* ارتفاع عدد ضحايا «النيران الصديقة» خلال الحرب على الإرهاب في منطقة الشرق الأوسط إلى أرقام غير مسبوقة في تاريخ الحروب
* يمكن لعائلات الضحايا إقامة دعاوى قضائية، لكن المسارات القانونية صعبة، خاصة مع صعوبة إثبات الجريمة
القاهرة: تعقيدات الحرب على الإرهاب، واختلاف آلياتها عن تلك التي تستخدم في الحروب التقليدية بين الجيوش النظامية، ساهم في تغيير الكثير من المفاهيم والمصطلحات العسكرية السائدة، ومن بينها مصطلح «النيران الصديقة» الذي كان يطلق على وقائع القتل الخطأ التي تحدث بين صفوف الجيش الواحد خلال المعارك، ومنذ بدء المواجهات العسكرية مع التنظيمات الإرهابية في منطقة الشرق الأوسط والكثير من المناطق الأخرى، تحول ضحايا «النيران الصديقة» إلى مأزق جديد يواجه القادة العسكريين على أرض المعارك، ويضع المجتمع الدولي أمام تحديات جديدة.
وفقًا لخبراء عسكريين، ارتفع عدد ضحايا «النيران الصديقة» خلال الحرب على الإرهاب في منطقة الشرق الأوسط إلى أرقام غير مسبوقة في تاريخ الحروب، والذين يتم تقسيمهم إلى فئتين، الأولى تضم المدنيين الذين يقعون ضحايا الهجمات العسكرية الخاطئة، والفئة الثانية هم العسكريون من الجنود الذين يموتون نتيجة هجمات من قوات حليفة تحدث عن طريق الخطأ.
ويقول اللواء جمال مظلوم الخبير العسكري والاستراتيجي لـ«المجلة» إن «الغارات الجوية توقع العدد الأكبر من الضحايا فيما يسمى (النيران الصديقة) لأن الكثير منها يتم وفق معلومات غير دقيقة، كما أنه يوجد بعض الثوابت العسكرية التقليدية التي يصعب على القادة العسكريين الالتزام بها خلال مهاجمة مواقع التنظيمات الإرهابية، وهي أنه يجب أن يوجد دائمًا بين القوات الأرضية ضابط يُطلق عليه (ضابط تنسيق الضربات الجوية) وهو الذي يتولى توجيه القوات الجوية وتحديد الأهداف المطلوب قذفها، وإعطاء الأمر النهائي بالغارة، وبالطبع يصعب الالتزام بهذا التقليد في الحرب على الإرهاب بسبب ظروف المعركة القاسية وصعوبة تواجد قوات أرضية في بعض المواقع النشطة وخاصة تلك التي تضم أو تكون معقلاً للعناصر الإرهابية المطلوب قذف مواقعها، حيث يتم تنفيذ الغارات الجوية دون وجود قوات على الأرض».
ويضيف مظلوم: «تعدد أطراف الحرب على الإرهاب في المنطقة الواحدة ما بين جيوش نظامية وتحالف دولي وميليشيات موالية، وتعارض المصالح العسكرية لبعض هذه الأطراف برغم تحالفها، يؤدي إلى تكرار وقائع (النيران الصديقة)، ومن بين الأسباب العسكرية الأخرى لهذه الظاهرة نقص المعلومات أو عدم دقتها، فقد تحصل الاستخبارات العسكرية على معلومات عن تجمع أو معسكر لعناصر إرهابية، لكنها تتأخر في قصفه لليوم التالي، وعندما تُنفذ غارتها الجوية تكون القوات المعادية قد غادرت المكان، وأيضًا ضعف التنسيق بين قوات التحالف، وخاصة التنسيق المعلوماتي، فالكثير من الدول لا تتشارك معلوماتها الاستخباراتية المتعلقة بالوضع على الأرض مع حلفائها، بل إن بعض الدول تحاول دائما استخدام هذه المعلومات في تنفيذ غارات منفردة تقوم بها قواتها الجوية دون إعلام القوات الحليفة، وهو ما يتسبب في وقوع خسائر وضحايا من الطرفين في بعض الأحيان، أو تقوم قوات الدفاع الجوي بإسقاط طائرات تابعة لقوات حليفة».
ويشير مظلوم إلى أن «ملف ضحايا (النيران الصديقة) سيحتاج إلى الكثير من الدراسة والبحوث العسكرية عقب انتهاء الحرب على الإرهاب، خاصة في كل من سوريا والعراق وليبيا، لأن الوضع العسكري على الأرض يختلف كليًا عن الحروب التقليدية، وهو وضع جديد تمامًا على جميع القادة العسكريين وعلى الجنود، ويجب أن يخضع هذا النوع من الحروب لدراسة المتخصصين، سواء فيما يتعلق بالاستراتيجيات العسكرية والتكتيكات التي تم استخدامها، وكذلك الأسلحة، وأي الوسائل أكثر فاعلية؟ هل هي الغارات الجوية؟ أم القوات البرية؟ وما هي الخبرات العسكرية المستفادة؟ وهل توجد وسائل أخرى أفضل لحماية المدنيين وتقليل الخسائر في صفوفهم؟ ويجب على الدول الكبرى في الوضع الراهن أن تتوسع في التنسيق العسكري خلال حربها على الإرهاب، وتتبادل المعلومات الاستخباراتية للأوضاع في أرض المعارك».
في يونيو (حزيران) الماضي، أقر التحالف الدولي للحرب على الإرهاب، والذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية، أن «النيران الصديقة» تسببت في مقتل أكثر من 1300 مدني في العراق وسوريا منذ عام 2014 خلال الحرب على تنظيم داعش الإرهابي، وقال التحالف، في بيان صحافي، إن «الضحايا قتلوا عن طريق الخطأ»، موضحا أنه «نفذ أكثر من أربع وثلاثين ألف غارة منذ شهر أغسطس (آب) من عام 2014 حتى نهاية أبريل (نيسان) من العام الجاري».
وعلى الرغم من أن منظمات حقوقية وجماعات دولية مختصة بمراقبة الحرب أكدت أن الرقم الذي أعلنه التحالف الدولي أقل كثيرًا من الأرقام الحقيقية، إلا أن اعتراف التحالف الدولي دفع حاكم الزاملي، رئيس لجنة الأمن والدفاع السابق في البرلمان العراقي، إلى مطالبة القوات الأميركية بتعويض أهالي المتضررين جراء العمليات العسكرية، وقال الزاملي في تصريحات صحافية عقب بيان التحالف، إن «الرقم الذي أعلنه التحالف الدولي أقل بكثير عن الأرقام الحقيقية، واليوم وبعد الاعتراف الأميركي، فإن الدور يقع على الحكومة العراقية التي يتعين عليها مطالبة القوات الأميركية وقوات التحالف الدولي بتعويض أهالي الضحايا، وفق القوانين الدولية والمحاكم المختصة».
وتقول الدكتورة نهى بكر أستاذة العلوم السياسية المتخصصة في العلاقات الدولية بالجامعة الأميركية بالقاهرة لـ«المجلة» إن «وقوع ضحايا من بين قوات الدول الكبرى نتيجة الأخطاء العسكرية التي يطلق عليها (نيران صديقة) يتسبب في مواجهات سياسية وأزمات تنتهي غالبًا بوعود من الطرفين بضرورة اللجوء إلى مزيد من التنسيق، وهو السبب الرئيسي في وقوع هذه الأخطاء، إذ يتعين على الدول المشاركة في الحرب على الإرهاب تبادل المعلومات وتشارك خططها خلال العمليات العسكرية، ودائمًا ما يكون تعارض المصالح السياسية والعسكرية بين هذه الدول سببا رئيسيًا في عدم التنسيق».
وتضيف بكر: «القانون الدولي يحتاج إلى تطوير فيما يتعلق بتعويضات ضحايا الحرب على الإرهاب، لأن مواد القانون قديمة وتحتاج إلى كثير من التعديلات التي تتعلق بالإرهاب عمومًا، ومع صعوبة المسارات القانونية لقضايا التعويضات، يمكن أن يكون التعويض من الدول الكبرى في شكل إعادة إعمار البلد، وتعويض الضحايا سواء كانوا عسكريين أو مدنيين من الأموال التي يتم مصادرتها من التنظيمات الإرهابية».
وتشهد كثير من الدول العربية تحركات متفاوتة للتعامل مع ملف ضحايا الحرب على الإرهاب بشكل عام، وتحيي الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، في 22 أبريل (نيسان) من كل عام، ما يسمى «اليوم العربي للتوعية بآلام ومآسي ضحايا الأعمال الإرهابية في المنطقة العربية»، بهدف الإسهام في التوعية بمآسي وآلام المتضررين من الجرائم الإرهابية في المنطقة العربية وحجم المعاناة الذي يلحقها الإرهاب بالعائلات والأسر البريئة، كما تدور مناقشات للمطالبة بقيام الجامعة العربية بإنشاء صندوق لتعويض ضحايا العمليات الإرهابية.
واتجهت مصر إلى المسار الدولي للتعامل مع ملف ضحايا العمليات الإرهابية، حيث لعبت بعثتها الدائمة لدى الأمم المتحدة في نيويورك دورًا بارزًا في تأسيس «مجموعة أصدقاء ضحايا الإرهاب» التي تتبع الأمم المتحدة، وتهدف إلى حماية حقوق ضحايا الإرهاب، وحث المجتمع الدولي على التعامل مع حقوق ضحايا الإرهاب كأولوية قصوى»، وتم تدشين المجموعة والإعلان عن بدء عملها في يونيو (حزيران) الماضي، بحضور كل من، أنطونيو غوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة، وفلاديمير فورونكوف وكيل الأمين العام رئيس مكتب الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب.
وقامت الحكومة التونسية في أبريل (نيسان) الماضي بتشكيل لجنة لدراسة ملفات تعويضات ضحايا العمليات الإرهابية، وسبل رعايتهم، كما تسعى منظمات حقوقية عربية إلى إنشاء شبكات لدعم ضحايا الإرهاب، ولفت انتباه المجتمع العربي إلى قضيتهم، وتهدف الجمعيات الحقوقية إلى مساعدة ومؤازرة الضحايا وذويهم ونشر كل المعلومات المتعلقة بهم، ومن بين هذه الجمعيات، الجمعية المغربية لضحايا الإرهاب.
وتحاول منظمات حقوقية مصرية إثارة قضية تعويضات ضحايا الإرهاب أمام المجتمع الدولي، من خلال اجتماعات مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وقامت منظمات مصرية بينها مؤسسة ملتقى الحوار للتنمية وحقوق الإنسان بإثارة الملف خلال اجتماعات المراجعة الدورية لسجل حقوق الإنسان بالأمم المتحدة في مارس (آذار) الماضي.
ويقول الحقوقي سعيد عبد الحافظ، مدير مؤسسة ملتقى الحوار للتنمية وحقوق الإنسان لـ«المجلة» إن «نصوص القانون الدولي عاجزة على مواجهة ملف ضحايا الإرهاب، ولا توجد بها نصوص أو اتفاقيات تلزم الدول بتعويض الضحايا، لذلك على المنظمات الحقوقية تكثيف تحركاتها لحشد المجتمع الدولي، ووضعه أمام مسؤولياته، ويمكن لعائلات الضحايا إقامة دعاوى قضائية، لكن المسارات القانونية صعبة، خاصة مع صعوبة إثبات الجريمة، فلا يمكنك أن تثبت أن جيش بلد ما تسبب في موت ضحية أو ضحايا، لذلك يجب على المجتمع المدني أن يبذل جهدًا في توثيق هذه الجرائم، على الرغم من صعوبة ذلك وسط ميادين المعارك».