* لم يعد «حزب الله» هو المحرر والحامي وموفر الخدمات للمجتمع الشيعي. ولم يعد الأب أو المظلة المقدسة التي تحمي أولادها.
كان لا بد لـ«حزب الله» أن يثبت استراتيجية دعم شعبية له لكي يؤسس نفسه كأقوى فصيل في لبنان ثم يتحول إلى ذراع إقليمية لإيران. وفهم النظام الإيراني أنه من دون هذا الدعم الشعبي الواسع والولاء، سيواجه «حزب الله» دائمًا بالديناميات السياسية المتغيرة والضغط الدولي على لبنان.
وفهم الإيرانيون أيضًا أن قاعدة الدعم هذه يجب أن تصمد أمام العواصف والضغوطات الإقليمية والدولية، وبالتالي تكون محصنة ضد النقد أو المساءلة. ويجب أن تكون مقدسة وراسخة. وساعدت إيران بالتالي «حزب الله» على بناء قاعدة الدعم لديه وجعلتها تتمحور حول ثلاث ركائز أساسية ووضعت لكل ركيزة عنصراً مقدساً.
ركائز دعم «حزب الله» المقدسة
الركيزة الأولى والأكثر أهمية هي المقاومة التي أنشأتها الدولة الإسلامية في إيران ومولتها ونظمتها. وقبل مقاومة «حزب الله» ، كان في لبنان مقاومة وطنية خاصة به تتألف من جماعات يسارية وليبرالية تجمعت لتشكيل جبهة مقاومة وطنية بهدف تحرير المناطق المحتلة من لبنان. وعندما أدرك «حزب الله» ما حظيت به هذه الجبهة من دعمٍ وإعجابٍ من الغالبية العظمى من الطائفة الشيعية في لبنان، بدأ عمليات الاغتيالات ضد قياداتها حتى أضعفها وتولى مهمة المقاومة في لبنان وادعى أنها قضيته الوطنية.
وفي النهاية، أصبحت المقاومة هي ما يميز «حزب الله» وهدية إيران للبنان. ولكن لم يكن ليستطيع النجاح دون رغبة إيران في صرف مبالغ كبيرة من المال والأسلحة عليه.
ولهذا السبب فإن الركيزة الثانية لا تقل أهمية عن سابقتها وهي الخدمات الاجتماعية والوظائف. فقد أنشأ «حزب الله» المئات من المؤسسات الخدمية وبدأ يقدم خدماته لجميع أفراد المجتمع الشيعي - وأحيانًا الناس الآخرين – لإيصال الرسالة إلى الناخبين مفادها أنه ليس موجودًا لتحرير الأرض فقط بل أيضًا لتوفير الحماية والخدمات.
وأصبح الحزب هو الجهة الرئيسية التي توفر الوظائف والفوائد للمجتمع الشيعي لدرجة لم تتمكن أي جهة أخرى في لبنان من الوصول إليها، بما في ذلك الدولة.
خاطب «حزب الله» المجتمع الشيعي وقال لأفراده أن ينسوا الدولة ومؤسساتها لأنهم فشلوا في تحرير الأرض وفي حماية الشعب، والأهم من ذلك أنهم فشلوا في تقديم الخدمات لهم وتوفير الوظائف التي يحتاجونها. وأضاف أنه ليس عليهم أن يكونوا مواطنين في هذه الدولة معتبرًا نفسه والدهم وهم أولاده.
ولكن ذلك لم يكن كافيًا لاكتساب القداسة المطلوبة. إذ رأى أنه يجب ربط المقاومة والخدمات بشيءٍ أكبر وأهم من لبنان. ولم يكن صعبًا رفع درجة المقاومة إلى مستوى القداسة. فقد اعتبر الكثير من الناس في لبنان ذلك قضية نبيلة، وخاصة الطائفة الشيعية التي كانت في الغالب تعاني من الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان. ولكن لا يمكن للمقاومة أن تصمد وحدها دون دعم.
كان لا بد من ربط الركيزتين بالثالثة والتي تعتبر الأهم. فمن وجهة نظر الجمهورية الإسلامية، هذه الركيزة هي الهوية الشيعية وارتباطها بولاية الفقيه في إيران. وأصبحت مقاومة «حزب الله» وخدماته أكثر ارتباطًا بالهوية الشيعية بسبب مظلة ولاية الفقيه ومن خلال خطاب ومنهجية أعطت الأولوية للمجتمع الشيعي. فلم يتردد الحزب من طمأنة اللبنانيين الشيعة المخلصين من خلال تأكيده على توفير الخدمات والحماية والقوة لهم في حال قدّروا أبوة إيران مهما كانت تصرفاتهم مشينة بحق اللبنانيين الآخرين الذين اعتبرهم غير موجودين. وأكد لهم أنهم فقط من سيتمتعون بالقوة والازدهار في لبنان.
ونجح خطابه بشكلٍ سحري وأحب الكثير من أفراد المجتمع الشيعي فكرة أن يكونوا جزءًا من شيء أكبر بكثير من أنفسهم وهوياتهم غير المهمة. ولأن دولتهم لم تعاملهم كمواطنين، لم يترددوا في اختيار الانصياع لكيانٍ أو هوية أخرى مقابل أن يكونوا مخلصين ومقدّرين.
وتحول هذا الولاء - ببطءٍ ولكن بثبات - إلى قداسة. وفي نهاية المطاف، سمح الامتناع عن انتقاد انتماء «حزب الله» لإيران أو لخطابه الطائفي بالاستفادة من هذا الاتجاه وقدم الحزب نفسه على أنه كيانٌ مقدس للمجتمع الشيعي.
وساعد خطاب انتصار الحزب كحركة مقاومة بالإضافة إلى سخاء إيران وصورته بوصفه الحزب الوحيد في لبنان الذي لم يتلطخ بالحرب الأهلية والفساد بتقديم الحزب على أنه الحركة المثالية أو الحركة المقدسة.
كيف فقد «حزب الله» قداسته
تزعزعت للأسف صورة «حزب الله» عدة مرات وظهرت أسباب هذه الزعزعة.
فقد بدأت صورته تهتز بسبب كثير من التقارير وقضايا الفساد داخل صفوفه. وبدأ الناس يدركون أن مسؤولي وسياسيي «حزب الله» فاسدون مثل الشخصيات السياسية الأخرى في لبنان وأنهم يتباهون بثروتهم أمام الشيعة الفقراء الآخرين. وليس صعبًا على المجتمع الشيعي إدراك ذلك عندما يرى زوجات مسؤولي «حزب الله» تقدن أغلى السيارات وأولادهم يرتادون أغلى المدارس والجامعات الخاصة.
كما تم فضح تعامل «حزب الله» في غسل الأموال وإنتاج المخدرات. ومما زاد الطين بلة، اكتشاف أن أفضل جواسيس إسرائيل تم تجنيدهم من داخل صفوف الحزب.
واستصعب المجتمع الشيعي المخلص والمغسول دماغه قبول كل هذه الوقائع. وصدق الكثيرون الدعاية المضادة لتلك المعادية لـ«حزب الله» وقدم آخرون ذرائع للحزب. فليس سهلاً أن تلاحق حاميك.
لكن ظل «حزب الله» موصومًا، وعلى الرغم من كل المحاولات لتنظيف صفحته إلا أن الأمور لم تعد كما كانت، ومع ذلك فإن الانتقاد الصغير الذي بدأ يظهر من داخل المجتمع الشيعي لم يخرج بعد إلى العلن.
وبعد ذلك حصلت أحداث 7 مايو (أيار) 2008. عندما استخدم «حزب الله» سلاحه لأول مرة ضد اللبنانيين. وعلى الرغم من أن الطائفة الشيعية لم تعارض حقًا عمليات «حزب الله» وقتها، ولكن بدأ الكثيرون يتساءلون حول دوافع «حزب الله» الحقيقية. كان من المفترض على الحزب استخدام الأسلحة ضد إسرائيل والدفاع عن لبنان، فما الذي يقوم به «حزب الله» بالفعل؟
وتضاعفت هذه الأسئلة عندما بدأ المجتمع الشيعي يشعر بالعزلة الناجمة عن أفعال «حزب الله» عام 2008. وزادت العزلة بشكلٍ كبير عندما دخل «حزب الله» إلى سوريا وباقي المنطقة واستخدم أسلحته ضد السنة السوريين والجماعات المعارضة للنظام. وتحولت وقتها أسلحة المقاومة-ـ مرة أخرى وعلى نطاق أوسع بكثير- إلى أدوات لإسكات وقمع المواطنين العرب ولمساعدة الطغاة وخدمة أجندة إيران الإقليمية.
وما زاد الأمر سوءًا أن الحزب لم يرد على أي من الهجمات الإسرائيلية على مواقعه في سوريا. ولم تترك إسرائيل «حزب الله» وإيران في سوريا فهي تقصفت منشآتهم منذ سنوات ودمرت ما يقرب من نصفها. ولكن قرر «حزب الله» تعليق المقاومة. وعلى الرغم من خطابه المستمر المعادي لإسرائيل، أدرك الناس أن المقاومة لم تعد من أولويات الحزب.
وهكذا انهارت الركيزة الأولى.
وزاد الاستياء عندما بدأ «حزب الله» يواجه أزمة مالية وقام بوقف كثير من خدماته الاجتماعية المقدمة للناس. وقد ركز أولاً على توفير كل ما يطلبه مجتمع المقاتلين للتأكد من أن هذا الجزء من المجتمع لن يتخلى عنه وسط المعركة.
وتزداد اليوم التحديات فيما يتعلق بقضايا الحزب المالية واضطر إلى قطع نصف رواتب كثير من المقاتلين. وهكذا انهارت الركيزة الثانية بسبب عدم قدرة الحزب على توفير الخدمات والوظائف والرواتب.
ولم يتبق سوى الهوية الشيعية والاتصال الآيديولوجي بولاية الفقيه الإيرانية. ومع ذلك، فإن هذا وحده لن يقي من الجوع ويوفر أقساط المدارس أو الشعور بالأمان وسط مخاوف من حرب أخرى بين «حزب الله» وإسرائيل.
وتغيرت أولويات الناس مع تدهور الوضع الاقتصادي في لبنان، وأصبح الأمن المالي أكثر أهمية من الآيديولوجيات والولاءات لقضايا مجردة.
لم يعد «حزب الله» المحرر والحامي وموفر الخدمات للمجتمع الشيعي. ولم يعد «حزب الله» الأب أو المظلة المقدسة التي تحمي أولادها.
قد تتعافى إيران من العقوبات التي فرضت عليها، إذا تغيرت حملة الضغط الشديد مع إدارة أخرى. ولكن صورة «حزب الله» تغيرت في جميع الأحوال، ولم يعد المجتمع الشيعي مرتبطًا به بخيطٍ مقدس لا يمكن قطعه. فإذا عرض عليه بديل مستدام وراسخ، فسيعيد كثير منهم النظر في الموضوع.