف اللبنانيون أن 40 في المائة من الشباب عاطلون عن العمل، و30 في المائة تقريباً دون خط الفقر بسبب فساد الطبقة الحاكمة وحاشيتها.
ثم جاءت العقوبات الأميركية على «حزب الله» ورجال الأعمال المقربين منه، ليدفع بالأزمة الاقتصادية اللبنانية إلى أوجها، وذلك من أجل «تحرير القدس» أو «هزيمة الولايات المتحدة الأميركية» أو مناصرة «نظام الأسد في سوريا»، عناوين لا يمكن أن تقنع الناس بأحقيتها على إيجاد عمل لإطعام العائلة، أو لتطبيب أحد أفرادها. هذا الكم من التعب والإنهاك الذي يراه الابن بادياً على وجه ربّ العائلة لم يكن له ما يبرره.
لهذه الأسباب، وغيرها طبعاً، قرر شباب «17 تشرين» النزول إلى الشارع، متهمين هذا النظام الطائفي بإيصال البلاد إلى هذه الحال من الانهيار. لم يحملوا السلاح كما فعل الجيل الذي سبقهم، ولم يطلقوا شعارات مذهبية، إذ إنهم بمجملهم غير طائفيين، بل نزلوا إلى الشوارع مطالبين بأدنى حقوقهم التي سلبهم إياها الزعيم، صارخين «كلهم يعني كلهم» على وقع الموسيقى والرقص بين خيم ذكرتنا بالأغورا اليونانية، هذه المساحة المدنية للنقاش.
فجأة استفاق الديكتاتور الطائفي، وشعر بالخطر على هيكله، وأرسل موجات العنف تلو الأخرى لتهد من عزيمة الراقصين في ساحات طرابلس وصور وبيروت وصيدا وكل المناطق الثائرة، من دون نتيجة. لم يخش الشباب تلك الزمرة وعصيهم. عادوا إلى ساحاتهم التي أحرقها غضب الديكتاتور الطائفي، ليغنوا مجددا ويرقصوا.
من كان يظن أن بعضاً من رقص وغناء سيزعزع عرش الديكتاتور الطائفي.
ها هو يترنح اليوم، والسؤال: متى يقع؟