* أن يستعيد العالم اختبار المعسكرين أو أكثر، قد يكون شيئاً إيجابياً؛ حيث إن كثرة العرض تساهم في تخفيض سعر السلعة على المستهلكين، وما أكثرهم...
أليست هذه أهم قواعد السوق الليبرالية التي تدافع عنها الولايات المتحدة؟
سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي أعلنا انتصار الرأسمالية الغربية ممثلة بالولايات المتحدة الأميركية على المنظومة الشيوعية التي لم تستطع مجاراة الغرب إلا في ميدان واحد وهو السلاح النووي.
يوم هذا السقوط كانت الولايات المتحدة الأميركية متقدمة على دول العالم في شتى المجالات، لا سيما التكنولوجية والعسكرية منها.
هذا كان قبل تقريبا ثلاثة عقود.
انتصر الغرب وانتصرت أميركا التي كانت أولويات رئيسها إسقاط «النظام الشيطاني». هكذا نعت رونالد ريغان الاتحاد السوفياتي حينها.
فجأة خسر العالم بعضا من توازن كان قائما منذ 70 عاما بين حلف وارسو وحلف شمال الأطلسي رغم الفوارق الاجتماعية والاقتصادية بين شعوب الحلفين. ووجدت أميركا نفسها وحيدة في الطليعة.
وأصبحت تقود العالم متسلحة بقوة عسكرية واقتصادية كبيرة جدا.
أوروبا تلك «القارة العجوز» كانت منهمكة بإنجاح تجربتها الاتحادية وتسعى إلى جمع قوة بلدانها المتعددة الاقتصادية في قالب واحد رغم تناقضات هوياتها وثقافاتها.
الصين الماوية كانت تراقب عن كثب فشل التجربة السوفياتية وتحاول الدمج بين نظام حديدي واقتصاد صناعي قوي يغزو أسواق العالم.
روسيا كانت تلملم جراح تفكك إمبراطوريتها.
لم يكن هناك منافس لأميركا أو رادع لأعمالها بعد سقوط جدار برلين. عسكريا اجتاحت بنما، وقادت حرب العراق الثانية، وقادت حرب كوسوفو، وقصفت بلغراد والسودان في حربها على تنظيم القاعدة. وحدث في 11 سبتمبر (أيلول) 2001 ما لم يكن في الحسبان. هاجم أسامة بن لادن أميركا في عقر دارها، وفجر طائرات بمن فيها على رمزين يمثلان قوة هذا البلد؛ نيويورك عاصمة المال، ومبنى البنتاغون رمز التفوق العسكري. فما كان من العملاق الجريح إلا اجتياح العراق وأفغانستان واحتلالهما، بحجة إقامة الديمقراطيات في هذه البلدان، وبالتالي القضاء على التطرف. وبين هذا وذاك قامت الولايات المتحدة بثورة رقمية غيرت من وجه العالم، تأثيرها يشبه إلى حد بعيد الثورة الصناعية في إنجلترا قبل قرنين من الزمن.
الحربان اللتان انغمست فيهما الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان دفعتا النخب الأميركية فيها إلى طرح سؤال عن دور بلادهم في العالم ورسالتها على ضوء فشل مشروع نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط.
لماذا لا يحبوننا؟ كان السؤال الذي يؤرق بال الأميركيين...
الرئيس أوباما كان لديه الجواب. أميركا متعجرفة، وتتصرف كإمبراطورية لا كدولة قامت أساساً ضد الإمبراطوريات، متناسية أن أحد أهدافها كدولة كان نشر الديمقراطية والدفاع عن الحريات في العالم. وكان أوباما، مقتنعاً أن بلاده لا تستطيع فرض إرادتها كما أنها لا تستطيع فرض الحلول عسكرياً على العالم من جانب واحد، من دون أن تكون صورتها في العالم سلبية. وخلص إلى استنتاج أن القرارات يجب أن تؤخذ بالتفاهم مع «الشركاء» وليس رغماً عنهم. لذا أطلق الرئيس الأميركي شعار «القيادة من الخلف». والأهم في أجندة أوباما كان سعيه إلى التقرب ممن اعتبرتهم الولايات المتحدة أعداء لها على مدى العقود الماضية. فانفتح على كوبا وإيران.
أشياء كثيرة حصلت جرّاء هذه السياسة، لا سيما في الشرق الأوسط، الذي اشتعل حروبا فيما أقوى قوة في العالم بدت عاجزة عن صياغة سياسة واضحة المعالم لوقف تلك الحروب أو حتى التأثير فيها لصالح الحلفاء التقليديين. هدد الرئيس أوباما بشار الأسد بمعاقبته إن استعمل سلاحه الكيماوي... ثم تراجع، وهو كان قبلا لم يعارض عودة روسيا عسكريا إلى منطقة الشرق الأوسط. تلك الواقعة قد تكون أهميتها بدلالاتها، إذ كانت تشير إلى رغبة الولايات المتحدة بالانسحاب من بركان الشرق الأوسط. هذا ما فهمته على كل الأحوال دول الشرق الأوسط من حلفاء وأعداء: أميركا تنكفئ.
قد تكون هناك أسباب لهذا التراجع الأميركي أو هذا الانكفاء. منها كلفة هذا الانتشار العسكري على الاقتصاد الأميركي. من هنا إصرار الرئيس ترامب الذي لم تختلف سياسته الخارجية عن سلفه من حيث جعل الدول التي تستفيد من الحماية الأميركية تشاركها تكاليفها.
ثم صعود العملاق الصيني، وتوسعه خارج نطاقه الجغرافي اقتصادياً وعسكرياً ولو بشكل خجول حتى الساعة، ومزاحمة السوق الأميركية في المجالات التكنولوجية كما هو حاصل مع شركة إنتاج الهواتف هواوي على سبيل المثال لا الحصر، والتي عملت على تطوير تقنية شبكات الجيل الخامس التي تتيح معالجة كم هائل من البيانات بشكل سريع. ربما مواجهة العملاق الصيني بحاجة إلى جهد كبير لا يمكن أن يأخذ من زخمه الشرق الأوسط.
وهناك عامل أساسي في تلك السياسة الانكفائية هو بدء الولايات المتحدة بتصدير النفط والغاز مما يعدّل طبعا في خططها الاستراتيجية ويبدّل من مراكز اهتماماتها الخارجية.
هذا لا يعني أن الولايات المتحدة ضعيفة، فهي ما زالت رائدة عالميا في التكنولوجيا وحتى في الصناعة والتجارة، وهي أقوى قوة عسكرية عرفها التاريخ البشري بميزانية خيالية لا تقترب منها أي دولة في العالم. ولكنها لم تعد ترغب ولم يعد في استطاعتها أن تقود العالم وحدها. هناك منافسة جدية من الصين بشكل أساسي، ولكن أيضا روسيا وأوروبا.
انعقاد قمة على مستوى مستشاري الأمن القومي لكل من روسيا والولايات المتحدة الأميركية بدعوة من رئيس الوزراء الإسرائيلي لبحث الوجود الإيراني في سوريا هو دليل على تراجع الأحادية الأميركية.
أن يستعيد العالم اختبار المعسكرين أو أكثر، قد يكون شيئاً إيجابياً؛ حيث إن كثرة العرض تساهم في تخفيض سعر السلعة على المستهلكين، وما أكثرهم...
أليست هذه أهم قواعد السوق الليبرالية التي تدافع عنها الولايات المتحدة؟