* ما نراه اليوم في ساحات لبنان يعود إلى هذا الشرخ بين عقلية رجعية متمثلة بهذه الطبقة الحاكمة، وجيل شاب يريد أن يعيد صناعة لبنان بعيدا عن الفساد والرشوة والمحسوبية والمذهبية المتحكمة بالنظام وعقلية حكامه
وصل النظام الطائفي في لبنان إلى حائط مسدود. أمام هذا النظام الفاسد يقف جيل يبدو متحرراً من القوقعة الطائفية التي فرضها الآباء المؤسسون لدولة لبنان الكبير كنظام حماية للأقليات المذهبية. جيل لم يعد يعنيه نظام قائم أساساً على التخويف الدائم من الآخر المختلف.
فهذا جيل شاب لم يعش الحرب الأهلية أو يمارسها، وهو ابن الثورة الرقمية التي حطمت جدران الجهل واللغة والجغرافيا أيضا ووضعته في تواصل مع الآخر واتحاد حول قضايا ذات اهتمام مشترك كالمشاكل البيئية مثلا.
فشياطين المجتمع اللبناني التي رافقت استقلال لبنان عن فرنسا في عام 1943 وأنتجت تسوية حاكت مخاوف المسلمين من تسلل الغرب عبر المسيحيين ومخاوف المسيحيين من الذوبان في أمة عربية إسلامية، لا تعني هذا الجيل الجديد لا من قريب ولا من بعيد.
هذه الشياطين التي أبقتها الطبقة السياسية سيفا مسلطا على اللبنانيين من دون مداواتها حتى يتسنى لهم استعباد الشعب الغارق في الطائفية، لم تعد تؤثر بجيل الشباب، فقد أصبح بمكان آخر لا يستطيع من هم في الحكم اليوم أن يتفهموه. لهذا الجيل شياطينه الخاصة به كرفضه النموذج الاقتصادي الذي ساد منذ الثورة الصناعية، أو اعتراضه على الطبقة السياسية التي حكمت طويلا بنفس الأنماط الفاسدة التي لم تعد ترضيهم اليوم. لذا نرى الشباب يتظاهرون في كل مدن العالم تعبيرا عن رفضهم لأنماط لا تلبي طموحاتهم. من هونغ كونغ إلى تشيلي وصولا إلى لبنان والعراق وطهران، وإن كان هناك بالطبع فوارق كثيرة بين الأسباب التي دفعت الشباب والشابات للاعتراض والحراك، إنما القاسم المشترك يبقى رفضهم لكل النماذج السائدة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
في لبنان لم يواكب النظام الطائفي التطور الحاصل في العالم من حيث الانفتاح على الآخر وتقبله على اختلاف ثقافته أو لون بشرته أو معتقداته فاستمرت الأمور على ما هي عليه حتى اصطدم بجيل الألفية الثانية.
كان من الصعب جدا مثلا أن يقبل هذا الجيل ظلم النظام الطائفي المتمثل بشاب نجح في امتحانات الخدمة المدنية بعد جهد وتعب لكنه أجبر على التخلي عن وظيفة لشخص آخر أخفق في الامتحانات نفسها لدواعي التوازنات الطائفية. مفاهيم لم يعد يقبلها جيل اليوم ولم يعد يريدها. هذا جيل لم يفهم أيضا في عصرنا هذا كيف للسلطات اللبنانية الاعتراض على مبدأ الزواج المدني كخيار لأشخاص قرروا الارتباط من خارج القيود الدينية؟
ما نراه اليوم في ساحات لبنان يعود بشكل كبير إلى هذا الشرخ الموجود بين عقلية رجعية متمثلة بهذه الطبقة الحاكمة ومناصريها، وجيل شاب يريد أن يعيد صناعة لبنان على أسس يريدها هو بعيدا عن الفساد والرشوة والمحسوبية والمذهبية المتحكمة بالنظام وعقلية حكامه. هؤلاء الشباب والشابات يريدون بلدا يشبه تلك البلدان التي يرونها أو حتى يزورونها من خلال التليفون المحمول، ومجتمعا يشبه تلك التي يتواصلون مع بعض أعضائه من خلال شبكات التواصل الاجتماعي، هم يريدون أن يعيشوا في بلاد يستطيعون التعبير فيه بكل حرية ويعيشوا قناعاتهم بسلام وأن يتواصلوا مع الآخر من دون حواجز أو خوف.
هذه أشياء لن يستطيع جيل اليوم الحصول عليها إن لم يغير النظام اللبناني الطائفي.