* ليس مستغربا أن تجد مصريًا مسيحيًا يقف بخشوع داخل مسجد وضريح السيدة زينيب، ولا أن تجد أيضًا مصريًا مسلمًا يقف داخل كنيسة «سانت تريز»
* تجذب الموالد الشعبية جموع المصريين، الذين لا يفرقون بين احتفالات الموالد الإسلامية والمسيحية، وأشهرها مولد السيدة زينب ومولد الحسين، ومولد السيدة العذراء مريم
* يصل الانصهار الثقافي إلى مداه عند المصريين بتعدد الروايات الشعبية عن بعض سكان الأضرحة، إذ تعتبرهم بعض الروايات قديسين مسيحيين، بينما هم أولياء مسلمون في روايات أخرى
القاهرة: الكثير من الآثار الإسلامية والمسيحية في مصر تحولت من مجرد مزارات سياحية دينية إلى «حالة فريدة» صاغها المصريون طوال سنوات عبر هذا التداخل التاريخي الذي يمتد لآلاف السنين بين غبار أحجار البنايات الأثرية مع عادات وتقاليد تمزج بين القيم الإنسانية المتوارثة والتطورات الاجتماعية المتلاحقة، ليقدموا للعالم «وصفتهم» الخاصة التي تُشكل حائط الصد الاجتماعي لمواجهة الأفكار المتطرفة فيما يُعرف في جانب منه بحالة «التدين الشعبي».
ليس مستغربا أن تجد مصريًا مسيحيًا يقف بخشوع داخل مسجد وضريح السيدة زينيب بجنوب القاهرة مشعلا شمعة تعبيرًا عن تقديره لصاحبة المسجد الأكثر شهرة في مصر، ولا أن تجد أيضًا مصريًا مسلمًا يقف داخل كنيسة «سانت تريز» في حي شبرا الشهير بوسط العاصمة، ليُشعل شموعًا خاصة، تعبيرًا عن شكره للقديسة التي تحظى بمكانة خاصة لدى جموع المصريين، أو وفاء لـ«نَذر» ألزم به نفسه في زيارة سابقة طلبًا للبركة.
وتُشكل فكرة «النذور» إحدى مفردات الثقافة الشعبية المصرية، حيث يذهب الشخص إلى أحد الأضرحة الخاصة بالأولياء المسلمين أو القديسين المسيحيين طلبا للبركة، ويحدد «نَذرا» يلزم به نفسه إذا ما قُضيت حاجته التي جاء من أجلها، أو حُلت المشكلة التي يعانيها، وعادة ما يكون «النذر» شيئا بسيطًا، أو يتضمن تقديم المساعدة المالية للمحتاجين، ولا يفرق المصريون بين الأولياء والقديسين في التقدير أو تقديم «النذور»، وهو ما يبدو جليًا في مشاهد المسيحيين حول أضرحة المساجد الشهيرة، كالسيدة زينب أو مسجد الحسين بحي الأزهر التاريخي بوسط القاهرة، وأيضًا مشاهد المسلمين في كنيسة «سانت تريز» أو كنائس منطقة مجمع الأديان بحي مصر القديمة «جنوب القاهرة»، أو شجرة مريم بحي المطرية «شرق القاهرة» والتي أُدرجت رسميًا مؤخرًا على خريطة السياحة الدينية المصرية باعتبارها أحد مسارات رحلة العائلة المقدسة إلى مصر.
وتجذب الموالد الشعبية جموع المصريين، الذين لا يفرقون بين احتفالات الموالد الإسلامية والمسيحية، وأشهرها مولد السيدة زينب ومولد الحسين، ومولد السيدة العذراء مريم.
ويقول عزت عزيز (45 سنة) لـ«المجلة»: «أذهب إلى مسجدي السيدة زينب والحسين في مناسبات مختلفة، وأحيانًا أوقد شموعًا داخل الضريح كما أفعل في كنيستي، وليس مستغربا أن تجد مسيحيين يزورون المساجد أو مسلمين يترددون على الكنائس، فأنا كمسيحي أُقدر السيدة زينب كما أُقدر السيدة العذراء مريم، وأستمتع كثيرًا بالذهاب إلى الموالد الإسلامية مع أصدقاء مسيحيين ومسلمين».
وتحظى القديسة «تريز» بمكانة خاصة لدى جموع المصريين، وتحولت كنيستها التي تأسست عام 1930 بحي شبرا الشعبي بوسط القاهرة إلى مزار سياحي ومقصد للمسلمين والمسيحيين على السواء، وتجسدت مكانتها التاريخية في اللوحات الرُخامية التي تملأ جدران الكنيسة، والتي يعود الكثير منها إلى شخصيات شهيرة علقوها وفاء لـ«نذر» ألزموا به أنفسهم تجاه صاحبة الكنيسة.
وتشكل لوحات تسجيل النذور مشهدًا إنسانيًا يبرز قيم التسامح وقبول الآخر بالكثير من اللغات، منها العربية والإنجليزية والفرنسية واليونانية والصينية، ويعود الكثير من هذه اللوحات الرخامية إلى شخصيات فنية شهيرة سجلوا نذورهم وشكرهم للقديسة تريز منتصف القرن الماضي، منهم الفنان عبد الحليم حافظ، والموسيقار محمد عبد الوهاب، والفنانة صباح، ونجاة الصغيرة.
ويقول الكاتب كمال زاخر لـ«المجلة» إن «حالة التدين الشعبي التي تجعل المصريين لا يفرقون بين المساجد والكنائس، أو الأولياء والقديسين، جاءت نتيجة ما يسمى بـ(تمْصير الأديان) بمعنى أن المسيحية عندما دخلت مصر أخذت الكثير من الطقوس الفرعونية وامتزجت بالثقافة المصرية الخاصة، حتى إن بعض الترانيم المسيحية مأخوذة من أناشيد فرعونية معروفة، ومنها على سبيل المثال نشيد الجنائز الفرعوني، حيث تم أخذ نفس اللحن الموسيقي مع تغيير في بعض الكلمات، وستجد نفس الأمر عند دخول الإسلام إلى مصر، فمن الروايات التاريخية الشهيرة أن الإمام الشافعي نشأ في العراق، وكان معروفا عنه تشدده في الفتاوى مقارنة بالأئمة الثلاثة (الإمام مالك وابن حنبل وأبو حنيفة)، وعقب قدومه إلى مصر حيث قضى نصف عمره الثاني بها، بدأت فتاواه تتخلى عن التشدد تأثرًا بالثقافة المصرية، حتى إن الكثير من الباحثين قسموا فتاوى الإمام الشافعي إلى مرحلتين، الأولى قبل قدومه إلى مصر، والثانية فتاواه المصرية، ففي المجمل تأثر الإسلام والمسيحية في مصر بفكرة التعددية المأخوذة من الدولة الفرعونية القديمة».
ويُشير زاخر إلى أن كل هذه المظاهر «تُشكل وصفة مصرية خاصة لمواجهة الأفكار المتطرفة، فلا يمكن لأحد أن يُقنع شخصًا يتقبل الآخر ولا يفرق بين الأولياء والقديسين ويذهب إلى الكنيسة والمسجد بأن يعتنق أفكارًا متطرفة، بل يكون هذا الشخص محصنًا بفكرة التعددية، ومن المشاهد اللافتة في الموالد الشعبية أنه في كثير من الأحيان يكون المنظمون هم أنفسهم، فمن يُنظم مولد السيدة هو نفسه من يُنظم مولد العذراء، والكثير ممن يقدمون الفقرات الفنية أو الباعة الذين يبيعون بضائع وحلوى سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين ستجدهم في كافة الموالد».
ويُقدم المصريون نذورهم للأولياء والقديسين لقضاء حاجات متنوعة تتعلق بأمور الحياة، فالطلاب والتلاميذ ينذرون النذور قبيل الامتحانات، والذين يتقدمون لوظيفة جديدة يفعلون الأمر نفسه، وتتسع الدائرة لتشمل ما يواجه الناس من مشكلات حياتية، فالنساء اللاتي تأخر إنجابهن يذهبن لأضرحة الأولياء والقديسين، ويوقدن الشموع طلبًا للبركة لتحقيق أمنية إنجاب الأطفال.
وتحولت شجرة مريم بحي المطرية (شرق القاهرة) التي يزيد عمرها على ألفي عام إلى منطقة سياحية جاذبة للزوار من كافة الجنسيات، وانتهت وزارة الآثار المصرية في يوليو (تموز) الجاري من أعمال التطوير التي بدأتها عقب وضع الشجرة على الخريطة السياحية رسميًا باعتبارها أحد أهم مسارات العائلة المُقدسة خلال رحلة هروبها إلى مصر، حيث اسْتظلّت بالشجرة السيدة مريم العذراء بصحبة طفلها يسوع المسيح.
وتتمتع الشجرة بمكانة خاصة لدى المصريين جميعًا، ويقصدها المسلمون والمسيحيون على السواء طلبًا للبركة، كما ارتبطت في الثقافة الشعبية بأنها أيضًا مقصد للنساء الباحثات عن الإنجاب، حيث يضم متحفها عددًا من القطع الأثرية التي تعود إلى العائلة المقدسة في القرن الأول الميلادي، منها حجر منحوت يقول مؤرخون إنه نفس الحجر الذي استخدمته السيدة العذراء في تحميم السيد المسيح، إضافة إلى الكثير من التماثيل والجداريات، وما زالت البئر التي استخدمت السيدة العذراء مياهها موجودة في مكانها.
ويقول رامي كامل مدير مؤسسة شباب ماسبيرو للتنمية وحقوق الإنسان لـ«المجلة»: «تَربيتُ على حب الأولياء، تمامًا كما تَربيتُ على حب القديسين، وقد كانت والدتي تعشق زيارة السيدة نفيسة والسيدة عائشة، وعندما كنا نُغضبها ونحن أطفال كانت تقول لنا (والله أكنس عليكم السيدة) وهو تعبير شعبي يستخدمه المسلمون كثيرًا، لذلك أذهب كثيرًا إلى السيدة زينب والحسين، فأنا أعشق تفاصيل هذه المزارات».
ويضيف كامل: «التردد على أضرحة الأولياء والقديسين حالة شعبية مصرية خاصة تؤرخ لقدم فكرة التعددية وقبول الآخر والتسامح، وهي وصفة مصرية ضاربة في جذور التاريخ تتحدى الأفكار المتطرفة بالقيم الإنسانية السامية المتأصلة في نفوس جموع المصريين».
ويصل الانصهار الثقافي مُتعدد المكونات إلى مداه عند المصريين بتعدد الروايات الشعبية عن بعض سكان الأضرحة، إذ تعتبرهم بعض الروايات قديسين مسيحيين، بينما هم أولياء مسلمون في روايات أخرى، فعلى الرغم من الشهرة الواسعة للقديس مارجرجس، إلا أن الكثير من المسلمين يطلقون عليه «سيدنا الخضر» وفق الروايات الشعبية.
وتتسع دلالات الخلط بين الأولياء والقديسين بالنسبة لسكان منطقة المعصرة القريبة من حي المعادي (جنوب القاهرة) حيث ضريح القديس برسوم العريان الذي يتمتع بشعبية كبيرة ومكانة خاصة لدى المصريين، ويُقبل على زيارته المسلمون والمسيحيون على السواء، غير أن سكان المنطقة من المسلمين يُطلقون عليه «الشيخ محمد العريان»، وهو ليس مجرد لقب، بل إن سكان الحي والأحياء المجاورة ينادونه بالفعل بهذا الاسم عند زيارة ضريحه داخل الكنيسة.