* تنفس اللبنانيون الصعداء جراء تبريد الأجواء وانعقاد مجلس الوزراء بعد انقطاع طويل من دون أن يسألوا أنفسهم ما الذي حصل بالفعل؟ كيف لهم أن يصعّدوا ويتهموا ويهاجموا بعضهم البعض ثم يعودوا إلى الاجتماع في بعبدا وكأن شيئاً لم يحصل؟
في العام 1991 من شهر سبتمبر (أيلول) وبعد 15 سنة ونيّف من اقتتال أهلي، انتهت الحرب اللبنانية «باجتياح» قوات حافظ الأسد المناطق التي قيل إن الإدارة الأميركية كانت رسمت حولها خطوطاً حمراء، منعتها من إخضاعها لسيطرتها. يومها أعلن قائد الجيش آنذاك ميشال عون استسلامه بعد أن كان هرب للسفارة الفرنسية تاركاً عائلته وراءه في بعبدا. قيل حينها إن الإدارة الأميركية أسقطت عن «المناطق الشرقية» الحصانة وأهدت لبنان للرئيس الأسد «كعربون شكر» لاشتراكه في عملية درع الصحراء.
هكذا طويت صفحة الحرب الأهلية الدامية التي حصدت أكثر من 150 ألف قتيل، وتركت ندوباً كبيرة في الاجتماع اللبناني لم تمحه سنين الإعمار والنهضة الاقتصادية التي تلتها.
لم يسع اللبنانيون حينها إلى فهم ما جرى خلال الحرب الأهلية ولم يفتشوا عن الأسباب التي دفعت إلى هذا الاقتتال الداخلي ولم يحاولوا مصارحة ومصالحة بعضهم البعض، بل ظلت الضغينة تتحكم بتفاعلهم اليومي، وظل الحقد الدفين يفتش عن مناسبة ليعبّر فيها عن نفسه.
بعد خروج الجيش السوري وعودت الجنرال عون من منفاه الباريسي وانتخابه رئيساً للجمهورية وانتصار محور «المقاومة» وسيطرة إيران على أربع عواصم عربية، أصبح الانتقام يستفحل بعلاقة الأقطاب اللبنانية، خاصة تلك التي تعتبر نفسها منتصرة، تحت ذرائع تطبيق القانون وإلى ما هنالك من مفاهيم لا تستقيم طبعا مع وجود «حزب الله».
محاولة تطويع الأخصام سياسياً بعد تسوية انتخاب عون من قبل فريق «المقاومة» بدأت مع تشكيل أولى حكومات عهده. فرض «حزب الله» إرادته أولا بمنع «القوات» اللبنانية بتسلم إحدى الوزارات السيادية التي كانت طالبت بها كوزارة الدفاع أو الداخلية، ثم بإجبار الرئيس الحريري تمثيل سنة 8 آذار، أخيرا بمنع وليد جنبلاط من تسمية الوزراء الثلاثة العائدين للطائفة الدرزية وفرض طلال أرسلان كشريك لجنبلاط في قرار الطائفة.
الجميع ارتضى لسبب أو لآخر إملاءات الحزب.
ظن الحزب أنه يستطيع وحليفه في قصر بعبدا أن يستمر بهذا النهج وأن يسحبه على التعيينات الإدارية المرتقبة في مؤسسات الدولة ووزاراتها وفي غيرها من أمور الحكم.
كان مستحيلا على وليد جنبلاط أن يذعن لإرادة «حزب الله» أكثر وأن يتنازل طوعيا عن دوره الذي منحه إياه النظام الطائفي اللبناني والذي يقتضي أن يقوم الزعيم باختيار من يراه مناسبا من أبناء طائفته لتولي وظيفة عامة ما في الدولة ومؤسساتها تعود إلى تلك الطائفة عرفا.
كان مستحيلا على جنبلاط القبول بالتنازل عن علة وجوده وإلغاء نفسه.
فكان رده على خطوة «حزب الله» ناريا ودمويا من خلال إطلاق مناصري جنبلاط النار على موكب الوزير غريب لحظة مروره في بلدة قبرشمون الدرزية ما أدى إلى استشهاد اثنين من مرافقي الوزير.
قامت الدنيا ولم تقعد، وطالب المحور المنتصر تحويل تلك الحادثة إلى المجلس العدلي كونها محاولة لاغتيال وزير من قبل الحزب الاشتراكي تمهيدا للإطباق على زعيم المختارة أو هكذا ظن البعض.
في النظام الطائفي الذي ارتضاه اللبنانيون لأنفسهم، إقصاء وليد جنبلاط وبالتالي إخضاع الطائفة الدرزية لمن يراه مناسبا «حزب الله» فرضه على الدروز غير قابل للتطبيق من دون عنف أو حتى حرب أهلية ما على غرار ما حصل في 7 مايو (أيار). فأغلب زعماء الطوائف الأخرى في البلد ستقف حتما مع جنبلاط خوفا من أن يطالها مصير مشابه إن هي تعرضت لغضب «حزب الله» وحليفها العوني. ناهيك أن محاولات إقصاء الزعماء أو تقليص نفوذهم سيعرض نظام المحاصصة الطائفية للاهتزاز ويغّير من قواعد اللعبة اللبنانية التي لم يحد عنها أي من زعماء الطوائف حتى في عزّ الحرب الأهلية.
هذه هي ببساطة الأسباب الموجبة التي دفعت جنبلاط إلى التصعيد بوجه من أراد الاعتداء على حقوقه في النظام الطائفي. ليس الموضوع موضوع حرية أو انتفاضة بوجه إيران أو استشعاراً بقرب حرب إسرائيلية على لبنان أو التحاقاً بمحور الرئيس ترامب في تأمين الملاحة البحرية في مضيق هرمز. الموضوع موضوع حصص وطوائف.
ثم هكذا بسحر ساحر وبعد بيان للسفارة الأميركية الذي «دعم المراجعة القضائية العادلة والشفافة، دون أي تدخل سياسي، ودون تأجيج النعرات الطائفية»، اجتمع آباء الجمهورية في قصر بعبدا وقرروا طي صفحة الماضي والإفراج عن اجتماعات الحكومة وتسيير أمور البلد
تنفس اللبنانيون الصعداء جراء تبريد الأجواء وانعقاد مجلس الوزراء بعد انقطاع طويل من دون أن يسألوا أنفسهم ما الذي حصل بالفعل؟ كيف يمكن أن يخاطر السياسيون بالسلم الأهلي، وكيف لهم أن يتجاهلوا الوضع الاقتصادي الصعب وأن يعطلوا التئام الحكومة على مدى شهر؟ كيف لهم أن يصعّدوا ويتهموا ويهاجموا بعضهم البعض ثم يعودوا إلى الاجتماع في بعبدا وكأن شيئاً لم يحصل؟ من أين كل السلاح والمسلحين في ظل «العهد القوي»؟ هل يتحمل هذا البلد خضّات من هذا النوع؟ وعلى من تقع المسؤولية؟
هذا كله لم يجر، وتقوقع اللبنانيون خلف زعمائهم السياسيين، ثم عادوا ودفنوا الأحقاد بانتظار حدث ما يخرجها من القمقم مجدداً.