* بنك الوقود النووي في كازاخستان هو السبيل نحو عالم خال من المخاطر
* هناك ما يزيد على 600 هيروشيما جرت في كازاخستان، توفي بسببها الآلاف من المواطنين الأبرياء وعانى الكثيرون من آثارها حتى الآن
* على الجميع الالتزام بمعايير السلامة والأمان النووي التي يتم تحديثها باستمرار من جانب الوكالة الدولية للطاقة الذرية بما يحمي البشر والبيئة من الآثار الضارة للإشعاعات النووية
نور سلطان-(كازخستان): في التاسع والعشرين من أغسطس (آب) من كل عام، يحتفل العالم باليوم العالمي لمكافحة التجارب النووية والذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الرابعة والستين المنعقدة في 2 ديسمبر (كانون الأول) 2009. بقرارها الصادر بالإجماع تحت رقم 35-64. بناءً على مبادرة من الرئيس السابق لجمهورية كازاخستان «نور سلطان نزارباييف» لإحياء ذكرى قراره بإغلاق موقع «سيميبالاتينسك» للتجارب النووية في 29 أغسطس 1991. ومبادرته الوطنية بالتخلي طواعية عن ترسانة دولته النووية التي ورثها عن الاتحاد السوفياتي السابق والبالغ عدد رؤوسها النووية نحو 1400 رأس نووي، حيث كانت كازاخستان رابع أكبر قوة نووية عالميًا.
وغني عن القول إن إقدام جمهورية كازاخستان على مثل هذه المبادرة لم يأت من فراغ أو مصادفة وإنما جاء بناء على إدراك واعٍ من الرئيس الكازاخي بمدى خطورة مثل هذه التجارب النووية ليس فقط على شعبه ومواطنيه كونهم الأكثر إصابة وضررا في المقام الأول وإنما تمتد آثار تلك التجارب وتداعياتها السلبية على الإنسانية جمعاء.
ويذكر أن موقع «سيميبالاتينسك» كان قد شهد اختبار 616 تجربة نووية (ما يعني أن ثمة ما يزيد على 600 هيروشيما جرت في كازاخستان)، توفي بسببها الآلاف من المواطنين الأبرياء وعانى الكثيرون من آثارها حتى الآن، حيث يولد الأطفال بشلل أو من دون أطراف بسبب الإشعاعات النووية المنتشرة في المناطق القريبة من التجارب، فضلا عن تبوير مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية التي أصبحت غير صالحة.
ومن هذا المنطلق، جاءت المبادرة الكازاخية– التي حظيت بتأييد عالمي واسع المدى- بتخصيص يوم لمكافحة التجارب النووية بهدف تحفيز الأمم المتحدة، والدول الأعضاء، والمنظمات الدولية الحكومية منها وغير الحكومية، والمؤسسات الأكاديمية، والشبكات الشبابية، والوسائط الإعلامية للقيام بالتعريف والتثقيف بشأن ضرورة حظر تجارب الأسلحة النووية، والدعوة إلى ذلك بوصفها خطوة قيمة نحو تحقيق عالم أكثر أمنًا، حيث يشهد هذا اليوم والذي بدأ الاحتفال به منذ عام 2010 بتنظيم كثير من الأنشطة في جميع أنحاء العالم، مثل الندوات والمؤتمرات والمعارض والمسابقات والمنشورات والمحاضرات في المؤسسات الأكاديمية والبث الإذاعي وغير ذلك من المبادرات لتعزيز قضية حظر التجارب النووية.
ومن نافلة القول إن الاهتمام الدولي بهذه القضية وخطورتها لم يتوقف عند هذه المبادرة فحسب، بل انطلاقا من الاقتناع الدولي بضرورة العمل على الإزالة التامة للأسلحة النووية كونها الضمانة المطلقة والوحيدة ضد استخدامها أو التهديد باستخدامها، حددت الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 25 سبتمبر (أيلول) من كل عام يوما للاحتفال بـ«اليوم الدولي للإزالة الكاملة للأسلحة النووية»، وذلك بمقتضى القرار الدولي رقم A-RES-68-32والصادر في أكتوبر (تشرين الأول) 2013.
في ضوء كل هذه الجهود الدولية المبذولة للحد من السلاح النووي ومخاطره، يظل العالم يواجه إصرار دول بعينها على الاستمرار في الطريق المؤدي إلى هلاك الإنسانية بأسرها، على غرار كوريا الشمالية وإيران، وهو ما يستوجب التكاتف عالميا بصورة أكثر جرأة وقوة في مواجهة البرامج النووية لهذه الدول، ليس فقط خوفا على شعوبها الواقعة تحت نظم حاكمة ديكتاتورية وإنما لإنقاذ شعوب العالم أجمع التي بلا شك ستتأثر سلبا بتداعيات مثل هذه البرامج النووية.
وتزامنا مع الاحتفال باليوم العالمي لمكافحة التجارب النووية يثار التساؤل حول حق الدول في الاستخدام السلمي للطاقة النووية ومدى التعارض بين هذا الحق الذي أقرته الأمم المتحدة وبين تهديدات ومخاطر البرامج النووية لبعض الدول الأخرى؟ وهو ما يحاول الإجابة عليه هذا التقرير من خلال محورين:
الأول: بنك الوقود النووي في كازاخستان والحق في الاستخدام السلمي للطاقة النووية
تشكل الطاقة النووية في رأي الكثيرين مصدرًا مهمًا من مصادر الطاقة للاستخدامات السلمية (إنتاج الكهرباء – الطب والصيدلة - الزراعة – الصناعة)، وذلك في إطار الجهود الدولية المبذولة للحد من الاعتماد على الوقود وانبعاثاته، وهو الحق الذي منحته المادة الرابعة من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية عام 1970 (راجع الملحق «أ») حينما نصت على حقوق الدول الأطراف في إنماء الطاقة النووية وبحثها وإنتاجها واستخدامها للأغراض السلمية، شريطة أن يتم استخدام هذا الحق وفقا لأحكام المادتين الأولى والثانية من المعاهدة، حيث تنص المادة الأولى على أن تتعهد كل دولة طرف في الاتفاقية تملك سلاحا نووي، بأن لا تنقل بطريقة مباشرة أو غير مباشرة إلى أي متسلم أيًا كان أسلحةً نووية أو أي أجهزة أخرى للتفجير النووي أو الإشراف على هذه الأسلحة أو الأجهزة، وكذلك أن لا تساعد أو تشجع أو تحرض بأي طريقة كانت دولة غير نووية على صنع أو الحصول بغير ذلك على أسلحة نووية أو أي أجهزة أخرى للتفجير النووي، أو أن يكون لها إشراف للحصول على هذه الأسلحة أو الأجهزة.
وتنص المادة الثانية على أن تتعهد كل دولة تملك سلاحا نوويا طرف في المعاهدة بأن لا تقبل بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من أي ناقل أسلحة نووية أو أي أجهزة أخرى للتفجير النووي أو الإشراف على هذه الأسلحة أو الأجهزة، وكذلك أن لا تصنع أو تحصل بغير ذلك، على أسلحة نووية أو أي أجهزة أخرى للتفجير النووي، وأن لا تقبل المساعدة على صنع هذه الأسلحة أو الأجهزة أو تسعى لها.
ولكن رغم ذلك وفي الوقت نفسه، ثمة جدل دولي أثير حول السعى نحو تحقيق أهداف نظام أكثر فعالية لعدم الانتشار النووي، وحق جميع الموقعين على هذه المعاهدة في تطوير صناعتهم النووية المدنية، بمعنى أكثر تحديدا كيف يمكن تحقيق التوازن بين منع الانتشار النووي من ناحية، وعدم حرمان الدول الأعضاء في هذه المعاهدة من حقها المشروع وغير القابل للتصرف في تطوير واستخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية من ناحية أخرى؟ وهو الجدل الذي حسمته الوكالة الدولية للطاقة الذرية من خلال مباردتها عام 2006 بتأسيس البنك الدولي لليورانيوم منخفض التخصيب للبلدان التي تقوم بتطوير الطاقة النووية ولكن ليس لديها منشآت خاصة بها لتخصيب اليورانيوم، وقد أيدت غالبية الدول الأعضاء في الوكالة الدولية هذا الاقتراح، حيث لا تسمح الوكالة بشراء اليورانيوم منخفض التخصيب من هذا البنك إلا للدول الأعضاء التي قامت بإبرام الاتفاقات معها والتي تلتزم بالضمانات الشاملة وتتبع قواعدها.
ورغم وجاهة هذا المقترح والتأييد الذي حظي به، إلا أنه ظل مجرد مقترح حتى عام 2009. حينما أعلنها الرئيس الكازاخي السابق «نزارباييف» باستعداد بلاده لاستضافة بنك الوقود النووي تحت سلطة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فقد جاء في كلمته: «إن مبادرتنا لاحتضان كازاخستان لمقر البنك الدولي للوقود النووي، ما هي إلا مساهمة ملموسة منها لتعزيز نظام منع انتشار الأسلحة النووية وإزالة تلك البقع البيضاء الموجودة في القانون الدولي على حق بعض البلدان في تطوير برامجها الوطنية لاستخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية».
وبالفعل بعد مفاوضات ممتدة بين كازاخستان والوكالة الدولية للطاقة الذرية تم التوصل إلى اتفاق عام 2015، محددًا معايير السلامة ونظام الأمن المطلوب في هذا البنك الذي يخضع للإشراف الكامل للوكالة. وقد تم افتتاحه في ختام المؤتمر الدولي السنوي لمكافحة التجارب النووية لعام 2017. حيث تحددت أهداف هذا البنك في تقديم المواد النووية للبلدان التي ترغب في تطوير الطاقة النووية للأغراض السلمية، ولكنها تفتقر إلى الموارد المحلية الكافية. وقد بلغت تكلفة البنك 150 مليون دولار، تشمل شراء اليورانيوم وضمان عمله للعشر سنوات الأولى، وموزعة على كل من: الاتحاد الأوروبي بما يصل إلى 25 مليون يورو، والكويت 10 ملايين دولار، والنرويج 5 ملايين دولار، والإمارات العربية المتحدة 10 ملايين دولار، والولايات المتحدة 49 مليون دولار، ومبادرة التهديد النووي 50 مليون دولار، وكازاخستان 400 ألف دولار، بالإضافة إلى تحملها لمصاريف احتضان ومتابعة والإشراف على البنك في أراضيها.
ثانياً: البرنامج النووي الإيراني... مخاطر متزايدة
«إن إيران ستستأنف خلال ساعات تخصيب اليورانيوم بمستوى أعلى من 3.67 في المائة ريثما تتم تسوية بعض التفاصيل التقنية»...
بهذه العبارة أعلن المتحدث باسم الوكالة الإيرانية للطاقة الذرية، «بهروز كمالوندي» في أوائل يوليو (تموز) الماضي (2019) استعادة طهران لسياساتها النووية، مخالفة بذلك كافة الالتزامات الدولية، بل سبق هذا التصريح ما نشرته الوكالة الإيرانية أيضا في يونيو (حزيران) من العام ذاته بأنها «ضاعفت بمقدار أربعة أمثال إنتاجها من اليورانيوم المخصب، الذي يستخدم في إعداد وقود للمفاعلات النووية وقد يستخدم في صناعة الأسلحة النووية»، ويأتي هذا كله ردا على قرار الولايات المتحدة الأميركية بالانسحاب من الاتفاق النووي المبرم عام 2015 طبقا لصيغة (5+1) بالإضافة إلى ألمانيا، ذلك الاتفاق الذي وضع مجموعة من الضوابط والاشتراطات على طهران لضبط برنامجها النووي، وجعله برنامجا للاستخدامات السلمية وتعهدها بعدم امتلاك السلاح النووي والحد بشكل كبير من أنشطتها النووية، إلا أن الخروقات والانتهاكات الإيرانية المستمرة لبنود الاتفاق جعل الإدارة الأميركية تتخذ قرارا بالانسحاب من هذا الاتفاق الذي حاولت طهران توظيفه للاعتراف بها كدولة نووية لديها برنامجا يهدد أمن واستقرار المنطقة ويحقق طموحاتها التي تتمركز في التمدد على جوارها الجغرافي.
ومن الدخول في كثير من التفاصيل التي تحاول طهران إغراق العالم بها عبر أدواتها الإعلامية لتضليل الرأي العام ولفت الأنظار بعيدا عنها، تمتلك طهران برنامجا نوويا تخفي كثيرا من تفاصيله وتجاربه التي تهدد الأمن والاستقرار الإقليمي، وهو ما كشفه تقرير للمخابرات الألمانية صادر في مايو (أيار) 2019 جاء فيه: «إن إيران تسعى لتوسيع برنامجها العسكري المثير للجدل لإنتاج أسلحة الدمار الشامل»، وهو ما يلزم الأطراف كافة إلى الأخذ في الحسبان المخاطر المستقبلية المترتبة على البرنامج النووي الإيراني إذا ما استمرت طهران في نهج السياسة ذاتها، تلك السياسة التي تسير من خلالها على مسارين: الأول، مسار دولي تحاول من خلاله ممارسة مزيد من الضغوط على الأطراف الأوروبية الموقعة على الاتفاق النووي من خلال رسائل تهديدية بإعلانها الخروج من هذا الاتفاق والعودة إلى المربع صفر وهو خطاب خادع، إذ إن طهران منذ اليوم الأول لتوقيع الاتفاق ترتكب جميع الخروقات والانتهاكات، ولا تلتزم بما تضمنه الاتفاق من بنود، وهذا ما حذرت منه المملكة العربية السعودية حينما أشارت إلى أن سمات السياسة الإيرانية المراوغة وعدم الالتزام بالعهود والاتفاقات، وقد أثبتت الأيام صحة الرؤية السعودية. أما المسار الثاني وهو مسار إقليمي، تحاول طهران من خلاله إثارة الصراعات والنزاعات في جوارها الإقليمي من خلال وكلائها المنتشرين في بعض الدول العربية على غرار ما هو موجود في سوريا ولبنان واليمن والعراق، وتهدف من ذلك إلى ممارسة مزيد من الضغوطات على هذه الدول، بل وتوظيف ما يجري فيها من أحداث واضطرابات لتهديد الأمن القومي الإقليمي في مجموعه والأمن القومي لدول الإقليم كل على حدة.
ما نود أن نخلص إليه هو أن الاحتفال باليوم العالمي لمكافحة التجارب النووية إذا كان يقدم لنا تجربة دولية تستحق الإشادة والتقدير وهي التجربة الكازاخية التي تنازل رئيسها السابق «نزارباييف» طواعية عن سلاح بلاده النووي إدراكا منه لحجم المخاطر والتهديدات التي يمثلها هذا السلاح على الأمن والاستقرار العالمي والإقليمي والوطني، فإن الاحتفال أيضا يُذكر العالم بأن ثمة نماذج دولية تحتاج إلى مزيد من التعامل بحزم لردعها عن الإقدام على امتلاك هذا السلاح المدمر، حماية للأمن العالمي والاستقرار الدولي وحفاظا على الإنسانية من الفناء إذا وصل هذا السلاح إلى التنظيمات الإرهابية التي تمثل أحد أذرع النظام الإيراني لتنفيذ سياساته ليس فقط في الجوار الإقليمي وإنما وصلت تهديداتها إلى قلب أوروبا. فإلى متى سيظل العالم صامتا على مثل هذه الخروقات والجميع على حافة النار؟ في حين نأمل جميعا أن نحقق تلك الدعوة الكازاخية بأن يصبح العالم عام 2045 - وهو العام الذي يصادف الاحتفال بمئوية الأمم المتحدة - عالما خاليا من السلاح النووي حتى باستخداماته السلمية واستبداله بمصادر طاقة جديدة صديقة للبيئة، وإلى أن يتحقق ذلك الحلم على الجميع الالتزام بمعايير السلامة والأمان النووي التي يتم تحديثها باستمرار من جانب الوكالة الدولية للطاقة الذرية بما يحمي البشر والبيئة من الآثار الضارة للإشعاعات النووية.