* بهاء شعبان: تراجعت قدرة اليسار العربي على التأثير في الواقع بعد أن ضعفت قدرته على جذب انتباه الأجيال الجديدة بسبب عدم صياغة برامج واقعية
* محمد سعيد: تحالف بعض فصائل اليسار مع الإخوان يعتبر فقدانا للبوصلة وتعجلا للحصول على أي مكاسب
* مدحت الزاهد: المصالح الشخصية والذاتية في الجوهر لا تكون سبباً في ضعف اليسار العربي ولكن عند وجود ظاهرة كبرى على الدارسين البحث عن الأسباب الظاهرة
القاهرة: ترصد رواية للقاص والروائي السوداني عبد الحميد البرنس، بعنوان «غرفة التقدمي الأخير» ما طرأ على القوى التقدميّة واليساريّة في المنطقة، من تمزق وتشظٍ وتشوهات فرديّة وجماعيّة، بعد أن كانت تتصدر المشهد بوعود التغيير، حيث يسرد المؤلف من خلال رحلة بطل روايته «حامد عثمان» مسيرة انتهاء ذلك التيار، واضعا، في السياق، أبطاله مثل الحسناء مها الخاتم والكادر الخطابي جمال جعفر وأعمى يصر دوما على القيام بدور قيادي داخل التنظيم الذي يحافظ على سريته في القاهرة كمنفى أمام ما يمكن تسميته «مصهر الأفكار والمواقف ويبرز الكاتب محاولات البقاء المستميتة في عالم «تحكمه الحاجة لا القيم»، كذلك يبدو الجوع بارزا في السياق، كما القسوة والغدر والخيانة واغتيال الشخصيّة.لكن السؤال الذي يطرح نفسه عقب طي صفحات الرواية لماذا كل هذا الكم من جلد الذات للقوى اليسارية وهل مثل هذه الكتابة نوع من التبرؤ أو التطهر وهل شاخت الأفكار اليسارية في المنطقة العربية ومثل هذه الكتابات والإرهاصات الأخيرة لوضع نهاية مأساوية للفكر.
مراجعة كاملة وعميقة
كشف المهندس أحمد بهاء شعبان الأمين العام للحزب الاشتراكي المصري عن أن اليساري العربي بالفعل يحتاج إلى مراجعة كاملة وعميقة يتناول بالبحث والتحليل واقعة وأخطاه وآليات معالجة هذه الأخطاء والسبب في ذلك وعلى مدار العقود الأخيرة تراجعت قدرة اليسار العربي على التأثير في الواقع وضعفت قدرته على جذب انتباه الأجيال الجديدة بسبب عجزة عن صياغة برامج واقعية تعالج مشاكل السكان وتطرح حلولا تجذب إليها أنصارا جددا، وأن التجاهل أو الهروب من كشف واقع اليسار العربي لا يفيد في تحسين وضعه الحالي. لذلك المطلوب الآن وبالفعل نظرة موضعية لحالة اليسار العربي من دون إغفال المتغيرات المعادية سواء في التحولات الاجتماعية، أو عن طريق سيطرة طبقة بعينها.
وعلل شعبان أسباب تراجع اليسار العربي بعد أن كان في فترة يقود المجتمعات ضد الاستعمار ومواجهة الهجمة الشرسة على الأراضي العربية إلى وصول نخبة سياسية تابعة إلى الفكر الرأسمالي الغربي ولفلسفة السوق، عبر عنها بصورة واضحة نظام الرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات للانتقال من نظام اشتراكي إلى نظام رأسمالي، والانقلاب على كل الإنجازات التي تحققت للمواطن المصري الذي كان ينحاز إلى الطبقات الفقيرة. وبالتالي غير منهجه وتحول بالمجتمع إلى سياسات الانفتاح، وكان الغرض من هذه السياسات تكوين نخبة جديدة سياسية واقتصادية تابعة للغرب وللولايات المتحدة الأميركية التي تمثل الرأسمالية الجديدة، بالإضافة إلى أن النظام قام بتدمير الحامل الموضوعي لفكرة اليسار وهي الطبقة العاملة، عن طريق تصفية وبيع المصانع وتشريد الآلاف من العمال، ومن ثم تحول المجتمع إلى مجتمع استهلاكي للبضائع الغربية وغير منتج بخلاف التغيير الثقافي الذي نجحت فيها النظم في إحلال الطبقة العاملة بطبقة استهلاكية متناقضة مع الثقافة السابقة، مع وجود بعض النظم القمعية التي واجهت اليسار بكل عنف خوفا من تأثيره على الشارع بعد أن أطلقت عليه بعض تيارات الإسلام السياسي، مما أدي إلى نشر بعض الشائعات غير الموضوعية ضد اليسار، كل هذه الأسباب أدت في النهاية إلى تراجع قوى اليسار العربي وساعد أيضا في ذلك سقوط الاتحاد السوفياتي الأمر الذي ساعد بشكل واضح في عزل اليسار.
مواجهة التيارات اليسارية
وأجاب شعبان عن سؤال حول دور اليمين الديني في إضعاف اليسار قائلا: «لقد وجهنا ذلك حينما كنا طلابا في السبعينات من القرن الماضي بعد أن أطلق السادات التيارات الدينية في الجامعات المصرية وخصوصا جماعة الإخوان بعد أن أطلق سراحهم من السجون وأعاد لهم أموالهم وسمح لهم بالعمل وسط الطلاب لمواجهة التيارات اليسارية أدى ذلك إلى استخدام الجماعات المتطرفة لأساليب العنف ضد عناصر اليسار التي كانت في ذلك الحين تسيطر على الجامعات.
وعن تحالف بعض فصائل اليسار العربي وخصوصا المصري مع جماعات الإسلام السياسي أكد شعبان أن هذه التحالفات خطيئة تاريخية لا تغتفر، ستدفع هذه الفصائل ثمنا لها أغلي مما تتوقع، والسبب في ذلك أن هناك تناقضا موضوعيا، فأنْ تكون يساريا عليك أن تكون منفتحا على كافة التيارات، تؤمن بحرية الآخرين في الرأي تؤمن بالتعددية السياسية وفكرة المواطنة، فلا يمكن أن يكون هناك أرضية مشتركة بين جماعات الإرهاب والتيار اليساري، فهم يقتلون على الهوية، كارهين الآخر، بينما اليسار يرفض كل ذلك، لذلك نطرح سؤالا: كيف للأبيض والأسود أن يلتقيا؟ معتبرا أن هذا التحالف تحالف مصالح لا يقوم على مبدأ، وهو تربطه مصالح الوصول إلى السلطة، ولن ينسي الشعب المصري تحالف قوي ناصرية مع جماعة الإخوان بعد ثورة يناير ممهدة الطريق لوصول الجماعة إلى الحكم.
ومن جانبه، قال مدحت الزاهد رئيس حزب التحالف الشعبي (وهو حزب اشتراكي) أن المصالح الشخصية والذاتية في الجوهر لا تكون سببا في ضعف اليسار العربي، ولكن عند وجود ظاهرة كبرى على الباحثين البحث عن الأسباب الكبرى والبحث عن السياقات الأوسع، لأن البحث عن الأسباب الشخصية في ظاهره غالبا ما ظهر في الأزمات أو الانحسار، وبالتالي لا يمكن لعناصر الضعف الشخصية تفسير ظاهرة عامة. والنقطة الأخرى المرتبطة بالأولى هي مواجهة التغيرات التي واكبت العالم وهذا التغير كان مرتبطا بعلاقة قوى تصعد في ذلك حين تمثل الرأسمالية والتي ارتبطت بأنظمة استبدادية، وبالتالي تم التعامل مع اليسار بكل عنف، وفي نفس الوقت كان اليسار خلال السنوات الأخيرة له مواقفه الوطنية. وعلى سبيل المثال، وقف اليساري المصري في وجه التعديلات الدستورية وفي قضايا اجتماعية أخرى كان اليسار حاضرا فيها وأيضا في مواجهة التبعية والهيمنة كان اليسار حاضر فيها، وهذا لا ينفي تشتت اليسار أو بعض اليسار.
مقدمة صفوف القوى السياسية
وكشف الزاهد أن هناك أقساما من اليسار وقفت في صف المعارضة ولم تبحث عن كراسي أو مناصب سياسية وعندما تشاهد قائمة السجون في العصور السابقة ستجد اليسار في مقدمة صفوف القوى السياسية، لكن هذا لا ينفي أيضا أن هناك قسما من اليسار لديه أسباب شخصية وهناك تيار انتهازي ارتبط بالسلطة كما ذكرنا لتحقيق منافع، لكن ومع تقدم الرأسمالية تراجع اليسار في العالم أيضا ولو نظرنا خارج الوطن العربي ستجد اليسار تراجع في اليونان، في نفس الوقت هذا اليسار الانتهازي لا يوجد في الدول العربية فقط، ولكنه موجود في يسار العالم كله... في حين أن هناك فصائل من اليسار تنظر إلى المناصب السياسية والكراسي على أنها لا تحقق أحلام الجماهير وهؤلاء دائما ما يكونون أقرب إلى السجون لا القصور ومن ثم لا يرون هذه المناصب للحفاظ على مبادئهم.
وأكد الزاهد على أن نموذج ثورة السودان خير دليل على عدم وجود أسباب شخصية أو أمراض الذات في تراجع اليسار، فهناك ثورة شعبية يقودها إن جاز القول أو بعض من قيادتها تمثل اليسار وهذا لا ينفي وجود فصيل انتهازي أيضا لكن الوجه الرئيسي لليسار السوداني هو المقاوم فتاريخ اليسار في السودان عامر بالتضحيات لأجل المصالح العامة للشعب السوداني والمصالح العامة للوطن لا من أجل مصالح شخصية.. وإن صعود التيار اليساري في الخمسينات والستينات من القرن الماضي كان مرتبطا بصعود قوى التحرر في العالم كله ضد الاستعمار، وتكوين دول عدم الانحياز، لذلك هذا الزمن يختلف عن عالمنا الآن، في نفس الوقت هذا الصعود كان مرتبطا بوجود قطبين للقوى. والمناخ العام كان مهيأً لصعود اليسار. في ظل انهيار الإمبريالية القديمة ولم تكن الإمبريالية الجديدة استعدت لمواجهة ذلك، أيضا وجود الاتحاد السوفياتي مع وجود بعض الدول الاشتراكية ساهم بشكل كبير في صعود اليسار في ذلك الوقت حيث كان هناك عالم جديد يتشكل، لكن بعد أن استعادت الإمبريالية العالمية قواها عادت للاستبداد وشكلت عالماً جديداً مع وجود دول تابعة لها.
وكشف محمد سعيد، الأمين العام لحزب التجمع الوطني، (حزب يساري) عن أن اليسار العربي في فترات كثيرة يقوم بجلد ذاته والسبب في ذلك أن هناك فرصا كثيرة أتت إليه ولم يقم باستغلالها، وضاعت عليه في توحيد نفسه، ليكون قوى حقيقية على أرض الواقع، سواء أكان في السودان أو في مصر أو العراق وغيرها من الدول العربية، اليسار أيضا يجلد نفسه أحيانا بسبب أن هناك فترة طويلة من بدايات الأربعينات من القرن الماضي حتى منتصف السبعينات وهي فترة المد الاشتراكي في المنطقة العربية وكان قوياً جداً حيث شارك في حكم هذه الفترة في سوريا، ولكن لم يستثمر اليسار هذه الفترة ليحصل على موقعة الذي يستحق.
أهم أسباب التشرذم
حدد سعيد أسباب تراجع اليسار في الفترة الأخيرة ومن أهم هذه الأسباب التشرذم، لكن في فترة من الفترات توحد فيها عام 1958 ولم تستمر هذه الفترة طويلا، بعده عاد إلى التفكك والانقسامات، حيث التحقوا بتنظيمات الدولة في ذلك الوقت، لكن دائما ما تكون الأنظمة طرفا ضد تواجد اليسار في السلطة أو تنظيمات مستقلة، فاليسار المصري والسودان عانى كثيرا ووصلت إلى الإعدامات في عهد جعفر النميري مثل عبد الخالق محجوب وآخرين في السودان وخميس والبقري في مصر، وأدى رفض هذه الأنظمة لتواجد اليسار إلى ضعفه أيضا.
وحدد سعيد أسباب عدم توحد اليسار في الأوطان العربية في كل بلد على حدة، إلى أسباب شخصية تكمن في استقلال بعض الشخصيات بالزعامات، أو الاستقلالية، وكل مجموعة تمثل حزبا منفردا أو تحالفا على طبيعة هويتها، هناك أسباب أخرى مثل الخلاف حول برنامج أو توجهات سياسية أو تحالف ما، أو حزب يتبنى نظرية الاتحاد السوفياتي حينما كان موجودا في نفس الوقت فريق يتبع الاشتراكية الماوية، لكن السبب الأساسي كما ذكرنا هو الاستقلالية والزعامة، وستجد هذه الأمراض في كافة الفصائل اليسارية في الأقطار العربية في لبنان والعراق وسوريا واليمن وفلسطين والمثل على ذلك وجود الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين وكلتاهما يسارية وهذا النموذج لا بد أن يتوحد لمواجهة العدو وتحرير الأراض، لكن إرث اليسار هو نفس الإرث ونفس الأمراض التي كانت في الماضي تجدها الآن في هذا العصر.
وذكر سعيد أن كل ما سبق ذكره من أسباب تراجع اليسار العربي كان السبب الرئيسي في الابتعاد عن الجماهير ومن ثم غاب عن الشارع العربي رغم أنه ينحاز دائما للطبقات الفقيرة وأفكاره تنتشر بشكل سريع في الأوساط الجماهيرية جعلت الأنظمة دائما ما توجه إليه ضربات، في حين أن بعض فصائل اليسار تتحالف بشكل رسمي ومعلن مع بعض الجماعات الدينية وهذا رغم أنه لا يمثل ظاهرة غير منتشرة في اليسار العربي ولم تكن موجودة في اليسار في الماضي إلا أنه شكل سببا في فقدان هذه الفصائل لمصداقيتها في الشارع، لكن هناك تجارب سابقة في الماضي كان هناك تنسيق داخل الجامعات مع التيارات المتطرفة ولدينا تجربة حزب العمل الاشتراكي في الثمانينات الذي تحالف مع الإخوان، أيضا حديثا تحالف حزب الكرامة (حزب ناصري) مع الإخوان في عام 2013 ونجح على قائمة في هذا التحالف 7 نواب في البرلمان. وهنا نقول إن بعض فصائل اليسار للأسف تفقد البوصلة وتتعجل للحصول على أي مكاسب وتعتبر أن الإخوان المسلمين فصيلا وطنيا، وهو ما يعني أنهم سيفقدون هويتهم وسوف يذوبون داخل الجماعة.