* الرئاسة الأميركية قد تفرض المزيد من العقوبات في إطار قانون مكافحة خصوم الولايات المتحدة الأجانب المعروف بـ«كاتسا».
* الموقف التركي والرد الأميركي، أوضحا أن التوترات بين البلدين لم تعد ذات طابع سجالي سياسي أو ترتبط بمحض المستوى الاقتصادي وتطوراته، وإنما باتت تطول الأبعاد العسكرية
* التطورات الدراماتيكية في العلاقات التركية-الأميركية، لم يحل دونها اللقاء الذي جمع بين الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، ونظيره الأميركي دونالد ترامب، على هامش اجتماعات مجموعة العشرين في اليابان مؤخراً
* وقف مشاركة تركيا في مشروع إنتاج طائرات «F-35» وبدء تسلمها منظومة الصواريخ «S-400» يشير إلى أن ثمة تحولات تشهدها تحالفات تركيا الخارجية
* منظومة «S-400» تُعبر عن بداية مرحلة مغايرة في علاقات تركيا الخارجية، وطبيعة نظرتها لأدوارها الإقليمية
* نددت أنقرة باستبعادها من برنامج تطوير «F-35» رداً على شرائها منظومة الدفاع الجوي الروسية ووصفت هذه الخطوة بـ«المجحفة وغير المبررة»
أنقرة: أقدمت تركيا على تنفيذ اتفاقها مع موسكو بشأن شراء منظومة «S-400»، حيث بدأت عملية التسلُم الفعلى للشحنات الأولى من المنظومة الصاروخية الروسية، والتي أثارت توترات غير محدودة في علاقات أنقرة مع واشنطن، التي أقدمت بدورها على إنهاء مشاركة تركيا في برنامج إنتاج طائرة الجيل الخامس F-35، لتطالب الطيارين الأتراك الذين يتدربون في الولايات المتحدة بضرورة المغادرة 31 يوليو (تموز) 2019. الموقف التركي والرد الأميركي، أوضحا أن التوترات بين البلدين لم تعد ذات طابع سجالي سياسي أو ترتبط بمحض المستوى الاقتصادي وتطوراته، وإنما باتت تطول الأبعاد العسكرية. فبموجب القرار الأميركي، لن تحصل أنقرة على مقاتلات الجيل الخامس الأميركية، كما أنها لن تُسهم في صناعة المئات من القطع التي تدخل في إنتاج الطائرة.
هذه التطورات الدراماتيكية في العلاقات التركية-الأميركية، لم يحل دونها اللقاء الذي جمع بين الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، ونظيره الأميركي دونالد ترامب، على هامش اجتماعات مجموعة العشرين في اليابان مؤخرا. كما أن هذه الإجراءات قد لا تكون سوى البداية. ذلك أن الرئاسة الأميركية قد تفرض المزيد من العقوبات في إطار قانون مكافحة خصوم الولايات المتحدة الأجانب المعروف بـ«كاتسا». ويتيح القانون الذي جرى تبنيه في عام 2017. للرئيس الأميركي أن يفرض خمس عقوبات من أصل 12 عقوبة، تتراوح بين حظر مبيعات التكنولوجيا المتقدمة والقيود المالية والدفاعية والمنع من دخول الولايات المتحدة.
إن وقف مشاركة تركيا في مشروع إنتاج طائرات «F-35» وبدء تسلمها منظومة الصواريخ «S-400» يشير إلى أن ثمة تحولات تشهدها تحالفات تركيا الخارجية. فهذه التحالفات لم تعد تتأسس على محض مواقف سياسية متقاربة حيال بعض القضايا، أو روابط اقتصادية تتصاعد على نحو طارئ، وإنما غدت تتعلق بمشروعات عسكرية لا تأتي منعزلة عما تعكسه من تحولات في بنية الفكر العسكري التركي وتبدلات يشهدها مفهوم الأمن القومي لدى القيادة التركية.
لذلك فإن منظومة «S-400» تُعبر عن بداية مرحلة مغايرة في علاقات تركيا الخارجية، وطبيعة نظرتها لأدوارها الإقليمية، وذلك مع بدء شحن منظومة الصواريخ الروسية إلى الأراضي التركية عبر البحر وتتضمن الأجزاء الأكثر حساسية، وعبر الشحن الجوي الذي يشمل الرادار وأنظمة الكشف بعيدة المدى ووحدات إدارة التحكم، وذلك من أجل تجميع منظومة الصواريخ المضادة للطائرات في تركيا. ومن المفترض أن يكتمل وصول مكونات المنظومة إلى أنقرة في يوليو 2019. وببلوغ العاشر من سبتمبر (أيلول) المقبل، من المقرر أن يكتمل تجميعها، على أن تدخل الخدمة القتالية، في ربيع العام المقبل.
منظومة «S-400»... حسابات أنقرة
تشير الأدبيات التركية إلى أن أنقرة طالما عانت من أوجه قصور فيما يخص قدرات الدفاع الجوي، ذلك أنها تقع في نطاق تهديدات الصواريخ الباليستية من دول الجوار الجغرافي، وتعاني من ذلك منذ ستينات القرن الخالي. ذلك أن أعضاء من «حلف وارسو» السابق، مثل بلغاريا أو الدول وريثة الاتحاد السوفياتي، ودول كالعراق وسوريا امتلكت هذه الصواريخ. وقد استخدمت سوريا هذه الصواريخ ضد إسرائيل في حرب السادس من أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973. وبدأت إيران والعراق الاستثمار في تقنيات هذه الصواريخ بشكل مكثف منذ ثمانينات القرن الماضي. وأطلق كلا البلدين الكثير من الصواريخ الباليستية التكتيكية على مدن الطرف الآخر في المرحلة الخاصة من الحرب المسماة «حرب المدن»، في الحرب الإيرانية-العراقية. وبدأ كلا البلدين تطوير صواريخهما الخاصة، من خلال استخدام صواريخ سكود كأساس، بدعم فني من دول، مثل روسيا، وكوريا الشمالية، وليبيا في النصف الثاني من الثمانينات.
وبعد عملية طويلة من تغيير العوامل العسكرية والسياسية والاقتصادية، قررت اللجنة التنفيذية لصناعة الدفاع التركية (SSiK) في 30 يونيو (حزيران) 2006 البدء في مشروع نظام الدفاع الجوي والصاروخي طويل المدى (T-LORAMIDS). وبتأسيس T-LORAMIDS، كان من المخطط أن يوفر 12 بطارية في أربع حزم من خلال الشراء المباشر. وكان الهدف من هذا المشروع بناء مظلة دفاعية ضد «التهديدات الجوية» (الطائرات، وصواريخ كروز، وما إلى ذلك) والقذائف الباليستية التكتيكية.
بعد نشر وثيقة طلب المعلومات (RfI) من قبل وكيل وزارة الدفاع للصناعات الدفاعية (SSM) في مارس (آذار) 2007، تم نشر طلب تقديم الاقتراحات في 8 أبريل (نيسان) 2009. وطبقًا لهذا الطلب، قدمت الشركات المرشحة عروضها في الأول من مارس 2010. وشاركت الشركة الصينية CPMIEC FD-2000، والشركات الأميركية Raytheon وLockheed في المنافسة مع نظام Patriot PAC III (صواريخ PAC II GEM-T-PAC III)، بالإضافة إلى الشركة الروسية Rosoboroneksport Antey 2500، والشركة المصنعة لصاروخ EUROSAM الفرنسي-الإيطالي SAMP-T (Aster 30 Block 1). وبعد فترة تقييم طويلة، بدأت مفاوضات العقد بين SSiK وشركة CPMIEC في 26 سبتمبر 2013.
بعد الإعلان عن اختيار الشركة الصينية لتنفيذ المشروع الدفاعي التركي، واجهت تركيا ضغوطًا دبلوماسية مكثفة من حلف الناتو. ارتبطت بانعدام إمكانية دمج نظام صيني في شبكة الدفاع الجوي التركية التي تم دمجها بالكامل في منظومات حلف الناتو، وجادلت تركيا بأنه سيتم دمج النظام، من خلال «خادم تكامل» يتم تطويره محليًا. من ناحية أخرى، عقد وكيل الوزارة- آنذاك- مراد بيار مؤتمرًا صحافيا في 3 أكتوبر 2013. حيث ذكر أن المناقصة المذكورة بدأت لتلبية احتياجات تركيا العاجلة، وكان من المخطط تطوير نظام دفاع جوي وطني طويل المدى على المدى البعيد.
وتم تعليق المشروع في صيف عام 2015 بعد مفاوضات طويلة الأمد، وتم إلغاؤه بموجب القرار الصادر في 13 نوفمبر (تشرين الثاني) 2015 بسبب الخلافات بين الجانبين التركي والصيني حول إمكانيات نقل التكنولوجيا إلى الجانب التركي. وقد بدأت المفاوضات بشأن شراء منظومة «S-400» مع روسيا في أكتوبر 2016. وتم توقيع مذكرة تفاهم في يوليو 2017. لتنتقل تركيا إلى مرحلة مختلفة بعد أن عمدت خلال السنوات الخالية على الاعتماد على بطاريات نظام الدفاع الجوي التابعة لحلف الناتو. وضمن هذا النطاق، تم نشر بطاريات صواريخ باتريوت في تركيا خلال حربي الخليج 1991 و2003. هذا إلى أن تحولت تركيا لتوظيف أنظمة الدفاع الجوي المحلية لتأمين وجودها العسكري على الساحة السورية، وقد أثبتت التجربة العملية محدودية قدراتها.
المنظومة الصاروخية... المحركات التركية
إن نظام الدفاع الجوي «S-400» يُعد نسخة الجيل الجديد من نظام الدفاع الجوي «S-300»، الذي بدأ تطويره في عام 1970. ولا تزال منظومة «S-400» تمثل المنظومة الأكثر حداثة وقوة في وحدات القوات الجوية الروسية. صواريخ كروز، والصواريخ الباليستية التكتيكية، والطائرات الشبح، وAWACS، والصمامات الإلكترونية تُعرف بأنها الأهداف الرئيسية لـ«S-400» التي بدأ تطويرها في عام 1980. وقد واجه المشروع عدة قضايا ومشكلات بسبب تفكك الاتحاد السوفياتي وتبع ذلك عوائق اقتصادية. وتم تنفيذ أول اختبار للنظام الصاروخي في عام 1999. وأول بطارية تم تشغيلها رسميًا كانت في عام 2007.
يُعد نظام «S-400» كنظام «S-300»، شبه محمول، حيث تحمل الشاحنات في النظام منصات مختلفة وسيارات إطلاق يتم نشرها وتركيبها في وضع مناسب لبدء التشغيل. والنظام يتكون من دمج هذه المنصات المختلفة في شبكة مراقبة قيادة الدفاع الجوي، لمشاركة البيانات المستهدفة التي يتم الحصول عليها. وقد أعلنت تركيا أنه لن يتم دمج نظام «S-400» في نظام الدفاع التابع للناتو، وسيتم استخدامه بشكل مستقل. بيد أن القرار الأميركي مثّل ضربة كبرى لمخططات تركية، بما دفع وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو إلى القول إن الشركاء في برنامج مقاتلات «F-35» لا يتفقون مع القرار الأميركي بتعليق مشاركة تركيا. وأضاف أن تركيا ستلبي احتياجاتها الدفاعية من مصادر أخرى إذا لم تسلمها واشنطن هذه المقاتلات.
وقد نددت أنقرة باستبعادها من برنامج تطوير «F-35» ردا على شرائها منظومة الدفاع الجوي الروسية ووصفت هذه الخطوة بـ«المجحفة وغير المبررة». وقالت وزارة الخارجية التركية، في بيان: ندعو الولايات المتحدة للعودة عن «هذا الخطأ» الذي سيؤدي إلى ضرر لا يمكن إصلاحه بعلاقاتنا الاستراتيجية.
وتخشى أنقرة أن يؤدي خضوعها لعقوبات أميركية جديدة إلى إلحاق أضرار كبيرة بعملتها الليرة التي هبطت بنحو 2 في المائة مباشرة مع بدء تسلم الشحنات الأولى من منظومة الدفاع الروسية. ويقدر إجمالي ما ستخسره تركيا، من جراء استبعادها من مشروع إنتاج المقاتلة الأميركية، بنحو 9 مليارات دولار، بحسب ما أعلنت وزارة الدفاع الأميركية. هذا فيما قال رئيس الصناعات الدفاعية بالرئاسة التركية إسماعيل دمير، إن بلاده ستواصل تقييم البدائل وإن جميع الخيارات مطروحة على الطاولة. وأضاف: «سددنا إلى الآن كافة المستحقات المتعلقة ببرنامج المقاتلات وأنجزنا واجباتنا بهذا الخصوص».
وفي هذا السياق ارتبطت محركات الموقف التركي بشأن البدء في عملية تسلم الشحنات الأولى من منظومة «S-400»، رغم التحذيرات الأميركية، بعدد من الاعتبارات، من أهمها إدراك نخبة الحكم التركي أن لديها «معضلة أمن» ترتبط بالاعتماد على القوى الغربية فيما يخص التعاطي مع القضية الأمنية سواء من خلال الشراكات العسكرية مع الولايات المتحدة أو العضوية في حلف الناتو، هذا في وقت تتصاعد فيه وتيرة ومستويات التباينات التركية مع شركائها الغربيين، بما جعل تعزيز الأمن التركي عبر استقدام منظومة دفاع صاروخية من دولة غير غربية (كروسيا أو الصين) أمرًا حيويًا في حسابات الحكم التركي، مستغلا أن هذه القضية كانت على الأجندة التركية العامة خلال الحرب العراقية–الإيرانية من عام 1980 إلى 1988، وحرب الخليج الثانية عام 2003.
وترتبط تقديرات تركيا في هذا الشأن بادعاء احتمالية تأثرها بالنزاعات والأزمات التي يعاني منها الشرق الأوسط، وأن الصفقة الصاروخية تأتي في إطار اتخاذ التدابير اللازمة لمواجهة التهديدات العسكرية المباشرة، وانطلاقا من ضرورات التحرك العسكري المسبق، طبقًا لمفهوم «معضلة الأمن» كأداة من أدوات السياسة الخارجية المهمة في منطقة الشرق الأوسط التي تزخر بحجم إنفاق كبير على التسليح. وقد أعلنت موسكو مؤخرا استعدادها لبيع طائرات مقاتلة إلى تركيا، وقال سيرغي شيمزوف، رئيس شركة «روستيخ» الحكومية، إن موسكو ستكون على استعداد لبيع طائراتها المقاتلة من طراز «SU-35» لتركيا إذا أعربت أنقرة عن «اهتمامها بشرائها».
ورغم الضغوط الأميركية، فإن تركيا حرصت على التأكيد على أن جميع دول الجوار الجغرافي تمتلك صواريخ باليستية وقذائف بحرية متقدمة، وأن حاجة تركيا الأمنية دفعتها منذ بداية تسعينات القرن الماضي لمحاولة شراء أنظمة دفاع جوي. هذا إلى أن تركزت جهودها على العمل على تطوير قدراتها الوطنية في هذا المجال. بيد أن افتقاد التكنولوجيا اللازمة دفع أنقرة إلى العمل على تطوير مبادراتها لشراء المنظومة الصاروخية. وترى القيادة التركية أن منظومة «S-400» تعد أحد أهم الأنظمة الموجهة للدفاع ضد الصواريخ البحرية والمركبات الجوية، وذلك وفق المعلومات النظرية التي يروجها منتج المنظومة (روسيا).
الرهان على موقف الرئيس ترامب
أظهر التمسك بتسلم المنظومة الروسية طبيعة الرهان التركي على أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي بدا، وفق الكثير من المواقف، مترددا بشأن فرض عقوبات صارمة على تركيا. وقد قال وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، إن الرئيس الأميركي «لا يريد فرض عقوبات على تركيا بسبب شرائها منظومة الصواريخ الروسية... لا نتوقع أن تتخذ الإدارة الأميركية مثل هذا الإجراء».
هذا فيما زعم الرئيس التركي أن نظيره الأميركي يتفهم موقف أنقرة ودوافعها، سيما بعدما أظهر ترامب بعض التعاطف مع موقف تركيا خلال الاجتماع بين الرئيسين في اليابان، هذا على الرغم من أن ترامب لم يستبعد احتمال فرض عقوبات. وقال الرئيس التركي أيضًا إنه إذا تم استبعاد تركيا من برنامج طائرات «F-35» فسوف تطلب تعويضًا عن أسطول الطائرات الذي طلبته بالفعل ودفعت في المقابل ما يربو على مليار دولار، مشددًا على أنه سيلجأ إلى التحكيم الدولي إذا رأى ذلك ضروريًا.
وفي هذا السياق، أشار آرون شتاين، مدير برنامج الشرق الأوسط بمعهد أبحاث السياسة الخارجية، إلى أن «التهديد بالتحكيم الدولي الذي لوح به إردوغان بعد إخراج أنقرة من مشروع F-35)) قائم منذ فترة طويلة ولكن على نحو غير علني». وقال شتاين لقد نظرت الولايات المتحدة بجدية في قضية استبعاد تركيا من برنامج «F-35» وتشعر أنها «في موقف يستند إلى القانون». وأشار إلى أن الولايات المتحدة «تُعد المالك الأول لجميع الطائرات التي يتم إنتاجها إلى حين يتم نقلها إلى الجهة المشترية، وتخضع كل عملية نقل للقانون الوطني». مضيفا: «في واقع الأمر لا تملك تركيا حججًا جيدة لدعم موقفها، لكن يمكنها اختبار نظريتها بشأن القضية إذا أرادت ذلك».
ويبدو أن أخطاء الحسابات التركية في هذا السياق تعلقت بأن ثمة موقف متشدد من قبل مجلس الأمن القومي وكذلك من قبل وزارة الدفاع الأميركية حيال الخطوة التركية، هذا إضافة إلى صعوبة التغلب على قوة الدفع في الكونغرس الساعية إلى فرض عقوبات شاملة على تركيا تشمل جوانب سياسية واقتصادية، وأن الدور الذي لعبه الرئيس ترامب في هذا الإطار ارتبط بتعطيل أو تأجيل فرض مزيد من العقوبات على تركيا.
على جانب آخر، فإن الكثير من الاتجاهات التركية تشير إلى أن الكثير من الخلافات مع الغرب قد دفعت أنقرة إلى التمسك بقرارها بشأن تسلم منظومة «S-400». وقد تعمقت التوترات بين تركيا والولايات المتحدة لأسباب متعددة خلال السنوات الخالية، وشمل ذلك أيضا علاقات تركيا مع دول حلف الناتو، وعلى الرغم من إعلان الحلف أن تسلم تركيا المنظومة الروسية لن يؤثر على عضويتها في الحلف، فإن الاتحاد الأوروبي قد أقدم مؤخرا على فرض عقوبات متنوعة على أنقرة بسبب عمليات التنقيب على الغاز في شرق المتوسط.
وقد قرر وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات على تركيا تضمنت إلغاء اجتماعات سياسية رفيعة المستوى، وخفض المخصصات المالية لتركيا، واقتطاع مبلغ 145.8 مليون دولار من مبالغ تابعة لصناديق أوروبية من المفترض أن تُعطى لتركيا خلال عام 2020، مع قيام البنك الأوروبي للاستثمار بمراجعة شروط تمويله لتركيا. وقللت تركيا من أهمية هذه العقوبات وقالت إنها لا تأخذها على محمل الجد، وإنها سترسل سفينة رابعة إلى شرق المتوسط للتنقيب قبالة سواحل قبرص.
وترتبط قضية الطاقة في تركيا ارتباطًا وثيقًا بمظلة الدفاع الجوي، وفق الحسابات التركية. وعلى الرغم من أنه من الصعب التنبؤ بما إذا كان شرق المتوسط، الذي أصبح من أهم المناطق على صعيد الجغرافيا الاستراتيجية خلال السنوات القليلة الماضية، سيشهد نزاعًا مسلحًا على المدى الطويل، فإن تركيا تعمل على تعزيز وضعها العسكري، سيما مع تضاعف استثمارات الكثير من دول شرق المتوسط في قدراتها البحرية خلال السنوات الأخيرة.
عدم فرض عقوبات شاملة... حسابات واشنطن
على الرغم من تعدد خيارات واشنطن بشأن فرض عقوبات متنوعة على تركيا تشمل جوانب سياسية وعسكرية واقتصادية، فإنها عمدت إلى اتباع استراتيجية العقوبات المتدرجة لاختبار مدى جدية العلاقات التركية–الروسية، وبهدف عدم دفع تركيا اضطراريا إلى تسريع وتيرة علاقاتها مع موسكو ودعم قدراتها العسكرية عبر المزيد من منظومات التسلح الروسية. كما تأسس ذلك على تفهم نمط الإدراك التركي للقدرة على التحرك في المناطق الرمادية في مساحات التوتر والصراع الروسي-الأميركي.
هذا الصراع إلى جانب التوترات التي تشهدها ساحات الجوار الجغرافي تُظهر حاجة القوى الغربية إلى موقع تركيا، وتبدو قاعدة إنجرليك، مركزية في هذا الإطار، كونها تكتسي بأهمية خاصة، ليس وحسب، بالنظر إلى محورية موقعها بالنسبة للعمليات العسكرية لحلف الناتو في الشرق الأوسط، وإنما أيضا لكونها أحد المواقع الخمسة المتقدمة التي نشرت فيها الولايات المتحدة قنابل نووية.
ومن منظور سياسي، فإن الولايات المتحدة لا تؤكد أو تنكر وجود أسلحة نووية في مواقع محددة. وقال جو سيرينسيون، رئيس صندوق بلاوشيرز، والذي يُعنى بسياسات التسلح النووي: «إن إردوغان حليف من حيث الشكل لا المضمون، ودخل حاليًا في علاقة عسكرية مع روسيا». ويقدر اتحاد العلماء الأميركيين أن الولايات المتحدة تحتفظ بنحو 50 قنبلة نووية من طراز ««B-61 في قاعدة إنجرليك الجوية.
وأوضح أيكان إرديمير، الخبير بالشأن التركي في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات: «إن هناك قلقًا متزايدًا في واشنطن بشأن مستقبل إنجرليك». ويضيف: «في الوقت الحالي، لا يبدو أن هناك قلقًا فوريًا على وجه التحديد بشأن الأسلحة النووية، ولكن هناك مناقشات مستمرة بين دوائر السياسة في واشنطن حول خيارات استخدام قواعد جوية بديلة لتلك القاعدة»، سيما بعد أن قامت تركيا بإعاقة الوصول إليها في عام 2016، بما ترتب عليه نقل ألمانيا طائراتها إلى الأردن. وقال إرديمير إن الولايات المتحدة بمقدورها أن تحذو حذوها. وأضاف: «يمكن أن تؤدي تلك الخطوة إلى نقل تدريجي للقوات الأميركية إلى قواعد أخرى في المنطقة، ولكن من المرجح أن تتضمن هذه العملية الأسلحة والعتاد العسكري التقليدي قبل مرحلة نقل الأسلحة النووية».
وفي هذا السياق، ثمة اتجاه يتشكك في مستقبل عضوية تركيا في حلف الناتو، ومن ضمن هؤلاء ضباط كبار سابقون في الجيش التركي، على غرار الأدميرال المتقاعد جيم غوردنيز، والذي أشار إلى أن الحلف دعم محاولة الانقلاب على حكومة العدالة والتنمية، وأن نجاح هذه المحاولة كان من شأنه أن «يفضي إلى إعلان استقلال كردستان، والحكم الذاتي للأكراد في جنوبي شرق الأناضول، وخسارة قبرص». ولفت غوردنيز إلى أنه على تركيا أن «تؤدي دورًا يسهم في تحقيق التوازن بين الأطلسي وأورآسيا»، معتبرًا أنه من الواضح أن الناتو لم يعد يخدم مصالح تركيا.
هذا فيما أعرب ماهر أونال، المتحدث باسم حزب العدالة والتنمية، عن انزعاج بلاده من اعتبار شرائها لمنظومة الصواريخ الروسية، يمثل تهديدًا لحلف الناتو. وأضاف: «نحن منزعجون من اعتبار أن عملية الشراء تشكل تهديدًا لحلف الناتو». وتابع: «هذا القرار اتخذته تركيا بشكل مستقل، وكان بإمكاننا شراء منظومة الدفاع الجوي من فرنسا، أو ألمانيا، أو الصين، إلا أننا بعد تقييم المفاوضات، قررنا شراءها من روسيا، لأننا حققنا الصفقة الأنسب معها».
ولن تتكامل منظومة الدفاع الصاروخي الروسية مع منظومات حلف الناتو. ولن يسمح الحلف بذلك. لهذا فإن منظومة «S-400» لن تفيد رادارات قاعدة كورجيك، بالإضافة إلى أنه لا يمكن التكامل مع منظومة معلومات الناتو المشتركة (لينك-16)، مما يعني أن قدرات وإمكانيات المنظومة ستظل ناقصة. أيضًا فيما يتعلق بالرادارات الوطنية التركية، فإن أغلبها، أو كلها، تعمل بـ«سوفت وير» وبرامج تشغيل وتكنولوجيا غربية تابعة للناتو.
وتشير تقديرات غربية إلى أن تركيا لن تستطيع الاستفادة من المنظومة الروسية وأن أنقرة قد تتحول إلى «منطقة مُعتمة» بالنسبة لرادارات حلف الناتو، التي لن تعمل بالتنسيق مع المنظومة الروسية، هذا في وقت تشير فيه التطورات على الأرض إلى أن معظم التهديدات القادمة لتركيا تأتي من منظومات تسلح روسية سواء طائرات أو منظومات صاروخية، وذلك على نحو قد يحد من فاعلية المنظومة التركية ويجعلها عديمة الجدوى.
هذا إضافة إلى أن الطرح المتعلق بأن العلاقات الجيدة مع روسيا سوف تسمح لأنقرة باستخدام منظومة «S-400» للدفاع ضد الدول التي تمتلك طائرات أو صواريخ روسية يحتاج لمزيد من التفكير، كما أن العلاقات الاستراتيجية بين روسيا وسوريا، والحرب التي كانت وشيكة قبل عامين بين أنقرة وموسكو، ستجعل من الصعب التفكير بأن الأخيرة ستزود الأولى بكافة قدرات منظومة «S-400». وتشير أدبيات إلى أن ثمة شكوك حيال فاعلية قدرات المنظومة الروسية على اعتراض ومواجهة الصواريخ الباليستية التي تأتي دون ارتفاع 20 كيلومترًا. هذا إضافة إلى إمكانية عدم قبول روسيا بنشر رادارات «S-400» قرب عمق المناطق الحدودية التركية مع إيران.
وبحسب وكالة «بلومبرغ» فإن عدم إعادة تصويب تركيا لسياساتها سيفضي في مرحلة لاحقة إلى تشديد العقوبات الأميركية لتشمل جوانب اقتصادية قد تتراوح بين خفض حجم قروض البنوك الأميركية إلى المؤسسات التركية، والعقوبات الأكثر قسوة، التي تتمثل في قطع الصلة مع النظام المالي الأميركي، وهذه «الخطوة من شأنها أن تحطم الاقتصاد التركي»، حسب الوكالة.
وعلى الرغم من أن التصريحات التركية تشير إلى أن صفقة شراء المنظومة الروسية تتضمن نقل التكنولوجيا غير أن الخبرة العملية توضح صعوبة ذلك، فروسيا لا تقوم بعمليات نقل تكنولوجيا تكون بطبيعتها محدودة سوى مع شركائها الآيديولوجيين والمهمين استراتيجيًا وجيوبوليتكيًا، كما أن افتراض قيام روسيا بنقل تكنولوجيا مهمة وحساسة إلى عضو في منظومة الناتو، يمثل افتراضا يجانبه الصواب. ذلك أن أغلب القوى الدولية الرئيسية لا تقوم بنقل تكنولوجيا حساسة، تراكمت بفعل عقود من التطوير إلى بلد آخر مقابل 3 إلى 5 مليارات دولار.
وحسب اتجاهات غربية، فعلى الرغم من وجود تعاون مشترك مع الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية إلى يومنا هذا لفترة تزيد على 70 عامًا، لا يمكن القول إنه حدث نقل لتكنولوجيا خارجية عالية، مثل إطارات وأجنحة الطائرات، والأسلحة العملياتية الخفيفة، مثل الحساسات ذات التكنولوجيا العالية، والرادارات، وغيرها. لذا، فعلى تركيا أن لا تأخذ قضية نقل التكنولوجيا الروسية على محمل الجد.