* تعود العقلية المارونية القديمة الفاقدة للبرغماتية إلى الظهور مجدداً وبلباس «عوني» عوضًا عن «المارونية السياسية»، ما يعني أن الموارنة لم يتعلموا من التاريخ وما زالوا يجنحون للتمسك بـ«الطائفية» التي لم تجلب لهم غير المآسي والتهجير والهجرة
في علم السياسة تتقدم الدول باستخلاص تجارب الماضي الإيجابية والسلبية. أما في الحالة اللبنانية (من الصعب الحديث عن الدولة بمعناها المجرد كونها حصيلة اجتماع مكونات طائفية بحتة) فتراها تستعيد نفس الأخطاء وتكرر الوقوع في نفس التجارب بانتظار نتائج مختلفة.
بهذا المعنى يحضر راهن الطائفة المارونية في لبنان مرتبطًا بماضيها القريب الذي أفضى إلى خسارات متعددة جراء التصلب إزاء كل الوقائع السياسية والديموغرافية والجيوبوليتيكية، حتى ليبدو أن الغلبة من القائمين على شؤون الموارنة حاليًا، وكأنهم بصدد مقتلة جديدة تزيد الأمور ترديًا وتهالكًا، لا لشيء إلا جراء «وهم القوة».
قبل الحرب الأهلية اللبنانية وخلالها جرت محاولات كثيرة من قبل المبعوثين الغربيين، خاصة الأميركيين، لدفع زعماء الموارنة إلى تعديل دستور الجمهورية الأولى إثر الاستقلال عن الانتداب الفرنسي الذي كان لصالحهم بالكامل، إن من حيث مناصب الفئة الأولى في الدولة، أو لجهة رئاسة الجمهورية وما حازته من صلاحيات كان يبدو معها لبنان وكأنه نظام رئاسي أكثر من كونه نظامًا برلمانيًا ديمقراطيًا، ناهيك عن أن الغلبة العددية في مجلس النواب كانت لصالح المسيحيين على قاعدة 6 أعضاء لهم مقابل 5 للمسلمين.
هذا الواقع بدا آنذاك أنه قابل للصمود والاستمرار أولا بسبب الغلبة الديموغرافية، وثانيًا جراء «الخوف» الذي ساقه المسيحيون عمومًا والموارنة خصوصًا عن الخشية من ذوبان «الكيان اللبناني» في وحدة عربية أو إسلامية كتلك التي سادت جاذبيتها في أواخر خمسينات القرن الماضي.
كانت كل الأحداث التي عصفت بلبنان طائفية، وكيف لا يكون الأثر كذلك ونظامه قائم أساسا على الطائفية؟ من حلف بغداد إلى الناصرية إلى القضية الفلسطينية التي استحكمت بلبنان جراء ضعف الدولة المتأتي عن تناقض طوائفها وعجزها أيضًا عن إعادة النظر في «عدالة» الدستور والنظام السياسي.
هكذا راح لبنان ينتقل من أزمة إلى أخرى بتأثير من تناقض الطوائف وتناحرها، حتى كان العام 1975، إذ انفجر البلد من أقصاه إلى أقصاه تحت ضغط العوامل الداخلية التي تلاعب بها اللبنانيون وكانوا يختلفون حتى على تسمياتها، وكذلك تحت واقع الصراعات الإقليمية والدولية والتي عبّر عنها خير تعبير الراحل غسان تويني بوصفها «حروب الآخرين» في لبنان وعليه، إلى أن كان اتفاق الطائف في مطلع التسعينات.
مشكلة اتفاق الطائف أنه أنصف المسلمين في النظام وجعلهم شركاء حقيقيين في الوطن من دون أن يلغي مبدأ الطائفية التي عادت إلى البروز بشكل حاد مع حدثين: انسحاب الجيش السوري إثر اغتيال الرئيس الحريري عام 2005، وعودة الرئيس ميشال عون إلى لبنان من منفاه الفرنسي بالتنسيق مع النظام السوري وبرضاه.
هذه العودة بدت وفي مفاصل ومحطات تكاد تكون يومية وكأن الغاية منها التصدي لصعود الطائفة السنية التي ازداد عودها تصلبًا بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في شتاء العام 2005. فقد ذهب عون ومعه تياره بعيدًا في استهداف وريث الحريرية سعد الحريري الابن ومن ثم رموز الطائفة، كما هو الحال مع الرئيس فؤاد السنيورة على سبيل المثال، متهمًا هؤلاء حصرًا بنهب المال العام.
ومع بروز تنظيم داعش الإرهابي ظهرت مواقف عون وكأنها تخدم نظام بشار الأسد الأقلوي و«حزب الله» في مواجهة السنة الذين راح حضورهم يذوي شيئًا فشيئًا، حينًا بتأثير انقساماتهم الداخلية، وأحيانًا تحت وطأة غياب «الحاضن الإقليمي» العربي - الإسلامي.
هكذا استمر الحال منذ اغتيال الحريري، حيث استُنفذ النظام السياسي الذي بدا عاجزًا عن تجاوز الأزمات من دون «وصاية أو رعاية» تعكس توازن القوى إقليميًا، وأولى الندوب ظهرت مع «تسوية الدوحة» التي تجاوزت الدستور وكانت بتأثير «أحداث 7 أيار» عام 2008، يوم اجتاحت ميليشيات مسلحة موالية لسوريا ومعها «حزب الله» شوارع بيروت، رفضًا لميزان القوى الداخلي الذي كان في حاصله السياسي العام لصالح سنة لبنان.
وإذا كانت هذه التسوية قد منعت انفجارًا واتاحت انتخاب العماد ميشال سليمان، إلا أنها أدخلت أعرافًا «شبه دستورية» أتاحت ما يشبه «حق نقض» للطوائف بمواجهة بعضها البعض، وراحت الأزمات تتوالى حتى كان الفراغ الرئاسي وتمكن عون وحلفاؤه من تعطيل المؤسسات الدستورية باشتراط انتخابه الذي حصل بعد تسوية ظلت مبهمة.
التسوية التي قامت بين تيار المستقبل والتيار الوطني الحر وأدت إلى انتخاب عون رئيساً وتسمية سعد الحريري رئيسا للحكومة لم تبعد عون عن أهدافه المعلنة قبل التسوية في إضعاف الطائفة السنية.
كل أداء عون ومن حوله يذهب في هذا الاتجاه: من تأليف الحكومة إلى إقرار الموازنة ثم حادثة قبرشمون وإشكالية إحالتها إلى المجلس العدلي وصولا إلى التعيينات في وظائف الدولة. إذ إن عون وفريقه الوزاري يتصرفان على أنه رئيس ما قبل الطائف بصلاحيات مطلقة، مدعوماً دائماً من «حزب الله»، وحجته المطالبة «بحقوق المسيحيين».
ولحقوق المسيحيين في وجدانهم سردية أخرى يستحسن استخدامها التيار البرتقالي، حيث إن المتهم الرئيسي في تجريدهم من تلك الحقوق هو الطائف وعرّابه السني الرئيس رفيق الحريري. فكلما أراد عون وجماعته تمرير قرار أو تعيين أو أي شيء يتعلق بماهية الحكم، يسرعون إلى الكلام عن حقوق المسيحيين، لتجييش الشارع المسيحي أولا، ومن أجل إحراج وإرباك من يقف بوجه تلك الحقوق، أي رئاسة الحكومة والحريري الابن والطائفة السنية.
المقاربة العونية باتت مكشوفة على الملأ، إذ تستمد قوتها من اتفاق مع «مرشد الجمهورية اللبنانية» أمين عام «حزب الله» حسن نصر الله مقابل بعض من السلطة، طالما لا تتناقض أو تتعارض واستراتيجية إيران التوسعية. المشكلة بتلك المقاربة هي أن المسيحيين وبعد الحرب الأهلية قل كثيرهم، وإن كان حتى الساعة لا أحد يعيّرهم بهذا الأمر، فإنهم يتصرفون على أساس كونهم أكثرية ديموغرافية، وهذا ما يخالف الوقائع الدامغة ويعرض البلد إلى مغامرات سبق للبنانيين عمومًا وللموارنة خصوصًا أن خبروا مآسيها المريعة.
وأكثر ما يبرز هذا الأمر يكمن في موضوع التوظيفات الإدارية، إذ يطالب الموارنة بالمناصفة، علماً بأن الدستور ينص على ذلك في الفئة الأولى، بينما نص على الكفاءة في الفئات الأدنى. وإذ يفعلون ذلك فإنهم يهملون العدد الصغير من الموارنة الذين يتقدمون لملء الشواغر الوظيفية.
وما زاد الأمر تعقيدًا، هو انضمام رأس الكنيسة المارونية البطريرك بشارة الراعي لدعم مطلب عون وتوجهاته غير آبه بالارتدادات الطائفية والسياسية على مثل هكذا تعنت سياسي يفتقد إلى أي مبرر دستوري أو حقوقي، خصوصًا أن الدستور واضح وجلي جدًا في «تطييف» وظائف الفئة الأولى حصرًا، ناهيك بأن المسيحيين تراجع حضورهم الديموغرافي بشكل كبير جدا ومقلق على ما تظهره بعض الدراسات الجدية.
عليه تعود العقلية المارونية القديمة الفاقدة للبرغماتية إلى الظهور مجدداً وبلباس «عوني» عوضًا عن «المارونية السياسية»، ما يعني أن الموارنة لم يتعلموا من التاريخ وما زالوا يجنحون للتمسك بـ«الطائفية» التي لم تجلب لهم غير المآسي والتهجير والهجرة، مستندين بذلك إلى تحالف مع «حزب الله» في الشكل، لكنهم في المضمون يبدون، وتحديدًا العونيين منهم، أنهم أداة تؤدي وظائف تتراوح من المغامرة بلبنان وصولاً إلى الانخراط في تحالف أقليات تقوده جمهورية الملالي في طهران.
والحال إذا استمر على ما هو عليه، فإننا أمام مقتلة مارونية آتية عاجلاً أم آجلاً.