الانسحاب الأميركي... خسائر كارثية وبديل إرهابي

نموذج سوريا والعراق حاضر... وسيلة حماية للحلفاء أم أداة ضغط وعقاب

الانسحاب الأميركي... خسائر كارثية وبديل إرهابي

* بديل الانسحاب الأميركي جماعات إرهابية أو مزيد من القوات الأجنبية
* الانسحاب الأميركي الفجائي من العراق وسوريا سبب خسائر كارثية على الأمن القومي للإقليم
* أميركا أصبحت غير قادرة على تحمل الدور العالمي وفي طريقها للانكماش داخل حدودها
* الخسائر الأميركية في المنطقة أحد أسباب انسحابها المتكرر
* زيادة النفوذ الروسي المدعوم من الصين ساهم في رحيل الأميركان
* فراغ الانسحاب المفاجئ كارثة على عدد من دول المنطقة

القاهرة: أثار الانسحاب الأميركي من شمال سوريا قبل دخول القوات التركية مباشرة الكثير من علامات الاستفهام عن طبيعة موقف القوات الأميركية في المنطقة خاصة مع تكرار هذا السلوك من واشنطن في عدد من الدول التي كانت تمثل فيها أميركا قوة حماية على الأرض بعد أن تسببت في دمارها وتقويض أنظمتها السياسية والأمنية ومن بينها العراق التي شهدت حربا أميركية لإسقاط الرئيس صدام حسين تحت مبرر أسلحة الدمار الشامل الذي ثبت زيفه لاحقا بمعرفة أميركا نفسها.
انسحاب القوات الأميركية المفاجئ من الدول التي تمركزت بها كان سببا لتداعيات كارثية على هذه الدول حيث كان سببا في إحداث عملية فراغ كبيرة قام بشغله عدد من الجماعات الإرهابية على اختلاف توجهاتها مثلما حدث في سوريا والعراق، وبعض المناطق في أفغانستان، فيما شغلت القوات التركية هذا الفراغ مؤخرا في النموذج السوري بعد أن قامت أنقرة بالهجوم على شمال سوريا بعد الانسحاب الأميركي المفاجئ بتنسيق مع الرئيس التركي الذي قامت قواته بالتوغل في سوريا لتفعيل شريط حدودي خال من القوات الكردية، وذلك– بحسب النظام الرسمي التركي- لإعادة اللاجئين السوريين إلى منطقة آمنة، وبصرف النظر عن الأهداف التركية المتعددة من التوغل في سوريا فإن السلوك الأميركي كان عاملا مهما في تحقيق هذا العدوان الذي لم يلق ارتياحا من المجتمع الدولي بشكل عام وكل دول الإقليم وكذلك دول الاتحاد الأوروبي التي أعربت عن استنكارها لما حدث، وإدانتها الكاملة لتصرفات تركيا، وللسلوك الأميركي الذي أدى إلى ذلك.
 
هيمنة أميركية
ولم ينف أي من المحللين والسياسيين ومن بينهم أميركيون كارثية الوجود الأميركي في الخارج على الولايات المتحدة نفسها وعلى الدول التي وجودت فيها بصرف النظر عن ذرائع هذا الوجود في نموذجي سوريا والعراق وأفغانستان، والنتائج المترتبة على ذلك ومن بينها مئات الآلاف من القتلى والجرحي بالإضافة إلى عشرات الملايين من المهجرين في شتى بقاع الأرض من الدول التي تم استهدافها بالعدوان الأميركي قبل الانسحاب، بالإضافة إلى استنزاف ثروات الدول المستهدفة، وقوض من مزاعم الفخر الأميركي عمليات الانسحاب الفجائية من دون أدنى تقدير استراتيجي للدول المعتدى عليها، وهيمنة القوة الأميركية التي تريد إثبات الهيمنة واليد الطولى على دول بعينها، ولصالح دول أخرى.
وكان من بين التداعيات الاستراتيجية وضع دول الإقليم المتحالفة روسيا وتركيا وإيران قدماً إضافية في سوريا، بديلا عن الوجود الأميركي بالإضافة إلى تعزيز نفوذهم بلا شك في العراق، وكذلك انفراد تركيا بتصفيه حساباتها مع الأكراد الذين اعتبروا الانسحاب الأميركي المفاجئ بمثابة «طعنة في الظهر» بحسب تعبيرهم، وتشير الدلائل إلى تغير معادلات اللعبة الاستراتيجية في سوريا مجددا لصالح المحور الروسي التركي الإيراني بديلا عن الولايات المتحدة الأميركية ليس في سوريا والعراق فقط ولكن في المنطقة كلها.


 

الدكتور جمال زهران


 
الانسحابات الأميركية جزء من تقلص النفوذ الأميركي عالمياً
الدكتور جمال زهران أستاذ العلاقات الدولية والعلوم السياسية بجامعة قناة السويس في مصر، قال لـ«المجلة»: «الانسحابات الأميركية هي جزء من استراتيجيات واشنطن طوال تاريخها، وقام ترامب بتنفيذه في سوريا وهو ضمن مراحل تقلص النفوذ الأميركي عالميا، فسوريا كانت نموذجا ولكن التصرفات الأميركية في هذا الشأن كانت سابقة على ترامب، فالتقديرات الاستراتيجية تشير إلى أن أميركا تعاني في سوريا، وكانت محدودة النفوذ، وبالتالي كانت الكلفة المادية والسياسية عالية مقارنة بالنفوذ الروسي في سوريا وبالمنطقة بشكل عام، وهي ضمن التصرفات الكاشفة في الانسحاب الأميركي من منطقة الشرق الأوسط، وتعد جزءا من استراتيجية الانسحاب الأميركي من النظام العالمي».
وتابع: «من الواضح أن أميركا أصبحت غير قادرة على التشارك العالمي، وهو ما يدلل عليه انسحاباتها الأخيرة مثل الانسحاب من اتفاقية البيئة والمناخ، ومن اتفاقية الحد من التسلح النووي، ومن اليونيسكو، ولا شك أن الوجود الروسي كان له عامل في ذلك، وفي تسارع الولايات المتحدة بالانسحاب، يضاف إلى ذلك الخسائر الأميركية الهائلة غير المعلن عنها، وكذلك انخفاض الروح المعنوية للجنود الأميركان، وفي نفس الوقت يحاول ترامب ممارسة ضغط قبل رحيله، واستنزاف موارد المنطقة بشكل ممنهج من خلال تحصيل تكلفة وجود القوات الأميركية، وخلاف ذلك من ابتزاز دول المنطقة».
 
انسحاب أميركي
وأضاف الدكتور زهران: «الانسحاب الأميركي من سوريا وقبلها جزئيا من العراق هو مرحلة أخيرة من الانسحاب الأميركي من منطقة الشرق الأوسط بعد تزايد النفوذ الروسي بدعم الصين، ويبدو أن الولايات المتحدة الأميركية في طريقها إلى الانكماش داخل حدودها لأنها أصبحت غير قادرة على تحمل تكاليف الدور العالمي الموازي للآخرين، وأصبح لأوروبا على سبيل المثال نفوذ أكبر من الأميركان، وعندما فكر إردوغان في العدوان على سوريا كان ذلك بضوء أخضر من ترامب، وكانت ردود الفعل الأوروبية رافضة لهذا التوجه، واتهمه بعض السياسيين بالجنون بسبب هذا التصرف، وذلك لأنهم كانوا ينظرون إلى تداعيات هذا التصرف على سوريا والمنطقة، ورفض الاتحاد الأوروبي عدوانه على سوريا واحتلاله الأراضي في الشمال السوري وكان الرفض الأوروبي واضحا وقاطعا، فأوروبا لها كتلة سياسية تعبر عن مصالحها التي يرى الكثير من دول القارة الأوروبية أهمية الانفصال عن أميركا التي بدأت تشعر بالعزلة والوحدة».
 
الدور التركي في سوريا إلى زوال
وتابع زهران: «أميركا استبدلت بوجودها في سوريا تركيا والتي يعتبر دورها في سوريا إلى زوال لأنه وجود ضعيف، والواضح أن ضخ الأموال وتمويل العمليات التي كانت تتم في سوريا توقفت، وترامب يقوم بأدوار تلفزيونية متعددة ومن بينها القيام بأمور لا تحظى بالشرعية الدولية، ومن دون قرارات دولية حقيقية، ويزرع فوضى في المنطقة، والدور الأميركي في اليمن وليبيا أصبح محدودا، وفي طريقه لذلك حاليا في كل من سوريا والعراق التي يحاول الهروب منها في ظل التغيرات الإقليمية، فالمشهد كله يشير إلى سيطرة دول الشرق على المنطقة بديلا عن الوجود الأميركي».
 
الانسحاب الأميركي من العراق بعد تقويض النظام الأمني والسياسي
وعن تكرار سيناريو الانسحاب الأميركي في العراق وتأثيره السلبي عليها بعد تقويض النظام الأمني والسياسي لبغداد ودول المنطقة قال: «تكلفة المقاومة في العراق كانت كبيرة، وأميركا دائما تصل إلى نقطة معينة تقوم بعدها بتقييم الموقف بما يتماشى مع مصالحها، فقد استنزفت أموال العراق من خلال نهب المليارات بعد تقويض النظام العراقي، وتفتيت الدولة والحصول على امتيازات كبيرة واستنزفت الثروة البترولية، وبالتالي انسحبوا بشكل رمزي، ولكن في سوريا وصل نفوذهم بعد الانسحاب الأخير إلى مرحلة الصفر، ونموذج العراق يختلف في أنه كان عملية غزو واحتلال عسكري كامل، وبدأ الانسحاب التدريجي لأن واشنطن أصبحت غير قادرة على التأثير مثل ذي قبل».
 
سجناء دواعش
ولم يختلف قرار ترامب في الانسحاب المفاجئ من سوريا عن قرار مواطنه أوباما بسحب القوات الأميركية من العراق من قبل، حيث فوجئ الجميع بهذا القرار باستثناء إسرائيل وكانت ذريعة ترامب الانتصار على داعش وهو ما نفاه أقرب المقربين من ترامب في الإدارة الأميركية من أن داعش لا يزال يمثل خطرا كبيرا على أمن الإقليم والعالم، وهي الحقيقة التي أعلنتها أيضا دول الاتحاد الأوروبي كلها من دون استثناء، فيما اعتبر قوات الحماية الكردية القرار الأميركي بمثابة كارثة، خاصة مع التربص التركي بالأكراد مما دفع الأخيرة للتقرب من النظام السوري خشية من تركيا التي استفادت استراتيجيا من هذا الانسحاب ومعها روسيا وإيران حيث أصبحت الساحة السورية مهيأة للمزيد من التمدد الروسي والإيراني بعد التوغل التركي.
ولم تخف دول العالم قلقها الكبير من مصير السجناء الدواعش ويقدر عددهم بالآلاف والذين كانوا محتجزين في شمال شرقي سوريا، ووجهة هؤلاء السجناء الخطرين المستقبلية بعد الانسحاب الأميركي خاصة مع حالة الاشتباك الكبيرة في هذا الملف الشائك الذي يهدد دول المنطقة.
ويرى محللون أن إيران ليست بعيدة عن السلوك الأميركي في الإقليم، وأن هناك أهدافا لترامب غير معلنة وقد تتضح مع مرور الوقت في علاقة الولايات المتحدة الأميركية بإيران التي تتخوف واشنطن من رد فعلها في حالة اشتعال الوضع في المنطقة بترتيبات أميركية حيث لا يزال الوضع متوترا بين إيران والولايات المتحدة الأميركية في الكثير من الملفات أبرزها الملف النووي الذي وإن غاب عن سطح الأحداث خلال الفترة الأخيرة إلا أنه لا يظل مشتعلا تحت الرماد، وأن سيناريو الهجوم الأميركي على إيران بضربات وقائية لا يزال حاضرا، وأن التخوف الأميركي من رد الفعل الإيراني على القوات الأميركية القريبة كان من بين أسباب سحب هذه القوات انتظارا لسيناريوهات معينة.
 
خسائر أميركية
وتكبدت الولايات المتحدة الأميركية خسائر قدرتها الإحصاءات الأميركية الرسمية بنحو 4474 قتيلا و33 ألف جريح، جراء وجودها في العراق، وأنفقت نحو تريليون دولار بعد حرب طويلة كانت ذريعتها - التي ثبت بالدليل القاطع كذبها - امتلاك العراق لصواريخ طويلة المدى وأسلحة دمار شامل، وكان هذا هو الهدف المعلن للأميركان فيما أثبتت الأحداث أن الهدف الأميركي كان تدمير قدرات الجيش العراقي وهو ما حققته القوات الأميركية بالفعل، وكان ذلك بالطبع لصالح إيران وإسرائيل، وفي نفس الوقت لم يكن هناك أي وسيلة أو خطة واضحة لاستعادة الأمن داخل الأراضي العراقية وهو ما كان نتاجه سنوات من الفوضى داخل الأراضي العراقية ارتبطت بتهميش السنة وعزلهم، وكذلك صعود نجم الجماعات الإرهابية التي ظهرت على الساحة كبديل طبيعي لحالات الفوضي في المنطقة التي خلقها السلوكيات الأميركية سواء كانت بشكل ممنهج أو دون قصد.
 
تداعيات كارثية
التداعيات الطبيعية التي أفرزها الانسحاب الأميركي من العراق من دون خطة أو ترتيبات كانت كارثية على عدد من دول الجوار، وفي نفس الوقت كانت بمثابة ضوء أخضر للجماعات الإرهابية للعبث بمقدرات دول المنطقة ليس هذا فقط، بل نقل نشاطها الإرهابي إلى دول أخرى مثلما ظهر في مصر وليبيا التي عانت من العمليات الإرهابية المتكررة، وفي نفس الوقت كانت بمثابة كارثة على العراق التي كانت تمثل واحدة من أهم الدول العربية في المنطقة سواء من حيث وضعها الاستراتيجي في الإقليم أو ثقلها الأمني والسياسي، حيث أخفق الأميركيون في التفاوض مع العراقيين على اتفاقية إطار استراتيجي واضحة، وكذلك عدم وجود هيكل سليم للنظام السياسي بسبب الانسحاب الفجائي مما أدى إلى التسرع في صياغة دستور وإجراء انتخابات شكلية، والأهم هو عدم إعادة تمكين القوات المسلحة العراقية من الوصول إلى الحد الأدنى من قواتها السابقة لمواجهة الأطماع الإيرانية مما كان له بالغ الأثر على وضع الجيش العراقي والدولة العراقية وكذلك كل دول مجلس التعاون الخليجي التي تعاني حتى الآن من سلوك إيران في الإقليم.
الفوضى داخل العراق في كل مظاهر الحياة كانت من ضمن التداعيات الكارثية للانسحاب الأميركي الفجائي، وهو ما عانى منه العراقيون، وكان من بين مظاهر الفوضى تعاظم الطائفية بشكل كبير وهو ما لم يكن موجودا في عهد الرئيس الأسبق صدام حسين، وكذلك التعسف ضد السنة من قبل الشيعة المدعومين من إيران وهو ما عانى منه الشعب العراقي على مدار أعوام متعددة عقب الانسحاب الأميركي غير الممنهج..

font change