إن المعارضة التي كان الضَّائقون مِن صدام حسين ينتظرونها، ومنهم مَن هو مِن أهل تكريت نفسها، أظهرت عجزاً وترنحاً وهي تتسلم مقاليد العِراق، مِن دون تخطيط. هم يعتبرون الدُّستور أحد إنجازاتهم ومفاخرهم، إلا أنه أصبح أكبر مشكل، لأنه لم يُكتب بحرفية إنما كُتب بحزبية وطائفية.
ظهرت قوى عجيبة غريبة، تدافعوا للكفاح ضد البعث، وهاهم يشيدون أحزاباً برؤيا البعث نفسه، والفارق أن البعث كان واحداً يحسم أمره فرداً، بلا نقاش أو جدال، ولو قدر أحد الأحزاب على محو الآخرين لما تأخر.
ليست المشكلة في حقوق الكُرد أو قوة الإقليم مقابل ضعف المركز وتشظيه، ومحاولة الأول أخذ ما يمكن أخذه قبل فوات الأوان، إنما تكمن في عدم وجود الرؤى السِّياسية الواضحة، وفي عدم الصُّدق في التَّعامل، ومحاولة اقتناص الفرص ليست لمصلحة الإقليم أو المركز إنما لمصلحة مركز سلطوي.
فلو عدنا إلى مبادرة "أربيل" التي دعا إليها رئيس الإقليم مسعود البارزاني، وهي غير المعلنة، وما زالت غير معلنة، لأن كلَّ طرف له مآرب في إبقائها خافية عن الرأي العام، ولندع الخافيات ونأتي إلى الواضحات المعلنات منها. لقد أراد نوري المالكي بأي شكل مِن الأشكال البقاء رئيساً للوزراء، لذا وافق على ما في المبادرة جملة وتفصيلاً، ومنها منصب رئيس السياسات لأياد علاوي، ووافق على طمأنة الكرد في النَّفط وخلافه، وعلى الوزارات الأمنية، وغير ذلك.
لكن ما أن نُصب رئيساً للوزراء أخذ يماطل ويماطل، وها هي السنة الثانية تمرُّ والعراق بلا وزارات أمنية، وأضحت مِن حق المالكي التَّصرف بها وكالة، والدَّم يسيل بغزارة مِن نحور العراقيين، ولا أحد يتحمل المسؤولية.
[caption id="attachment_55234181" align="alignleft" width="210" caption="الهاشمي"][/caption]
مقايضة الدِّيمقراطية
كذلك يوجه اللوم إلى القائمة العراقية، لأنها صاحبة العدد الأكبر في البرلمان، فلماذا قايضت الدِّيمقراطية بمناصب لا تسمن ولا تغني! بدلاً مِن أن تحدد موقفها بين أمرين لا ثالث لهما: إما استلام رئاسة الوزراء وإما لعب دور المعارضة الحقيقية في البرلمان! لتكون ديمقراطية حقيقية. وها هي أمست في موقف لا تحسد عليه.
حسب تصريحات المالكي أنه قبل اتفاق أربيل كانت لديه إثباتات ضد تورط نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي في أعمال إرهابية، لأنه قال: "قبل ثلاث سنوات"! فكيف اجتمع معه بأربيل وأقر له بنيابة رئاسة الجمهورية! حتى أصبحت قضية الهاشمي هي القضية الفصل بين الإقليم والمركز الآن؟!
فقد صرح البارزاني قبل أيام أن الأخلاق الكردية لا تسمح بتسيلم الهاشمي، وهو في هذا التصريح لا يقصد غير تحمل مسؤوليته كراعي اتفاق أو مبادرة أربيل، وبهذا يكون له الفضل الأول في رئاسة نوري المالكي للحكومة، وهو يرى أن هناك تحايلاً صريحاً على الاتفاق.
كانت زيارة السَّيد عمار الحكيم إلى الإقليم، بمناسبة ذكرى حلبجة الأليمة، غير بريئة مِن محاولة عزل نوري المالكي، الذي تورط الائتلاف الشيعي بجعل رئاسة الوزراء للأضعف آنذاك وهو حزب الدعوة، وها هي منذ سبع سنوات لم تذهب إلى غيره.
في تصريح لأحد معاوني نوري المالكي ياسين مجيد، وهو المسؤول الإعلامي أو مستشار رئيس الوزراء الإعلامي- فقد كثرت المناصب والتسميات- خلال مؤتمر صحافي عقده رداً على تصريحات رئيس الإقليم، في مبنى البرلمان العراقي قال: إن "رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني صرح، بأن الأخلاق الكردية لا تسمح له بتسليم طارق الهاشمي إلى بغداد". متسائل: "هل أن الأخلاق الكردية تسمح باستضافة رجل متهم بقتل أبرياء".
فهل بالفعل الإصرار على تسليم طارق الهاشمي، وهو مازال يتمتع بمهام نائب رئيس الجمهورية، لأنه متورط بأعمال إرهابية؟! أم لشأن آخر. كيف يريد المالكي وبمعرفة مستشاره الإعلامي اعتبار الهاشمي متورطاً، وهو لم تثبت إدانته بعد، بل لم يتخذ البرلمان أي قراراً في شأنه. وأكثر مِن هذا أن المالكي ما زال يسعى إلى التفاوض مع العراقية، ومعلوم أن الهاشمي أحد قادتها البارزين، بل هو قطب مِن أقطابها عبر منظمته أو قائمته!
[caption id="attachment_55234182" align="alignright" width="210" caption="المالكي"][/caption]
ما وسع المستشار الإعلامي إلا نبش الماضي، ومعايرة مسعود البارزاني بما حصل قبل ستة عشر عاماً، وهو عندما اندلعت الحرب بين السليمانية بقيادة رئيس الجمهورية حالياً جلال الطالباني وزعيم حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، مِن جانب وأربيل بزعامة رئيس الحزب الديمقراطي مسعود البارازاني، عندما طلب كلّ منهما العون مِن الدولتين الخصمين، الطالباني طلب العون مِن الجار الشرقي إيران، والبارزاني طلب العون مِن بغداد.
قال مستشار الإعلام، وهو قيادي في ائتلاف دولة القانون أيضاً: "تلك الأخلاق سمحت بدخول الجيش العراقي وأجهزة المخابرات الصدامية إلى أربيل عام 1996 واعتقال ما بين 700 و900 مناضل من الحزب الوطني الكردستاني والمؤتمر الوطني العراقي"، معتبرا أن "قضية الهاشمي تحولت إلى أداة سياسية لبعض القوى السياسية"(السومرية نيوز).
ما حدث صحيح، ولم ينكره مسعود البارزاني، بل سمعناه مِن مسؤولين بأربيل، عند المشاركة في مناسبة تكريم الشاعر محمد مهدي الجواهري (ت 1997)، بمرور مائة عام على ميلاده (العام 2000)، وكانت الحدود مغلقة بين أربيل والسليمانية، حتى عند انتقالنا إلى السليمانية ترجلنا من السيارات التابعة لأربيل وركبنا السيارات التابعة إلى السليمانية. لكن ما جدوى التذكير في هذه القضية، هل تعني أن الأمور وصلت إلى حد كسر العظم بين الحزب الديمقراطي، وبالتالي القائمة الكُردستانية، وحزب الدَّعوة، الذي يمثل الحكومة المركزية، أم أنها مغازلة للاتحاد الكردستاني بزعامة الطَّالباني ونبش الذكريات الأليمة؟!
حرب تصريحات
مِن جانب آخر، كيف تعامل حزب الدَّعوة، في المعارضة والسلطة، ونزل الأراضي التي تحت سيطرة الديمقراطي الكردستاني، بعد العام 1996، أي لماذا إخفاء ذلك الشعور لإشهاره في هذه اللحظات؟! وكم مِن أتباع حزب الدَّعوة عبر أربيل وبمعرفة وعناية كوادر الحزب الديمقراطي إلى إيران، من المدنيين والمسلحين!
أقول: بدلاً من حرب التصريحات وتبادل التهم، والتهديد بالملفات، السعي إلى حلول ناجعة وتحمل رئاسة الوزراء مسؤولية الانفلات الأمني وتفاقم الفساد وتعطيل الدَّولة. فلا أظن أن دوائر الهاشمي والبارزاني خالية مِن ملفات إدانة ضد الآخرين، في شأن الدماء أو الفساد المالي الرهيب، بدلالة كم مِن فاسد برئت ساحته، وهو مِن المتورطين، بسبب ما لديه مما يحصن به نفسه، وقضية وزير الدفاع السابق حازم الشعلان ووزير التجارة السابق فلاح السوداني أوضح الأدلة.
إنها أزمة عصية، لعدم وجود رؤى سياسية واضحة، فقد أثبت الساسة العراقيون أنهم ليسوا بساسة، بل ما زالوا يتعاملون كرؤساء تنظيمات معارضة، أو قادة جماعات مسلحة، لهذا أخذت الفرص تفوت العراق في إعادة تأهيله وإعماره، ومن جهة ثانية خفوت الشعور الوطني والانتماء لهذه الأرض، وكأن كلَّ سياسي يعمل لمصلحته الخاصة، ويسابق الزَّمن كي يحصل على الأكثر مِن المال والنفوذ قبل فوات الأوان.
صحيح أن الحال مستقرة إلى حد كبير في الإقليم، لكن اضطراب بغداد ومناطق العراق الأُخر ستؤثر تأثيراً مباشراً، والأزمات تنتقل وتتراكم، فيبقى الإقليم جزءاً مِن العراق، والكُرد لهم صولة وجولة في السلطة المركزية، التي يقفون الآن نداً معها، وهي ليست تلك السُّلطة المخيفة، التي كانت في الزمن الماضي، لكن الضعف هو الآخر قد يقود إلى مساوئ لا تقل خطورة عن سطوة المركز، لأنها ترحل الأزمات، ولا تتمكن مِن الإيفاء بحق الفيدرالية، التي ثبت عليها الكُرد كشعار وممارسة منذ 1992.
[caption id="attachment_55234183" align="alignleft" width="210" caption="البارزاني"][/caption]
بمعنى، على الكُرد أن يكونوا جزءاً مِن الحل، ولا يظهروا قضية الخلاف، بهذه البساطة، أنها تخص حماية طارق الهاشمي، بل الإعلان عن جوهر الأزمة، والسعي إلى حلها عبر انتخابات جديدة، وليس العراق بمنفرد في إعادة الانتخابات فدول متطورة ومستقرة عندما تتعرض إلى أزمة أقل بقليل مما يتعرض له العراق، تعيد انتخاباتها.. مِن جانب آخر أن يقدموا الحل الوطني العراقي العام على الحل الجزئي، وأن يشعروا بقية العراقيين مثلما صرح مسعود البارزاني يوماً: "العراق لنا وكردستان لكل العراقيين".
فظهور التصريحات بين فترة وأخرى تدعو إلى الانفصال أو تهدد بالعزلة عن بقية العراق في شدة الأزمات، أو التركيز على حقوق الإقليم دون الاعتناء بالهم العراقي العام، والصعود بالشعور القومي الطاغي، سيقود إلى تمترس الآخرين وبروز التعصب القومي المضاد بما لا ينفع العراق ككل، ويساعد القوى القومية الشوفينية على النفوذ إلى النفوس.
كذلك لا يجب أن يبقى الخطاب كما كان في المعارضة، بينما يُراد للعراق لبس حلة جديدة، مبنية على التكافؤ بالمواطنة، فالتأكيد على تحالف كردي شيعي أو كردي سني لا يخدم العراقيين، بل يزيد ويبرر التفرقة والطائفية.
ختاماً، ليست القضية قضية تسليم الهاشمي، وهي سياسية قبل أن تكون جنائية، إنما هي أزمة عامة، بحاجة إلى علاج جذري لا ترقيع، فالترقيعات عبر مؤتمرات وطنية أو جلسات إخوانية لا تقود إلا إلى مزيد مِن الدم وهدر الثروة.
ففي الظاهر أن الخلاف بين البارزاني والمالكي وثالثهما الهاشمي، أما الحقيقة فهي أزمة شديدة ربُّما تفرج في انتخابات تحجب وجودها، يصف أشباههم محمد مهدي الجواهري قائلاً: "ومِن عجب إن الذين تكفلوا/ بإنقاذ أهليه هم العقبات" (قصيدة الرجعيين 1929).