* تشكل هواوي بالفعل تهديدًا للأمن الأميركي، ولكن ليس هذا هو السبب الوحيد لهجوم واشنطن على الشركة، فهذه الإجراءات مناورة في معركة أكبر حول مستقبل العالم الرقمي
* اختارت إدارة ترامب مواجهة تنامي نفوذ الصين الرقمي بفك الترابط بين اقتصادي الولايات المتحدة والصين سريعًا. ربما يُبطئ هذا الانفصال من تقدم الصين على المدى القريب، ولكنه في النهاية سيقوي قبضة الصين على الأرجح
* في غضون أعوام قليلة، ربما تنظر واشنطن إلى الخلف وتدرك أن سياساتها لم تعطل التطور التكنولوجي الصيني ولكنها عجلت به
على مدار العام ونصف العام الماضيين، شنت إدارة ترامب حملة استثنائية ضد شركة الاتصالات الصينية العملاقة هواوي، تضمنت اتهامات جنائية وعقوبات تجارية وضغوط دبلوماسية على أصدقاء الولايات المتحدة وحلفائها. وفي شهر مايو (أيار)، زادت الإدارة من التصعيد، إذ وقّع الرئيس دونالد ترامب قرارًا تنفيذيًا بمنع الشركات الأميركية من استخدام معدات وخدمات تصنعها شركات تسيطر عليها «حكومات معادية». وعلى الرغم من أن القرار لم يذكر هواوي أو الصين بالاسم، فقد كان من الواضح أنه يستهدفهما على نحو مباشر.
في اليوم ذاته الذي وقّع فيه ترامب القرار، وضعت وزارة الخارجية هواوي و68 من الشركات التابعة لها على قائمة الشركات التي لا يجوز للشركات الأميركية أن تبيع لها مكونات دون موافقة الحكومة. وسوف تعاني هواوي من تبعات الإدراج على هذه القائمة أكثر مما ستعانيه بموجب القرار الرئاسي. وعلى الفور توقفت أربع شركات تكنولوجيا أميركية - برودكوم، وإنتل، وكوالكوم، وزيلينكس – عن العمل مع هواوي، وأعلنت «غوغل» أنها لن تمد الهواتف الذكية التي تنتجها هواوي بأنظمة تشغيل أندرويد. وعلى الرغم من أن وزارة التجارة أوقفت الحظر فيما بعد لمدة 90 يومًا، فإن مستقبل هواوي لا يزال غامضًا. وفي حدث أقيم في مقر الشركة في شنغن، صرح مؤسس هواوي رن تشانغ فاي بأنه يتوقع تراجع الأرباح بمبلغ 30 مليار دولار على مدار العامين المقبلين بسبب الإجراءات الأميركية، بعد أن وصلت الأرباح السنوية في عام 2018 إلى 107 مليارات دولار.
تشكل هواوي بالفعل تهديدًا للأمن الأميركي، ولكن ليس هذا هو السبب الوحيد لهجوم واشنطن على الشركة، فهذه الإجراءات مناورة في معركة أكبر حول مستقبل العالم الرقمي. وكان وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو قد صرح بمثل هذا الأمر في خطاب ألقاه في مايو 2019 في لندن، حيث حذر مضيفيه من أن استخدام تكنولوجيا هواوي في شبكات الجيل الخامس البريطانية يمكن أن يسمح للصين بالوصول إلى بيانات ثمينة، بل وكذلك «السيطرة على إنترنت المستقبل»، ومن المحتمل «أن تفرق بين الحلفاء الغربيين عن طريق البِتات والبايتات».
إن البيت الأبيض محق في التركيز على المنافسة التكنولوجية مع الصين. وكما كتبت في هذه المجلة في العام الماضي، تجتهد الصين في سعيها لإعادة تشكيل المجال السيبراني وفقًا لصورتها الخاصة، باستخدام لوائح داخلية وابتكار تكنولوجي وشركات ذات طراز عالمي ودبلوماسية أجنبية. إذا نجحت ستكون شبكة الإنترنت أقل عالمية وأقل انفتاحًا، وسوف تؤمِن بكين منافع اقتصادية ودبلوماسية وأمنية واستخباراتية كانت في السابق تتدفق إلى واشنطن. ولكن لا يتسم نهج إدارة ترامب في معالجة هذه المشكلة بالفاعلية المطلوبة، حيث لا يزال أغلب العالم غير مقتنع بأن المخاطر الأمنية لاستخدام معدات هواوي تتجاوز الفوائد الاقتصادية. ويخاطر تأكيد الإدارة على فك الارتباط الثنائي بين النظامين العلمي والتكنولوجي الأميركي والصيني بإبطاء الابتكار الأميركي وتعجيل خطط الصين للاستقلال التكنولوجي.
توجد وسائل أفضل لإبطاء صعود الصين التكنولوجي، ويمكنها أن تتضمن بسط النفوذ الأميركي وتعزيز الابتكار في البلاد. وبدلاً من محاولة لي ذراع دول أخرى كي تتخلى عن هواوي، يجب أن تقدم لهم الولايات المتحدة بدائل تستطيع أن تنافسها فيما يتعلق بالسعر والكفاءة. يجب أن تعمل واشنطن مع حكومات حليفة من أجل تحسين الأمن السيبراني. ويجب عليها أيضًا أن تستثمر في الأبحاث من أجل إتقان كل من تكنولوجيا الجيل الخامس وما سيأتي بعدها.
شبكات المستقبل
تحمل شبكات الجيل الخامس إمكانيات ستجعلها بالغة الأهمية. بموجب المواصفات التي وضعها الاتحاد الدولي للاتصالات، سوف تنقل بيانات يصل حجمها إلى 20 غيغابايت في الثانية وزمن استجابة يقل عن ملي ثانية. وسوف يتمكن المستخدمون من تحميل أفلام في ثوانٍ قليلة، وستتمكن السيارات ذاتية القيادة من اتخاذ قرارات يدعمها الذكاء الصناعي عبر اتصال ثابت مع خوادم سحابية، وسوف يستخدم المزارعون طائرات درون، وأقمارا صناعية لمعرفة الطقس، وأجهزة استشعار للأراضي والمحاصيل والماشية، ومعدات للري والتغذية والتخصيب بكفاءة واستدامة أكبر. وسوف تجني البلدان التي ستنشر خدمات الجيل الخامس أولاً فوائد اقتصادية وأمنية كبرى.
ولكن سوف تجلب التكنولوجيا تهديدات جديدة كذلك. تدفع الحكومة الأميركية بأن طبيعة شبكات الجيل الخامس لن تجعل تدخل هواوي فيها آمنا على الإطلاق، نظرًا للصلات الوثيقة التي تربط الشركة بالحكومة الصينية. وسيتم نقل بيانات كثيرة للغاية عبر شبكات الجيل الخامس ما سيجعل الممارسات الأمنية المستخدمة في شبكات الجيلين الثالث والرابع – مثل فصل المكونات الأساسية عن الهامشية، مما يُبعد المزودين غير الموثوقين عن الشبكات المهمة – غير ناجحة. وعلى عكس الشبكات السابقة، سوف تقدم جهة التصنيع تيارا من تحديثات البرامج أسرع مما يستطيع المراقبون التحقق منها.
وهكذا تتطلب بنية نظام تكنولوجيا الجيل الخامس من المستخدمين أن يثقوا في مقدم الخدمة. ويدفع مسؤولون أميركيون بأن مثل هذه الثقة مستحيلة عندما يستطيع الحزب الشيوعي الصيني أن يطلب الوصول إلى البيانات من هواوي أو يأمرها بإيقاف الخدمة. وكما قال بومبيو للحضور في لندن: «بموجب القانون الصيني، يمكن أن يحق للحكومة طلب الوصول إلى البيانات التي تتدفق عبر أنظمة هواوي». وتشير واشنطن إلى اتهامات تزعم أن كبير المسؤولين الماليين في هواوي ارتكب احتيالاً محاسبيًا وانتهك عقوبات مفروضة على إيران، وأن الشركة سرقت أسرارًا تجارية، كدليل آخر على عدم جدارتها بالثقة. (مع أن الولايات المتحدة لم تقدم أي دليل علني على أن هواوي صممت عن قصد أبوابا خلفية أو ثغرات في معداتها).
ومن جهتهم، ينفي مسؤولو هواوي بشدة أنهم يدينون للحكومة الصينية. ولدى سؤاله عما إذا كانت الشركة قد أعطت من قبل بيانات للسلطات الصينية، صرح رن لشبكة «سي بي إس نيوز» قائلاً: «على مدار الأعوام الثلاثين الماضية، لم نفعل ذلك مطلقًا، وفي الأعوام الثلاثين المقبلة لن نفعل ذلك أبدًا». ونظرًا للسلطة المطلقة التي يملكها الحزب الشيوعي في الصين، من الصعب تصديق مثل هذه التطمينات. ولكن لم تحقق الولايات المتحدة نجاحًا كبيرًا في إقناع حلفائها بالمخاطر التي تشكلها هواوي. وكانت أستراليا واليابان قد حظرتا الشركة، ولكن أعلنت دول أخرى كثيرة في أوروبا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط وجنوب شرقي آسيا أنها سوف تستمر في استخدامها.
تأتي الضربة الأكبر للجهود الأميركية من فرنسا وألمانيا وبريطانيا، حيث يبدو أن هذه الدول توصلت إلى أنها تستطيع الحد من مخاطر استخدام منتجات هواوي عن طريق الاستعانة ببائعين مختلفين إلى جانب معدات هواوي، وإبعاد هواوي عن الشبكات الأكثر حساسية، والاستمرار في مراقبة الشبكات، وتصميم شبكات مكررة تتسم بالمرونة حتى إذا تعرضت معدات هواوي للخطر لم يسقط النظام بأكمله. ومن المرجح أن تستخدم دول أخرى هذه القرارات كغطاء لتحدي واشنطن، إذا هددت إدارة ترامب بمنع التبادل الاستخباراتي إذا واصلت باريس وبرلين ولندن في طريقها.
يرجع أحد أسباب التردد في التخلي عن هواوي إلى أسباب تتعلق بالاقتصاد. عن طريق المساعدات الحكومية، وتاريخ من الابتكار وحصة أغلبية مضمونة في السوق المحلي الصيني، تستطيع هواوي تقديم خدماتها ومنتجاتها بأسعار أقل كثيرًا مما يقدمه منافسوها الأوروبيون، إريكسون ونوكيا. (ولا توجد شركات أميركية تصنع معدات لنقل الإشارات بين الهواتف النقالة والأبراج أو المواقع التي تشكل شبكة الجيل الخامس.) علاوة على ذلك، لا تثق شركات كثيرة بالكامل في الولايات المتحدة. وكان ترامب قد فرض عقوبات مشابهة على «زد تي إيه» في أبريل (نيسان) من العام الماضي، ليرفعها بعد ذلك بثلاثة أشهر. وفي اجتماع مع الرئيس الصيني شي جين بينغ في أثناء قمة الدول العشرين التي عقدت في يونيو (حزيران) 2019. أعلن ترامب أن الشركات الأميركية يمكن أن تبيع منتجاتها إلى هواوي طالما أن الصفقات لا تشكل «مشكلة طوارئ وطنية كبرى». وفي الأسبوع الحالي، أعلنت وزارة التجارة الأميركية أنها سوف تصدر تراخيص للشركات لبيع سلع إلى هواوي عندما لا يوجد تهديد للأمن الوطني. واستنتجت الحكومات الأجنبية أن إدارة ترامب تبالغ في وصف مخاطر التعامل التجاري مع هواوي من أجل الفوز بامتيازات تجارية، ويخشون من حظر الشركة حتى لا يتعرضوا لانتقام من بكين بعد أن تصل واشنطن إلى صفقة نهائية.
كما تبدو تحذيرات واشنطن من التجسس الصيني مثيرة للتهكم في أعقاب ما تم الكشف عنه في عام 2013 على يد إدوارد سنودن المتعاقد السابق مع وكالة الأمن القومي الأميركية من أن الوكالة استغلت شركات التكنولوجيا الأميركية للتجسس على مواطنين وحكومات أجنبية. وكما هو مُعتقد، تتوقع حكومات كثيرة أن تتجسس بكين وواشنطن عليها، فلماذا لا تستفيد أيضًا من التكنولوجيا الصينية زهيدة التكلفة. أو كما قال رئيس الوزراء الماليزي مهاتير محمد في شهر مايو الماضي، عندما أعلن أن بلاده ستستخدم معدات هواوي قدر الإمكان: «نعم ربما يكون هناك بعض التجسس، ولكن ما الذي سيتجسسون عليه في ماليزيا؟ نحن كالكتاب المفتوح».
إن قرار وضع هواوي على قائمة وزارة الخارجية هو محاولة للالتفاف على الحكومات الأجنبية والتوجه مباشرة إلى المستهلكين. حتى إذا قرر المسؤولون إمكانية التعامل مع المخاطر الأمنية، من المستبعد أن تستخدم شركات الاتصالات معدات هواوي طالما أن وصول الشركة لمكونات أميركية لا يزال محل شك.
هواوي أو الطريق السريع
ظهرت إحدى نتائج حظر هواوي بالفعل: سوف تضاعف الصين من سرعة مسيرتها نحو الاستقلال التكنولوجي. حذر شي جين بينغ في خطاب ألقاه بعد قرار ترامب التنفيذي قائلاً: «إذا امتلكنا حقوق الملكية الفكرية والتكنولوجيا الأساسية الخاصة بنا، فسوف نتمكن من إصدار منتجات ذات ميزة تنافسة أساسية ولن ننهزم في المنافسة المشتعلة». تفتتح هواوي معهدا لأبحاث العلوم والتكنولوجيا، والذي سوف تستثمر فيه 300 مليون دولار أميركي في الأعوام الخمسة إلى العشرة المقبلة، وأعلنت وزارة المالية الصينية أخيرًا تخفيضات جديدة على الضرائب لدعم صناعات أشباه الموصلات والبرمجيات.
على المدى البعيد، يمكن أن يقوض حظر هواوي الاتصالات في أفريقيا وأميركا اللاتينية وأوروبا وشمال شرقي آسيا ويؤخر تقديم تكنولوجيا الجيل الخامس إلى العالم لعدة أعوام. ومن المؤكد أن الشركات الأميركية سوف تعاني؛ حيث أعلنت هواوي أن نحو 1200 شركة أميركية تؤدي دورًا في سلسلة توريدها؛ وسوف يكون الحظر مؤلمًا على نحو خاص للشركات التي تنتج أشباه الموصلات والأدوات المطلوبة لتصميم الدوائر المدمجة. وربما تقع أعداد أكبر من الشركات ضحايا إذا قررت بكين الانتقام. وفي نهاية شهر مايو الماضي، أعلنت الحكومة الصينية أنها ستضع «قائمة بالكيانات غير الموثوق بها» من شركات وأفراد أجانب، وسوف تعلن عن إجراءات محددة ضدها في المستقبل. قد تؤدي مثل تلك العقوبات على شركات أميركية إلى تحفيز حكومات أخرى على إقامة صناعاتها الخاصة في مجالات مثل أشباه الموصلات، والتي تتفوق فيها أميركا في الوقت الراهن.
إن أميركا محقة في شعورها بالقلق بشأن طموحات الصين التكنولوجية. ولكن من أجل النجاح في مواجهتها، يجب أن تدرك واشنطن أن صناع السياسات في أفريقيا وأوروبا وأميركا اللاتينية يجرون حسابات عقلانية في تبنيهم لتكنولوجيا اتصالات هواوي. وبالنسبة لبلدان كثيرة، تتفوق فوائد الجيل الخامس السريع وزهيد الثمن على الخطر الأمني الذي تشكله هواوي. وإذا رغبت واشنطن في تغيير هذه الحسابات، سيكون عليها أن تقدم لأصدقائها وحلفائها بديلاً مادياً فعالاً، ربما عن طريق الاستعانة بقروض من مؤسسة التمويل الإنمائي الدولي الأميركية لتمويل معدات إريكسون ونوكيا. وفي ظل الافتراض بأن الشبكات التي يسيطر عليها موردون صينيون مُعرضة لمخاطر الهجمات السيبرانية، يجب أن تعمل الولايات المتحدة مع حلفائها لتقوية شبكاتها ضد هجمات سيبرانية من الصين ودول أخرى، ولتطوير معايير مشتركة لمراقبة ونشر معدات الجيل الخامس فيما يشبه البيان المشترك الذي أصدرته ثلاثون دولة في براغ في مايو الماضي.
وإلى جانب مساعيها في الخارج، يجب على الولايات المتحدة أن تستثمر في الأبحاث والتطوير في الداخل. فيجب أن يُمول الكونغرس مراكز أبحاث وتطوير الجيل الخامس في الجامعات للتركيز على الأمن والتخزين والحوسبة وهي المجالات التي تمتلك الولايات المتحدة فيها ميزة تنافسية. ويجب أن تشجع هذه المراكز على البدء في أبحاث الجيل السادس التي من المرجح أن تحل محل تكنولوجيا الجيل الخامس بعد نحو خمسة عشر عامًا من الآن.
اختارت إدارة ترامب مواجهة تنامي نفوذ الصين الرقمي بفك الترابط بين اقتصادي الولايات المتحدة والصين سريعًا. ربما يُبطئ هذا الانفصال من تقدم الصين على المدى القريب، ولكنه في النهاية سيقوي قبضة الصين على الأرجح. وفي غضون أعوام قليلة، ربما تنظر واشنطن إلى الخلف وتدرك أن سياساتها لم تعطل التطور التكنولوجي الصيني ولكنها عجلت به.
* فورين آفيرز