* العمالة الأجنبية السائبة التي دخلت عن طريق التسلل أو كسر تأشيرة الحج والعمرة، وكذلك متسولو الشوارع، جميعهم باتوا ظاهرة أقل حضورًا
* من مظاهر الهندسة الديموغرافية المرتبطة بقرار المقابل المالي، أن السعودية لم تعد ذلك البلد الذي يتيح للأجيال المقبلة من المقيمين سهولة الإقامة ما لم يتمتعوا بملاءة مالية مناسبة
* الاعتماد المفرط على الأيدي العاملة الأجنبية الرخيصة في المملكة وتحول تأشيرات العمل إلى تجارة رائجة، وكذلك سياسات دعم السلع والخدمات، جعلت من المملكة مركز جذب لملايين العمال غير المؤهلين
جدة:يلمس مواطنو المملكة والمقيمون فيها وزوارها، منذ أكثر من عام، خفوت مظاهر الكثافة السكانية الشديدة والاختناقات المرورية وحدة الطلب على الوحدات السكنية، وبالذات في المدن الكبرى. فقد قصرت مدد مشاوير الذهاب إلى العمل والمدارس في الاتجاهين، وصارت مراكز تقديم الخدمات أقل اكتظاظًا، وكذلك المدارس، الحكومية والأهلية والدولية.
العمالة الأجنبية السائبة التي دخلت عن طريق التسلل أو كسر تأشيرة الحج والعمرة، وكذلك متسولو الشوارع، جميعهم باتوا ظاهرة أقل حضورًا. كما أن عددًا لا يستهان به من المباني السكنية في المدن الكبرى والمتوسطة، يضع لافتة عليها عبارة «شقق للإيجار» مع خصومات تصل إلى ما بين 30في المائة و40 في المائة عما كان عليه الحال قبل 3 أعوام فقط!
ويقابل ذلك تدفقات بشرية هائلة أكثر من أي وقت مضى إلى المدن المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة واستثمارات هائلة في مشاريع البنية التحتية والقطاعات الخدمية السياحية، إلى جانب تفعيل خدمة التأشيرة السياحية «شارك» لزيادة عدد السياح عند شراء تذاكر المناسبات العالمية التي تقيمها المملكة. ويضاف إلى ذلك استقطاب النخب المالية من المقيمين داخل المملكة واستقطاب من يريد من الخارج تحت اسم «الإقامة المميزة».
فهل هناك هندسة ديموغرافية تحملها رؤية 2030؟ وما أبرز ملامحها؟
تقليص أعداد المقيمين
بدأت تأثيرات القرارات التي اتخذتها المملكة منتصف عام 2017 بفرض رسوم المرافق المالي ]ضرائب تصاعدية يدفعها المقيم عن كل فرد من عائلته تصل إلى ذروتها منتصف عام 2020 بواقع 400 ريال (106 دولارات) عن كل فرد شهريًا[وكذلك رسوم المقابل المالي ]ضرائب تصاعدية على شركات القطاع الخاص تصل إلى ذروتها مطلع عام 2020 بواقع 800 ريال (213دولارًا) عن كل عامل غير سعودي[، وذلك مع مغادرة نحو مليوني عامل في القطاع الخاص المملكة بتأشيرة خروج نهائي خلال عامي 2017 و2018. وإذا أضيفت إليهم عائلاتهم مع المغادرين من المقيمين غير الشرعيين عبر حملة وطن بلا مخالف البالغ عددهم 814 ألف شخص بنهاية مايو (أيار) الماضي، فإن العدد الإجمالي لمن تركوا البلاد بشكل نهائي يرتفع إلى نحو 3.6 مليون شخص، ليصل عدد المقيمين التقريبي إلى 9.6 مليون شخص بعد أن كان في حدود 12 مليونا قبل 5 سنوات تقريبًا (بحسب إحصاءات وتقديرات متنوعة المصادر). ومن المرتقب خروج المزيد من المقيمين من أصحاب الملاءة المالية المنخفضة أو أسرهم- على الأقل- خلال العام الجاري مع انتهاء موسم المدراس والعطلة الصيفية وموسم الحج، الذي يفضل جزء من المقيمين اختتام إقامتهم في السعودية به.
وفي نهاية المطاف، سيبقى من المقيمين مع عائلاتهم فقط أولئك القادرون على دفع رسوم المرافق المالي من أصحاب الملاءة المالية المتوسطة فما فوق، وهو ما يعني انخفاضا أكبر في أعداد المقيمين النظاميين على مدار السنوات المقبلة.
منافع وتداعيات
من مظاهر الهندسة الديموغرافية المرتبطة بقرار المقابل المالي، أن السعودية لم تعد ذلك البلد الذي يتيح للأجيال المقبلة من المقيمين سهولة الإقامة ما لم يتمتعوا بملاءة مالية مناسبة. فأعداد المقيمين ممن يمكنهم إنجاب الأطفال ويكتسبون حق الإقامة بحكم الولادة لأبوين مقيمين؛ ليكبروا ويدرسوا داخل المملكة أو خارجها، والدخول مجددًا إلى سوق العمل، ستتقلص من دون شك. هذه النقطة بالذات تحمل بصمات تلك الهندسة الديموغرافية للمستقبل، حيث تتحول المملكة إلى سوق عمل لمهارات محددة يحتاجها ذلك السوق من دون أن تصبح أرضًا للهجرة الدائمة للأجيال المقبلة من أبناء العاملين. وهذا الأمر بالذات يصب في صالح توفير المزيد من فرص العمل للمواطنين عبر سياسات التوطين والإحلال، وهو ما سيأتي ذكره لاحقًا.
كما ظهرت جوانب إيجابية بشكل سريع، تمثلت في خفض الضغط على البنية التحتية ومنتجات الطاقة، حيث سجلت الأخيرة استهلاكًا أقل بنسب متفاوتة، فقد انخفض استهلاك الديزل بنسبة 25.2 في المائة عام 2018 مقارنة بعام 2017. فيما سجل البنزين الممتاز تراجعًا بنسبة 17.6.
من جهة أخرى، فإن انخفاض الكتلة البشرية من المقيمين يخفض الطلب على السلع والوحدات العقارية ويؤدي إلى تسرب الكفاءات والثروات وهجرتها. فعلى سبيل المثال، ذكر تحليل نشر على موقع «دويتشه فيله» الألماني في فبراير (شباط) الماضي أن ألمانيا شهدت قدوم أعداد متزايدة من السوريين والفلسطيينيين واللبنانيين والمصريين من السعودية ودول الخليج الأخرى خلال السنوات الثلاث الماضية وأقاموا مئات المشاريع والشركات المتميزة. وأضاف التقرير وجود عدة معطيات إلى طلبات متزايدة من الخبرات والمهارات التي تنتمي إلى الجنسيات المذكورة للهجرة والعمل، الأمر الذي يساعدهم في ذلك حاجة سوق العمل الألماني إلى أكثر من مليون من العمالة الماهرة. فماذا يفكر صانع القرار السعودي للاحتفاظ بالثروات التي صنعت داخل البلاد وينبغي بقاؤها؟
إقامات مميزة للمقيمين الأثرياء
في 23 يونيو (حزيران) الماضي، بدأت المملكة استقبال طلبات الإقامة المميزة عبر بوابة «سابرك» saprc.gov.saالإلكترونية كترجمة فعلية لما أعلنه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، قبل نحو عامين حول نظام إقامة دائمة يشبه الغرين كارد الأميركي.
إنها التحرك الحقيقي الذي اتخذته الحكومة السعودية للاحتفاظ بالثروات التي يملكها المقيمون واجتذبت ثروات أخرى من الخارج. فالإقامة المميزة، التي تتيح لحاملها مزايا حرية التملك وممارسة النشاطات التجارية واستقدام العائلة واستخدام المرافق الحكومية المخصصة للسعوديين كالجامعات والمستشفيات ومسارات الجوازات ضمن المنافذ الجوية والبرية وغيرها.
وتنقسم الإقامة المميزة إلى قسمين: دائمة برسوم 800 ألف ريال (213ألف دولار) وسنوية برسوم 100 ألف ريال (26 ألف دولار) سنويًا. إن قيمة الرسوم تشير إلى أنها موجهة حصرًا إلى فئة الأثرياء وكبار الموظفين من ذوي الرواتب بالغة الضخامة، وهو أمر يصب في صالح إبقاء الثروات في الداخل السعودي ومنحها حيوية التحرك دون قيود.
لم يعرف بعد عدد الطلبات المقدمة ومتى سيبت الأمر في استحقاقها للمتقدمين بعد. ويشير ارتباط مركز الإقامة المميزة «سابرك» بمجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية إلى أمرين: أولهما تقليل الإجراءات البيروقراطية قدر الإمكان وكذلك وضع المركز كأولوية متقدمة في سبيل تحقيق أهداف رؤية 2030 بتعزيز الاستثمارات في البلاد.
تكثيف العمرة والسياحة
وصل إلى المملكة 7.44 مليون معتمر منذ بداية العام الهجري الحالي وحتى قبيل بدء موسم الحج الشهر الجاري (بحسب آخر تحديثات مؤشر العمرة الصادر عن وزارة الحج) مع هدف الوصول إلى 30 مليون معتمر بحلول عام 2030. ومن أجل إكساب تأشيرة العمرة طابعًا سياحيا تقليديًا، أصدر مجلس الوزراء مؤخرًا قرارًا بالسماح للمعتمرين بزيارة أي مدينة يشاءون في المملكة بعد أن كان مقيدًا بمنطقتي مكة المكرمة والمدينة المنورة، مما يفتح المجال للمعتمرين باستكشاف المملكة سياحيا وعدم اقتصار زيارتهم على أدء الشعائر الدينية.
كما وصل إلى السعودية العام الماضي نحو 6 ملايين سائح خليجي، منهم معتمرون، فيما أطلقت المملكة العام الماضي تأشيرة «شارك» sharek.saالمرتبطة بحدث أو مهرجان رياضي أو ترفيهي محدد مثل موسم جدة حاليًا أو شتاء طنطورة، والتي تتيح تدفق السياح الأجانب عبر تأشيرة إلكترونية يسهل الحصول عليها في 3 دقائق مع خصومات خاصة من الخطوط الجوية السعودية.
من ناحية اقتصادية بحتة، يمتاز المعتمرون والسياح بمعدلات إنفاق أعلى من المقيمين بالنظر إلى الفترة القصيرة التي يقضونها داخل المملكة. كما أنهم لا يسمح لهم بممارسة النشاطات التجارية، الأمر الذي يبعدهم عن أي منافسة في سوق العمل المحلية، إلى جانب تقوية الاقتصاد السياحي للبلاد.
النمو السكاني للسعوديين
تعاني السعودية من اختلالات ديموغرافية إلى حد ما من حيث نسب توزع المواطنين والمقيمين، لكنها ليست هائلة مثل جاراتها الخليجية، التي يشكل فيها الوافدون أغلبية بسيطة أو كبيرة. فنسبة المقيمين بالمملكة حاليًا تحوم حول 30 في المائة من السكان. وتقل هذه النسبة مع مغادرة المزيد من الوافدين البلاد، وهو أمر واقع بالفعل.
صحيح أن خصوبة المرأة السعودية تنخفض باستمرار من نحو 7.3 طفل في عقد السبعينات إلى ما بين 22 - 2.35طفل حاليًا (بحسب إحصائيات متنوعة مثل البنك الدولي وهيئة الإحصاء السعودية)، إلا أن السعودية تواجه نموًا سكانيًا كثيفًا، يقدر بنحو 600 ألف ولادة سنويًا (بحسب وزارة الصحة السعودية) أكثر من ثلثيها من السعوديين. كما تصدر الجامعات والكليات التقنية والمعاهد والمدارس الثانوية أكثر من 350 ألف باحثة وباحث جديد عن فرص العمل. ويزيد عبء إدارة هذا النمو السكاني عامًا بعد عام من حيث توفير المزيد من المساكن وفرص العمل ووحدات الرعاية الصحية والتعليمية وغيرها.
ويعتقد صانع القرار أن مغادرة الملايين من المقيمين، يهيئ الأرضية لمزيد من المواطنين لأخذ مكانهم، سيما أنه يترافق مع قرارات قصر بعض المهن على المواطنين والمواطنات دون غيرهم، وبالذات في المهن المتصلة بالإدارة والمبيعات وفرض المزيد من الرسوم على الشركات من أجل رفع تكلفة العامل الأجنبي لتفضيل العامل السعودي. وبالفعل، بدأت معدلات البطالة الإجمالية بالانخفاض التدريجي لتصل إلى 12.5 في المائة في الربع الأول من العام الجاري، بعد أن كانت 12.7 في المائة في الربع الأخير من عام 2017 بحسب آخر تقارير الهيئة العامة للإحصاء.
ونظرًا لاعتبارات دينية واجتماعية، ليس لدى السعودية سياسات إنجابية أو أخرى لتحديد النسل، لكن ارتفاع معدلات التعليم لدى الجنسين وتصاعد معدلات الوعي العام، إلى جانب تزايد تكاليف المعيشة وتنافسية سوق العمل، تساهم جميعًا في تصغير أحجام العائلات السعودية، مقارنة بما كان عليه الوضع في العقود السابقة.
ماذا بعد؟
إن عقودًا طويلة من الاعتماد المفرط على الأيدي العاملة الأجنبية الرخيصة في المملكة وتحول تأشيرات العمل إلى تجارة رائجة، وكذلك سياسات دعم السلع والخدمات، جعلت من المملكة مركز جذب لملايين العمال غير المؤهلين إلى سوق العمل أدى إلى نشوء قطاعات اقتصادية ومالية غير ذات قيمة مضافة للاقتصاد والمالية العامة. سوف يستغرق تصحيح اختلال السكان وسوق العمل وقتًا، سيما مع ظهور آثار تضخمية وتحديات كبيرة للقطاعات العقارية والاستهلاكية والتجارية، إلا أن الحكم الصحيح يكون من خلال النتائج النهائية، ولا شيء غيرها!