* بدأ النفوذ النظام الإيراني يكبر في المنطقة بعد أن تحرر من عدوه اللدود صدام حسين الرئيس العراقي، ليصبح مع انسحاب الجيش السوري من لبنان واندلاع الحروب الأهلية في المنطقة هو الأقوى بلا منازع، مسيطرا على أربع عواصم عربية من خلال الشيعة الذين استثمر فيهم.
انتهت الحرب الأهلية اللبنانية على مستجدات كثيرة. في الداخل انتهت بسيطرة القوات السورية لنظام حافظ الأسد على كامل الأراضي اللبنانية، وبتعديل الدستور وانتقال معظم صلاحيات رئيس الجمهورية الماروني إلى مجلس الوزراء مجتمعا.
عالميا كان لانهيار الاتحاد السوفياتي تداعيات كبرى جعلت الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة في العالم. لاحظ يومها العلامة محمد حسين فضل الله أن الأميركيين لم يعودوا بحاجة لوسطاء من أجل التواصل مع الآخرين بسبب الحرب الباردة. وهو اعتقد يومها أن أحد أهم أسباب تراجع دور الموارنة في لبنان يعود إلى انهيار المنظومة السوفياتية.
على كل الأحوال أصبح «اليانكي المنتصر» يتكلم مباشرة مع كل أنظمة العالم. هكذا تواصل مباشرة مع الرئيس حافظ الأسد آملا الوصول إلى سلام بينه وبين إسرائيل على غرار مصر والأردن. المفاوضات والتي كتب عنها فاروق الشرع في مذكراته «الرواية المفقودة» تقاطعت إلى حد كبير مع مذكرات دنيس روس المبعوث الخاص للرئيس كلينتون لـ«الشرق الأوسط» عن تلك الفترة أيضا في «السلام المفقود».
الشأن اللبناني الذي شبهه الشرع بـ«صداع الرأس» كان ورقة في يد الأسد التفاوضية. طبعا مشاركة الأسد بحرب الخليج الثانية بقيادة أميركا أعطته إلى حد التفرد حرية التصرف بالشأن اللبناني. حينها كان الأميركي متساهلا مع الأسد علّه يوقع اتفاقية سلام مع إسرائيل.
أصبح لبنان تحت الوصاية السورية قانونيا مع اتفاق الطائف وبرضا الجميع، عربيا ودوليا.
عرف الأسد كيف يتعامل مع الخصوصيات اللبنانية وأرسى استقرارا سياسيا ونظاما مخابراتيا أمسك بزمام الأمور بيد من حديد.
أما علاقات الافرقاء اللبنانيين الإقليمية فكانت تمّر حكما بالرئيس حافظ الأسد، وبالتالي نفوذ تلك البلاد الإقليمية في الداخل اللبناني ومطالبها كانت عنده وله.
عرف لبنان نهضة اقتصادية وإعمارا قاده الرئيس رفيق الحريري بدعم سعودي كبير عكرته «عناقيد العضب» الإسرائيلية، وأنتجت هذه النهضة «تفاهم نيسان» وعدلت من قواعد الصراع بين «حزب الله» وإسرائيل، حيث حيّد لبنان عن المعارك التي حصرها الاتفاق بمواقع القتال.
مناوشات الساسة اللبنانيين اليومية كانت تحل «بعنجر» وبأمر من حاكمها غازي كنعان ولاحقا رستم غرالي المالكين لكل وسائل الإقناع.
هذا كان قبل 11 سبتمبر (أيلول) المشؤوم وقبل اجتياح الأميركيين للعراق وأفغانستان وقبل موت حافظ الأسد.
بعد تلك الأحداث تغيرت الدينامية السياسية الإقليمية بشكل كبير.
بدأ النفوذ النظام الإيراني يكبر في المنطقة بعد أن تحرر من عدوه اللدود صدام حسين الرئيس العراقي، ليصبح مع انسحاب الجيش السوري من لبنان واندلاع الحروب الأهلية في المنطقة خاصة سوريا الأقوى بلا منازع، مسيطرا على أربع عواصم عربية من خلال الشيعة الذين استثمر فيهم النظام ودائمًا بحجة تحرير القدس وإزالة إسرائيل من الوجود.
تلك السيطرة على لبنان أقله لم تنتج استقرارا أمنيا أو حتى سياسيا. من حرب «نهر البارد» إلى حرب يوليو (تموز) إلى احتلال وسط بيروت ومحاصرة الرئيس السنيورة في السراي على مدى عامين إلى 7 مايو (أيار)، وبين هذا وذاك عمليات خطف واغتيالات، سلسلة أحداث تؤكد أن لبنان فاقد للتوازن الذي أرساه الرئيس السوري حافظ الأسد.
هذا على الصعيد الأمني، أما على الصعيد السياسي فلبنان عرف الفراغ الرئاسي الذي امتد قرابة السنتين وتمديد دورتين لمجلس النواب لاستحالة تنظيم الانتخابات، وتعطيل العمل الحكومي على أيام الرئيس تمام سلام.
أما على الصعيد الاقتصادي فالأرقام التي تقدم بها حاكم مصرف لبنان الأستاذ رياض في حديثه الأخير لوكالة «رويترز» تلخص تراكم الفشل الاقتصادي للسنين الماضية: «النمو صفر في المائة والتحويلات التي يتّكل عليها الاقتصاد اللبناني تراجعت من 9 مليارات دولار سنويا إلى 7 مليارات». هذا ناهيك عن العقوبات الأميركية على «حزب الله» ورجال أعماله وكل ما يمت له بصلة، إضافة إلى الرقابة الصارمة المفروضة من قبل الخزانة الأميركية على عمل المصارف اللبنانية، مما ينهك ويصعب وصول وانتقال الأموال من وإلى لبنان.
سيطرة إيران على لبنان من خلال «حزب الله» لا تحظى بغطاء إقليمي أو حتى دولي كالذي حصل عليه الأسد الأب. بل على عكس ذلك، فحزب الله يواجه معارضة من دول إقليمية نافذة لا سيما إسرائيل والمملكة العربية السعودية. وهو غارق في حرب مذهبية في سوريا والعراق واليمن. وحساباته السياسية في الداخل اللبناني مرتبطة مباشرة بهذا الصراع. لذا تراه يحاول إقصاء خصومه السياسيين كما هو حاصل مع وليد جنبلاط قبل أيام، والذي كاد أن يفجر السلم الأهلي بعد أن عمد أهالي الشوف إلى تسكير الطرقات بوجه باسيل لمنعه من زيارة بلداتهم، ما أنتج تشنجاً وإطلاق نار، على موكب وزير المهجرين، وأدى إلى مقتل اثنين من مرافقيه.
نجاح الحزب في فرض إرادته على الأفرقاء السياسيين، بدأ بانتخاب الرئيس الذي دعموه، ثم بفرض قانون انتخابي لا يلغي حصرية تمثيله كأمل للشيعة بل يساهم في إضعاف أخصامهم، وأخيرا تشكيل حكومة يتحّكم فيها كيفما شاء لم يكن يوماً سلساً.
حتى مع التسويات التي حصلت بين الأخصام من 14 و8 آذار والتي يعللها البعض برغبتهم تارة في الحفاظ على الاستقرار وتارة أخرى بعدم إمكانية مواجهة الحزب كونه مشكلة إقليمية، إنما الأمور ما زالت متشنجة أقله على الصعيد الشعبي. هذا لا يعني أن «حزب الله» غير ممسك بزمام الأمور في البلد إنما هذا يعني أن هذا الاحتقان يمكن أن يؤدي في كل لحظة إلى عنف أهلي لا تحمد عقباه.