* استعادة حقوق المسيحيين شعار يتمتع بكم هائل من الشعبوية وفارغ ومن دون مضمون، هدفه المباشر إجبار شركاء الوطن من الطوائف الأخرى على القبول باحتكار باسيل وحده دون غيره للتمثيل المسيحي في التعيينات والتوظيفات والمناقصات والجمهورية
استعر الخطاب الطائفي في لبنان مؤخراً على خلفية تصريحات صهر رئيس الجمهورية جبران باسيل، حول استعادة حقوق الطائفة المسيحية التي يقول إنها سلبت منهم عقب اتفاق الطائف.
للتذكير اتفاق الطائف أتى بعد حرب أهلية لبنانية دامية قضت على 300 ألف مواطن، معظمهم كانوا شهودا على تقاتل داخلي وتصفية حسابات إقليمية ليس إلا. دمار البنى التحتية كان أيضا مهولا لبلد لا تتعدى كيلومتراته الـ10 آلاف كيلومتر.
اتفاق الطائف ألغى النظام الرئاسي الذي كان معمولا به منذ إعلان استقلال لبنان، مع العلم أن تلك الصلاحيات المعطاة لرئيس الجمهورية الماروني لم تستعمل يوما بالشكل الذي يسمح به الدستور آنذاك. وكانت أي محاولة للهيمنة على قرار أحد المكونات الطائفية الأخرى من قبل رئيس الجمهورية الماروني تجابه بالاعتراض والرفض والنزاعات بين أبناء الطوائف. هذا ما حصل في عهد كميل شمعون مثلا إبان ثورة عام 1958.
تجاوز حد السلطة من قبل كل رؤساء الجمهورية الذين تعاقبوا على كرسي بعبدا ما عدا القليل منهم (إلياس سركيس مثلا، أو فؤاد شهاب)، كان أمراً يتعلق بفسادهم أكثر منه بالصلاحيات الواسعة الممنوحة لهم دستورياً، ولو أن تلك الصلاحيات سهّلت وأتاحت لهم وللمقربين منهم تجاوز حدّ السلطة.
على كل الأحوال مرّ من عمر الطائف ما يقارب الثلاثة عقود. تبدل الكثير منذ ذلك الحين. أولا تضاؤل أعداد المسيحيين بشكل لافت جرّاء الهجرة، وهذا ما تبرهن عليه بشكل قاطع لوائح الشطب التي تنشرها وزارة الداخلية عند كل استحقاق انتخابي، حتى باتوا لا يشكلون ربع سكان لبنان في أحسن الأحوال، ثانياً ضعف حضورهم الاقتصادي بالبلد إذا ما قارناه بحجمه عشية الحرب الأهلية. هذا التراجع قابله صعود الشيعية السياسية مع تنامي قوة «حزب الله»، وفرض نفسه وطائفته لاعباً أساسياً في الحياة السياسية اللبنانية إن لم نقل مرجعية لقرارات الجمهورية المهمّة.
اغتيال الرئيس رفيق الحريري كان ضربة موجعة للسنية السياسية وأحدث فراغاً في أوساطها لم تتمكن أي من الشخصيات السياسية لتلك الطائفة من ملئها. أضف لهذا التراجع في الدور والأداء التباعد الذي حدث مع الرعاة الإقليميين للزعامة السنية بما يشبه رفع الغطاء عنها لا سيما المملكة العربية السعودية والتي وإن كانت لا تزال تكن المودة للبنان واللبنانيين عموماً لكنها غير راضية عن التسويات التي قام بها حلفاؤها والتي سمحت لإيران بالتفاخر بالسيطرة على أربع عواصم عربية ضمنها بيروت.
في ظل كل هذه المتغيرات انتخب ميشال عون رئيساً للجمهورية. وشعر الرجل وصهره بالنشوة. فعلوها أخيراً مع فارق ثلاثين عاما أو أقل بقليل، حين كان الجنرال الغاضب يطمح بخلافة الشيخ أمين الجميل الذي عينه رئيسا لحكومة انتقالية مهمتها الوحيدة التحضير لانتخاب رئيس.
طموح الجنرال كان أكبر. تكلم يومها عن دولة القانون والنظام لأناس أنهكتهم الحروب العبثية وحكم الميليشيات فأملوا أن يكون هو من يعبر بهم إلى تلك «الدولة الفاضلة» التي حلموا بها منذ أن كان لبنان.. أسمع اللبنانيين ما كانوا يريدون سماعه.
ثم أطلق معارك عسكرية الواحدة تلو الأخرى تحت شعار «التحرير».
هكذا أغوى عون المسيحيين. هرب إلى فرنسا مكسورا ولكنه ظل في وجدان مناصريه وعدا باستقلال ما. انتظروا عودته من منفاه ليتابعوا معه ما بدأوه قبل عقدين من الزمان: وطن السيادة والاستقلال والحرّية. لم يعلموا أن عودته كانت بالتنسيق مع النظام السوري وبرضاه.
ولكن مع انسحاب الجيش السوري وتوقيعه مذكرة تفاهم مع ميليشيا مسلحة تناقض مبدأ السيادة سقطت كل شعاراته. كان عليه التفتيش عن شعار آخر أو عن عدو آخر يبقي الموارنة تحت سحره وجناحه. فوجد بالحريرية السياسية ضالته المنشودة. شن عليها حرب إلغاء هي الأخرى. واتهمها بالفساد، حتى أعلن أن تبرئتها من كل التهم مستحيل. ثم في خضم صعود الحركات المتطرفة ربط تلك الشريحة اللبنانية بـ«الإرهاب»، ما فعل فعله عند أغلب الجمهور المسيحي.
ظل عون وفريقه يعزفان على هذا الوتر حتى انقطع مع التسوية الرئاسية التي أبرماها مع تيار المستقبل؛ كرسي بعبدا تستحق كل التسويات.
سقطت ورقة أخرى من كتاب الشعبوية العونية: شيطنة الطائفة السنية.
مع تقدم سن الجنرال فقدت العونية سحرها، شاخت، وفشل الصهر في الحلول مكان الجنرال الغاضب رغم دعم عمّه المنقطع النظير. عطّل تشكيل أولي حكومات الحريري لأشهر، كرمى لـ«عيون الصهر». فصّل قانونا انتخابيا داخليا للتيار من أجل أن «يُنتخب» الصهر. ولكن ينقص باسيل أشياء كثيرة ليحل مكان عون. البزّة العسكرية أولا، والحضور ثانيا، والغضب الطبيعي المرافق لشخص الجنرال، والصوت... وباسيل يملك سحر تنفير العالم من حوله.
يشهد عون على تفكك البناء الذي أفنى العمر في تشييده. ما العمل؟
كان لزاماً التفتيش مرّة أخرى على شعار آخر يحرّك الجماهير، خاصة مع بروز بوادر فشل العهد. فشل اجتماعي واقتصادي ومالي وسياسي واضح وصريح. وفشل عون في إجبار الناس على حب باسيل.
كان لا بد من التفتيش عن شيء يعيد القطيع إلى الحظيرة بقيادة الراعي الذي اختاره عون. لا بد لشعار شعبوي آخر يطلقه باسيل هذه المرة ليجمع أكثرية الموارنة من حوله.
وجدها: «استعادة حقوق المسيحيين».
لن يكلف أحد نفسه السؤال طبعا عن أي حقوق يتكلم باسيل، هذا في حين يعلم الجميع أن استعادة تجربة النظام الرئاسي مستحيلة لكل الأسباب التي ذكرت قبلا.
مسلمو البلد لم يتحججوا يوما، أقله حتى الساعة، بتضاؤل عدد المسيحيين من أجل المطالبة بإعادة النظر بالدستور. قبلوا أن يكون لبنان رسالة، وقبلوا بمستلزمات تلك الرسالة التي تحتم أن يكون مجلس النواب مناصفة بين المسيحيين والمسلمين، كذلك مجلس الوزراء. وأن تكون للموارنة رئاسة الجمهورية وقيادة الجيش والمخابرات، وحاكمية مصرف لبنان. هذا على الصعيد الرسمي. أما على الصعيد الاجتماعي فالمسيحيون يمارسون شعائرهم الدينية بكل حرية، يعيشون نمطا اجتماعيا أيضا بكل حرية. فعن أي حقوق يتكلم باسيل؟
باختصار استعادة حقوق المسيحيين شعار يتمتع بكم هائل من الشعبوية ككل شعارات عون، شعار فارغ ومن دون مضمون، هدفه المباشر إجبار شركاء الوطن من الطوائف الأخرى على القبول باحتكار باسيل وحده دون غيره التمثيل المسيحي في التعيينات والتوظيفات والمناقصات والجمهورية، وبالتالي مبايعته كآمرٍ ناهٍ على طائفته وإلا فسيصبح هذا الشريك المسلم الذي يحرمه هذا الاحتكار «إرهابياً» في لحظة.
هذا هو باختصار هدف الكلام الشعبوي عن حقوق المسيحيين الذي يطلقه باسيل. والسؤال: هل يهتم صهر الجنرال بتداعيات هذا الكلام على الاجتماع اللبناني؟
عمُّه أطلق حربين مدمرتين: واحدة دمّرت النسيج المسيحي وأخرى أخضعت لبنان لحكم الوصاية السورية ثم لجأ إلى فرنسا.