* هل أدركت الحكومة الألمانية مؤخرا حجم تهديدات اليمين المتطرف، بعد انشغالها بتهديدات الجماعات الإسلاموية والهجرة؟
* وزير الخارجية الألماني يطالب بتنظيم احتجاجات ضد الإرهاب اليميني على خلفية مقتل السياسي فالتر لوبكه وتلقي سياسيين ألمانيين تهديدات بالقتل.
بون: يتزايد الجدل في ألمانيا هذه الأيام، حول فرض رقابة على التيارات اليمينية المتطرفة، ومنها حزب البديل من أجل ألمانيا AfD، والذي يتمتع بالغطاء الشرعي تحت قبة البرلمان الألماني، لكن السؤال: هل تنجح تلك الأصوات، في أعقاب اغتيال «فالتر لوبكه» عمدة مدينة كاسل وتهديدات سياسيين ألمانيين كبار؟
وهل أدركت الحكومة الألمانية مؤخرا حجم تهديدات اليمين المتطرف، بعد انشغالها بتهديدات الجماعات الإسلاموية والهجرة؟
هو تحد كبير تشهده ألمانيا في الوقت الحاضر، وهذا التحدي يكمن في قدرة واستعدادات الحكومة الحالية ومدى إمكانيتها بتقديم الشواهد والأدلة إلى المحكمة الدستورية للحصول على الموافقات. يذكر أن الهجرة والإسلام هما الموضوعان الرئيسيان بالنسبة إلى الأحزاب اليمينية في ألمانيا وأوروبا إذ يطالب بتقليص تأثير الاتحاد الأوروبي وتفعيل دور الأوطان الأوروبية.
وضمن ردود الأفعال السريعة، طالب وزير الخارجية الألماني بتنظيم احتجاجات ضد الإرهاب اليميني على خلفية مقتل السياسي فالتر لوبكه وتلقي آخرين تهديدات بالقتل، داعيًا للدفاع عن الديمقراطية.
وفيما أعلن وزير الداخلية عزمه تكثيف مكافحة اليمين المتطرف. أكدت شرطة مدينة كولونيا في 19 يونيو (حزيران) 2019 صحة تقارير أوردتها صحيفة «بيلد» الشعبية واسعة الانتشار وإذاعة «دبليو دي آر» بشأن تلقي عمدة المدينة لتهديدات بالقتل. وقال متحدث باسم الشرطة إن التهديد ورد عقب حادث مقتل فالتر لويكه، رئيس مجلس مدينة كاسل مطلع شهر يونيو الجاري، 2019 وأضاف أنه لا يمكنه القول بوجود علاقة بين جريمة القتل والتهديد.
نقلت صحيفة «دي فيلت» الألمانية، يوم 28 أبريل (نيسان) 2019 عن الوثيقة التي اطلعت عليها بشكل حصري أن «خطر تنظيمات اليمين المتطرف يزداد بشكل كبير في البلاد». وأضافت الوثيقة: «حدثت تغييرات في هياكل وأساليب تنظيمات اليمين المتطرف في الآونة الأخيرة في إطار محاولة هذه التنظيمات إعادة تنظيم نفسها»، مؤكدة أن بعض الأفراد والتنظيمات الذين كانوا في السابق على الهامش، برزوا كلاعبين رئيسيين في الآونة الأخيرة.
هياكل اليمين المتطرف
تعد حركات الهوية، ومواطني الرايخ، والنازيين الجدد، أبرز تنظيمات اليمين المتطرف في ألمانيا، التي لا تعترف بالنظام القائم، وتعترف فقط بالنظام النازي الذي سقط بنهاية الحرب العالمية الثانية في 1945 وغالبية أعضائه يمتلكون حق حيازة الأسلحة النارية. ويعتبر الحزب القومي الألماني دوما حاضرا عندما يتعلق الأمر بمعاداة الأجانب، وكان في تراجع مستمر، غير أن موضوع اللاجئين منحه دفعة منعشة، ولولا وجود حزب البديل لألمانيا وحركة «بيغيدا» لاستفاد الحزب أكثر من سياسة اللجوء التي تنهجها الحكومة الألمانية.
اليمين المتطرف أدرج 25 ألف شخص ضمن قوائم أطلقوا عليها «قوائم الأعداء»، وهذه القوائم تضم أسماء وعناوين وأرقام تليفونات المستهدفين.
وفي إطار الاغتيالات، اغتالت الخلية السرية النازية بين 2000 و2007 تسعة مهاجرين وشرطية ألمانية، ونفذت 43 محاولة اغتيال وثلاثة اعتداءات بمتفجرات، وأعمال سرقة متعددة، وبالتالي فإن اغتيال سياسيين لأسباب سياسية يشكل «بعداً جديداً».
ودعا حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني الشعبوي المعادي للمهاجرين الحكومة الألمانية إلى الانسحاب من ميثاق الأمم المتحدة.
ويرى «كلاوس- بيتر سيك» المؤرخ والمفكر السياسي وفقا لصحيفة «الشرق الأوسط» في 14 يناير (كانون الثاني) 2019 أن «حزب البديل من أجل ألمانيا يسعى إلى إعادة تأهيل موقف قومي ألماني» من خلال هذا النقاش. وتابع سيك: «يُعتبر هذا التموضع اقترابا لهذا اليمين القومي مما يحصل في الدول المجاورة مثل إيطاليا أو فرنسا. ومن خلال مناورته في هذا المجال، يختبر البديل من أجل ألمانيا نفسه وقاعدته الانتخابية لمعرفة ما إذا كان هذا الطرح يحظى بالدعم».
وفي هذا الإطار، كشف تقرير للاستخبارات البلجيكية في 22 مارس (آذار) 2019 أن «اليمين المتطرف في أوروبا بدأ بتغيير نمط أنشطته، وأن قيادات بعض مجموعاته المتطرفة بدأت تأمر عناصرها بالتدرب على الرماية وحيازة أسلحة بطرق قانونية أو غير قانونية». وأكد التقرير وجود اليمين المتطرف ببلجيكا وبقية دول غرب أوروبا، بالإضافة إلى تغييرات جذرية في بنيته. وأن أنصار اليمين المتطرف لا يخفون إعجابهم بالنازية. وأوضح أن المجموعات المدنية مثل حركة «جنود أودين»، التي تتخذ من فنلندا مركزا لها، هي نموذج للمجموعات اليمينية المتطرفة.
مواطنو الرايخ
يبلغ عدد نشطاء مواطني الرايخ في ولاية بادن فورتمبرغ 3500 شخص، فيما تخضع الحركة لرقابة، وقالت الصحيفة: «عملية مراقبة هؤلاء الأفراد غير المعروفين، صعبة للغاية... هناك دلائل على أن اليمين المتطرف يتدرب على سيناريو الحرب الأهلية».
ولا تعترف حركة «مواطني الرايخ» في ألمانيا بسلطة النظام الحالي للحكومة. وبحسب تقرير الاستخبارات الداخلية الألمانية، خلال شهر يونيو (حزيران) 2018، بلغ إجمالي عدد المنتمين إلى التيار اليميني المتطرف بنهاية عام 2017 نحو 24 ألف شخص.
اليمين المتطرف ينجح باختراق الاستخبارات والجيش
كشف تقرير صحافي في سبتمبر (أيلول) 2017 أن جهاز المخابرات العسكرية الألماني لديه قائمة بـ391 من رجال الجيش، ممن يشتبه بانتمائهم لليمين المتطرف، وخلال عام 2017 كشف جهاز المخابرات العسكرية عن 286 حالة اشتباه جديدة. ونقل التقرير عن المتحدث باسم جهاز مكافحة التجسس أن المخاوف تصاعدت بعد ضبط أكثر من 20 متشددا في صفوف القوات المسلحة «Bundeswehr»، وسط استمرار التحقيقات في 60 حالة مماثلة.
وكشفت الاستخبارات الداخلية الألمانية «BfV»، في نوفمبر (تشرين الثاني) 2016 القبض على أحد العاملين بالهيئة بعد أن تبين أنه «إسلاموي» متطرف، وأنه أفشى أسرارًا خاصة بعمله، واكتشفت المخابرات الداخلية أن «متطرفا» بين صفوفها كان يعتزم شن هجوم على المقر الرئيسي للهيئة. واتهمت فرانسيسكا شرايبر، العضو السابق في الحزب، صاحبة كتاب «حزب البديل... معلومات من الداخل» رئيس جهاز الاستخبارات الداخلية الألمانية السابق بتقديم نصائح «للبديل» الشعبوي.
وخلال شهر سبتمر 2018 ازداد الجدل في ألمانيا بشأن فرض رقابة الاستخبارات الألمانية الداخلية على حزب البديل من أجل ألمانيا المعادي للأجانب والمسلمين بعد أن شارك الحزب في مظاهرات مدية كيمنتس ضد أسلمة الغرب، وضد استقبال اللاجئين.
وقالت روزا غيرتس- تشيفلر المتحدثة باسم المخابرات الداخلية في ولاية ومدينة بريمن، إن مسؤولي الأمن بدأوا قبل أيام مراقبة جناح الشباب في حزب البديل. وتراقب وكالات المخابرات الداخلية بالفعل أعضاء اليسار واليمين المتطرفين في ألمانيا، فضلا عن الإسلاميين الذين يشتبه بأنهم ربما يخططون لشن هجمات.
وينتهج حزب البديل AfDمن أجل ألمانيا استراتيجية تقوم على أساس «الثقافة العليا»: واستخدام الصور التاريخية لحملة انتخابية كان خطوة جديدة، كما يشرح رونالد غليزر حملة حزب البديل من أجل ألمانيا، وصورة (سوق العبيد) تكشف إلى أين قد يؤدي المجتمع المتعدد الثقافات. ويسمي مراقبون هذا التوجه نوعا من «العنصرية الثقافية» المتجذرة في الحضارة الغربية التي تخاطب الكثير من أنصار حزب البديل من أجل ألمانيا الرافضين للإسلام.
لقد شهدت ألمانيا أنشطة إرهابية ممنهجة عبر عقود، ما بعد الحرب العالمية الثانية 1945. وهناك سلسلة عمليات اغتيالات ممنهجة، ضد الأجانب وكذلك ضد ساسة ألمان داعمين للأجانب وقضايا الهجرة واللجوء.
النازيون القدامى والنازيون الجدد اليوم يستعيدون قوتهم ويعززون صفوفهم تحت شعارات مختلفة لكنهم يتوحدون تحت شعار سياسي ظاهري (أوروبيون قوميون)، محاولة منهم لإضفاء الشرعية السياسية على أنشطتهم بالتوازي مع أنشطتهم السرية.
المشهد في ألمانيا أصبح واضحا، إن اليمين المتطرف أصبح بالفعل خطرا حقيقيا في ألمانيا إلى جانب دول أوروبا، هم لا يعترفون بالنظام السياسي الديمقراطي الحديث، ويرفضون «ذوبان» دول أوروبا داخل الاتحاد الأوروبي، ويطالبون بالعودة إلى الدولة القومية، وإعادة العمل بالحدود ما بين دول أوروبا.
أهم ما يميز التيارات اليمينية في ألمانيا، أنها تحصل على حق حيازة الأسلحة، والأخطر، أنها تمتلك مؤيدين ومتعاطفين، بل حتى أعضاء في مؤسسات الاستخبارات والدفاع، يحصل خلالها الأعضاء على التدريب.
وقد كشفت المعلومات عن أن اليمين المتطرف أعطى توجيهاته إلى مؤيديه وأعضائه، بتقديم طلبات الانضمام إلى مؤسسات الأمن والدفاع في ألمانيا.
إن موجات الهجرة غير الشرعية التي ضربت ألمانيا منذ عام 2014. أعطت اليمين المتطرف الكثير من الأسباب إلى أن يعيد تنظيم نفسه من جديد، بشكل سريع، داخل ألمانيا وخارجها، ويعزز قوته خاصة «السياسية» فرغم اختلاف أجندات وأهداف اليمين المتطرف في ألمانيا، لكنه يتوحد في إعطاء أصواته في الانتخابات إلى حزب البديل من أجل ألمانيا، والذي حصل فعلا على «الشرعية» للعمل السياسي داخل البرلمان.
ولكن مهما حاول حزب البديل من أجل ألمانيا AfDالنأي بنفسه عن التطرف وأعمال العنف، فإن تقارير الاستخبارات الألمانية كشفت عن تورط الحزب في «فبركة» الأخبار الكاذبة، حول الأجانب والمهاجرين، من أجل كسب أنصار ومؤيدين جدد. ولم يتردد حزب البديل من أجل ألمانيا أيضا في استثمار أحداث تورط فيها مهاجرون أو لاجئون، ليحشد المسيرات في المدن الألمانية.
وما يزيد مخاطر اليمين المتطرف، هو التحقق من تعاطف أفراد في الشرطة الألمانية والاستخبارات والدفاع، لكن في نفس الوقت، لم يكن رئيس الاستخبارات الداخلية السابق هانس- غيورغ ماسن، بعيدا عن الشبهات، والذي تم عزله بسبب ذات المشكلة.
ورغم أن موضوع فرض مراقبة على التيارات اليمينية المتطرفة تمثل مسألة حساسة في ألمانيا على خلفية الانتهاكات التي ارتكبها البوليس السري الألماني خلال حقبة النازية وجهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية خلال الحرب الباردة، فإن هناك أصواتا سياسية وشعبية تطالب بفرض نوع من المراقبة على هذه التيارات اليمينية المتطرفة. وفي هذا الإطار، أكدت المستشارة ميركل في أحد اجتماعاتها يوم 4 سبتمبر 2018 أنه ليس من صلاحية الحكومة فرض رقابة هيئة حماية الدستور من عدمها، مشيرة إلى أن ذلك لا يشكل قرارا سياسيا، بل من اختصاص الهيئات المعنية.
ومن أجل مواجهة التحديات الأمنية في قضايا الإرهاب والتطرف، كشف وزير الداخلية الألماني زيهوفر عن عزمه لمنح جهاز الاستخبارات الداخلية المزيد من الصلاحيات لمراقبة منصات الدردشة ومواقع التواصل الاجتماعي كبرنامج «واتسآب». ودعت ميركل يوم 22 يونيو 2019 إلى مكافحة النازيين الجدد «من دون أي محرمات»، وذلك بعد أسابيع من مقتل فالتر لوبكه السياسي المحلي من حزب ميركل المؤيد لسياسات الهجرة على يد متعاطف مزعوم مع هذه الحركة.
ما تعمل عليه التيارات اليمينية هو اعتماده استراتيجية ثقافية جديدة تستخدم الفن من أجل الترويج لدعايته في حملة الانتخابات الأوروبية. وهذا يعتبر مؤشرا خطيرا يقود المجتمع الألماني نحو العنصرية ومعاداة الإسلام المتخفية وراء قناع ثقافي.
إن مخاطر اليمين المتطرف في ألمانيا لا تقل أهمية عن إرهاب الجماعات الإسلاموية المتطرفة، بل تتعداها، كون اليمين المتطرف، نجح في الحصول على «الشرعية» من خلال العمل السياسي، بالتوازي مع العمل السري المنظم.
ألمانيا يبدو أنها تعود إلى حقبة الإرهاب اليساري المتطرف الدموي الذي ضرب مدنها خلال عقد الثمانينات والسبعينات من القرن الماضي.
وبات متوقعا أن يشهد اليمين المتطرف انتشارا أكثر، في ألمانيا، في أعقاب توسع دائرة «ثقافة معاداة السامية والمسلمين والأجانب» وهذا يعني أن ألمانيا يمكن أن تشهد عمليات اغتيالات منظمة تنفذها عناصر يمينية متطرفة. وبخلاف الاغتيالات، هناك توجه سياسي داخل الائتلاف الحاكم في ألمانيا بالاتجاه نحو اليمين أكثر من الوسط المحافظ.
ما ينبغي أن تعمل عليه ألمانيا، هو الحصول على موافقة المحكمة الدستورية، من أجل فرض رقابة على حزب البديل من أجل ألمانيا وحركة بيغيدا والتيارات اليمينية المتطرفة، ما يمكن الاستخبارات الألمانية من الكشف عن أي عمليات إرهابية محتملة.
ويبقى السلاح، وسيلة مهمة للجماعات اليمينية المتطرفة، بتنفيذ عمليات إرهابية ومنها الاغتيالات التي تمثل سمة بارزة بأنشطة الجماعة السرية.