* حققت كثير من البيوت الأثرية المصرية شهرة جديدة تختلف عن شهرتها كمعالم أثرية، وذاع صيت اهتمامها بالفنون ليتجاوز حدود الوطن إلى كافة أرجاء العالم
* بدأت تتردد أسماء بيوت السناري والسحيمي والهراوي ووكالة الغوري بين المصريين والعرب والأجانب بفخر وتقدير يرتبط بنشاطها الفني الذي يجذب محبي وعشاق الفنون التراثية
القاهرة: تجربة تحويل عدد من البيوت والمنازل الأثرية المصرية إلى مراكز للإبداع الفني والثقافي وضعتها في موقع جديد على خريطة الوجود الإنساني، تمتزج فيه قيمة حضارية راسخة في عمق التاريخ مع ذلك الوهج الأبدي الذي يحول الفن إلى لغة للخلود، لتصبح مهمة الحفاظ على استمرار الفنون التراثية الشعبية رسالة جديدة حولت البيوت الأثرية من حجارة تنقل أخبار الأجداد وحكمتهم إلى منارة للإبداع تفيض برحيق نورها على الحالمين بمستقبل أكثر إنسانية وفنا وجمالا.
منذ تحويلها إلى مراكز للإبداع والفنون مطلع القرن الحادي والعشرين، حملت البيوت الأثرية المصرية على عاتقها مهمة الحفاظ على الفنون التراثية الشعبية وضمان استمرارها ونفل أسرارها من جيل الرواد إلى الأجيال الشابة، واتسعت دائرة الاهتمام والإقبال على فنون تراثية كادت أن تنقرض، منها فنون التنورة وخيال الظل وعروض الأراجوز والمولية، والفنون الموسيقية الكلاسيكية، وأشكال متنوعة من فنون مسرح العرائس.
وحققت الكثير من البيوت الأثرية المصرية شهرة جديدة تختلف عن شهرتها كمعالم أثرية، وذاع صيت اهتمامها بالفنون ليتجاوز حدود الوطن إلى كافة أرجاء العالم، وبدأت تتردد أسماء بيوت السناري والسحيمي والهراوي ووكالة الغوري بين المصريين والعرب والأجانب بفخر وتقدير يرتبط بنشاطها الفني الذي يجذب محبي وعشاق الفنون التراثية من كافة أرجاء العالم.
وتقول إيمان عبد المحسن، مدير المكتب الفني لصندوق التنمية الثقافية بوزارة الثقافة لـ«المجلة» إن «البيوت الأثرية المصرية حملت على عاتقها منذ تحولها إلى مراكز للإبداع الفني والثقافي مهمة الحفاظ على استمرار الفنون التراثية ونشرها بين فئات مختلفة من خلال العروض التي تستمر طوال العام، والورش التدريبية، واحتضان المواهب الشابة، ونقل الخبرات وأسرار كل فن من جيل الرواد إلى الأجيال الجديدة ليتمكنوا من تحمل مسؤولية الحفاظ على هذه الفنون، ونجحت البيوت الأثرية في القيام بدور فعال في دعم الفنون التراثية على مدار السنوات الماضية من خلال أنشطتها المختلفة، وعادت هذه الفنون بقوة إلى واجهة المشهد الثقافي والفني وحققت انتشارا واسعا بين المصريين والعرب والأجانب».
ويعد بيت السناري في حي السيدة زينب الشعبي التاريخي أحد أشهر البيوت الأثرية التي حققت شهرة واسعة عقب تحولها إلى مركز للإبداع الفني والثقافي، ويرجع تاريخ إنشائه إلى عام 1794 ميلادية، وقد أنشأه إبراهيم كتخدا السناري، وهو من أثرياء القاهرة، توفي عام 1801 ميلادية، وقام الفرنسيون بمصادرة المنزل عام 1798 لاستخدامه مقرا لإقامة أعضاء لجنة العُلومِ والفنونِ التي جاءت مع حملة نابليون العسكرية على مصر، وقد استخدمته الحملة لإقامة بعض علمائها ومصوريها وفنانيها.
وفي نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أدرجت اللجنة الدولية لصون التراث الثقافي للبشرية بمنظمة اليونيسكو، فنون عروض الأراجوز المصرية ضمن قائمة التراث غير المادي الذي يتسوجب الحفاظ عليه من الانقراض، وتعتمد عروض فن الأراجوز على استخدام دمية يدوية تقليدية تعرف في مصر باسم «عروسة الأراجوز»، وقد استمد هذا المسرح اسمه من هذه الدمية التي تعتبر العنصر الرئيسي فيه، ومن سمات هذه الدمية أنها تصدر صوتا مميزا بمساعدة جهاز صغير يستخدم لتعديل الصوت يعرف باسم «الزمارة»، وتقدم هذه العروض، التي تحرص على تفاعل الجمهور فيها، عروضًا ترفيهية هزلية تتطرق إلى مجموعة متنوعة من جوانب الحياة اليومية، وهو نوع من الفنون التراثية المهددة بالاندثار بسبب رحيل جيل روادها عن العالم، وهو ما دفع البيوت الأثرية المصرية إلى تكثيف جهودها لضمان استمرار هذا الفنون وفنون تراثية أخرى بين الأجيال الجديدة.
ومن بين البيوت الآثرية التي تحولت إلى مراكز للإشعاع الثقافي، وكالة الغوري بحي الأزهر التاريخي بوسط القاهرة، وقد أنشأها السلطان الأشرف أبو النصر قنصوه الغوري، بين عامي 1504 و1505 ميلادية، والمعروف باسم السلطان قنصوه الغوري.
وحقق بيت الهراوي بنفس الحي التاريخي شهرة جديدة استمدها من اهتمامه بالفنون التراثية، وموقعه الفريد ضمن مجموعة من المنازل والآثار الإسلامية، حيث يجاوره منزل وقف الست وسيلة، ويطل على منزل زينب خاتون بحي الأزهر التاريخي، وقد أنشأه أحمد بن يوسف الصيرفي سنة 1731 ميلادية، ونسب المنزل إلى الطبيب عبد الرحمن باشا الهراوي، وهو آخر من آلت إليه ملكيته عام 1881 ميلادية، بدأ ترميم البيت في العصر الحديث عام 1986 بالتعاون بين المجلس الأعلى للآثار ووزارة الخارجية الفرنسية والمعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة، حيث اكتملت عملية الترميم عام 1993. وصدر قرار حكومي بتحويله إلى مركز إبداع فني تابع لصندوق التنمية الثقافية عام 1996 ومنذ ذلك التاريخ أصبح البيت مزارًا أثريًا وفنيًا في نفس الوقت.
وركز بيت السحيمي بحي الجمالية التاريخي على إحياء فنون الأراجوز وخيال الظل وحمايتها من الاندثار، من خلال ورش التدريب لنقل خبرات الفنانين القدامى إلى الأجيال الشابة، والتوسع في العروض والفعاليات الفنية طوال العام لمنح الفرصة للفرق الشبابية للتعبير عن رؤيتها الحداثية مع الحفاظ على الثوابت الفنية للفنون التراثية.
ويعود تاريخ بيت السحيمي بحي الجمالية التاريخي بوسط القاهرة الفاطمية إلى عصر الدولة العثمانية في مصر (1517 - 1867 ميلادية) وأُنشئ على مرحلتين، الأولى للجزء القبلي منه عام 1648 ميلادية على يد الشيخ عبد الوهاب الطبلاوي، والثانية للقسم البحري على يد إسماعيل شلبي عام 1796، وكان الرجلان من كبار التجار المصريين، ونُسب اسم البيت إلى آخر من سكنه، محمد أمين السحيمي (تركي الأصل)، وهو شيخ رواق الأتراك بالجامع الأزهر آنذاك، بعد أن ضم القسمين القبلي والبحري في بيت واحد، وتوفي في الثامن من أبريل (نيسان) 1928، واشترت الحكومة المصرية البيت من ورثته في ثلاثينات القرن الماضي، وسجلته كأثر إسلامي، وتم ترميمه فيما بعد وافتتاحه عام 2000. ليصبح مزارا أثريا ومركزا ثقافيا للفن والتراث الشعبي.
ومن جانبه، يقول محمود عيسى المدير السابق لوكالة الغوري لـ«المجلة» إن «تجربة تحويل البيوت الأثرية إلى مراكز إبداع ثقافي وفني أثرت الكثير من الفنون التراثية وحققت نجاحا كبيرا في الحفاظ على استمرارها وحمايتها من الاندثار، وقد حظيت العروض الفنية لهذه الفنون بإقبال واسع ووصلت إلى قطاعات مختلفة من الجماهير خلال السنوات الماضية، وساهم تاريخ هذه البيوت وموقعها الهام وسط مناطق أثرية لها عبق خاص في زيادة إقبال الجماهير، حيث تقدم العروض وسط أجواء تراثية تاريخية تمثل عنصر جذب هاما، ويقبل الكثير من الشباب على تعلم الفنون التراثية من خلال ورش التدريب، ونجح الكثير منهم في حمل الشعلة ووضع بصمتهم الفنية التي ساهمت في التعبير عن الواقع الحالي دون الإخلال بالثوابت الفنية التراثية التي تشكل جوهر هذه الفنون».