* دخلت ليبيا بعد القذافي في فوضى الاشتباكات والحروب والانفلات الأمني، وفقدت كل الحكومات السيطرة على داخل البلاد وكذلك السيطرة على منافذها
* تدريجياً وبشكل سريع زاد خطر أن تتحول ليبيا وهي تحت سطوة الميليشيات والعصابات المسلحة الذين فرضوا سيطرتهم، وأحكموا قبضتهم على مفاصل الدولة حتى تلاشت هذه الدولة تقريباً
* اختصاصي نفسي: لم تكن ليبيا في يوم من الأيام بلد زراعة وإنتاج للمخدرات بمختلف أنواعها، ولكنها كانت وما زالت بلد استهلاك وعبور للمخدرات القادمة إليها من خارج الحدود
* غادرت المشهد حكومة النظام الجماهيري، لكنها أثناء رحيلها وبعده خلفت وراءها أطناناً من المخدرات الفتاكة، وآلافاً ممن كانوا يروجون لها خارج السجون
* بعض ورش العمل والمحاضرات التوعوية الشبابية بجهود فردية خالصة، يقوم بها مختصون في بعض مؤسسات المجتمع المدني في ليبيا
بنغازي: بعد سقوط نظام معمر القذافي، فشلت كل الحكومات الليبية المتعاقبة والتي ما زالت تحكم الآن فشلاً ذريعاً في أن تسيطر على منافذ البلاد الليبية الطويلة، وحدودها المترامية الأطراف، والتي كانت قبل هذا السقوط أكثر من سبعة منافذ برية، وثمانية وعشرين منفذاً جوياً يشعر معها المواطن الليبي بالأمن والأمان، فقد كان نظام معمر القذافي يحكم قبضته القوية جداً عليها، وعمل على تجهيزها بآخر ما توصلت إليه التقنية المتطورة من أجهزة متقدمة ومنظومات حديثه، إلى جانب مسلحين أقوياء، رؤساؤهم يتلقون الأوامر من القذافي مباشرة، أو من المقربين جداً منه.
ولذا كان من الصعب اختراق هذه الحدود الطويلة المحمية بالحديد والنار والرجال والتقنية الحديثة، بل إن نظام القذافي حول هذه الحدود لسلاح يحارب به ويستفز به دول الغرب المحاذية له ويزعج به حكوماته، ويستخدم الهجرة غير الشرعية كورقة ضغط يحقق بها مكاسب سياسية، فكانت الخبرات والأجهزة تصل لليبيا تباعاً ومجاناً أيضا لتنصب على الحدود وتدرب رجال الجمارك وخفر السواحل الليبين على كيفية حماية ليبيا من الاختراق. فنجح معمر القذافي وبامتياز طوال أربعة عقود طويلة في أن يحمي نفسه بسيطرته على حدود بلاده، وتحكم في تهريب أفواج المهاجرين غير الشرعيين ليمروا تحت إشرافه ويعبروا البحر لأوروبا ليجبرها على التقرب منه.
بعد أن مات معمر القذافي ودفن معه نظامه الجماهيري، دخلت البلاد في فوضى الاشتباكات والحروب والانفلات الأمني، ففقدت كل الحكومات السيطرة على داخل البلاد كما السيطرة على منافذها، هذي البلاد التي وقعت تحت سيطرة الميليشيات المسلحة والعصابات المنظمة التي بدأت تعمل وبشكل منظم ومحترف على استنزاف موارد ليبيا وثرواتها، وتتفنن في خنق الليبي وتهدد أمنه وأمانه وسلامته وصحته وحقه في أن يعيش كمواطن يستفيد من الثورة التي شارك فيها وأيدها.
تدريجيا وبشكل سريع زاد خطر أن تتحول ليبيا وهي تحت سطوة الميليشيات والعصابات المسلحة الذين فرضوا سيطرتهم، وأحكموا قبضتهم على مفاصل الدولة حتى تلاشت هذه الدولة تقريبا، وتمكنوا وبسرعة خيالية من اختراق الحدود والمنافذ البرية والبحرية والجوية للبلاد، والسيطرة عليها بطرق متعددة، ووضعوا يدهم عليها بوسائل جهنمية، وبدعم مؤكد من جهات خارجية، استفادت من الفوضى القائمة لتستقر في البلاد وتعبث في أمنها، حدث ذلك بتسهيل داخلي من بعض اللليبيين الذين أعماهم الطمع، والجشع، فباعوا وطنهم، وساعدوا لتزدهر تجارة المخدرات بأنواعها من نبتة الحشيش، والقرص المخدر، إلى الأفيون والكوكايين والهيروين. تدخل بسهولة لبلاد أبوابها مشرعة مفتوحة على البحر وعلى الصحراء، وحدود مهتوكة بلا رقيب ولا حسيب، بلاد يصل إليها كل ما هو ضار بأهلها، ليفتك بها وساستها مشغولون عنها بالتقاتل والاحتراب من أجل الظفر بسلطة زائلة، أو مال حرام.
هذا التقرير يرصد بإيجاز، ويستتبع ما آلت إليه حال ليبيا، بسبب عدم تحكم حكوماتها في منافذها البرية والبحرية والجوية ويستعرض حجم تهريب المخدرات منها وإليها، ويعرض أرقاما معلنا عنها، عن عدد متعاطيها، وحجم الكارثة المسكوت عنها في غياب كامل لسلطة الدولة الليبية التي لاوجود لها!!
بداية الشعور بالخطر ومواجهته
بحسب ما قاله الدكتور رجب محمد أبو جناح، الاختصاصي النفسي في مجال علاج المدمنين، والمدير التنفيذي للجمعية الوطنية الليبية لمكافحة المخدرات، فإن ليبيا «لم تكن في يوم من الأيام بلد زراعة وإنتاج للمخدرات بمختلف أنواعها، ولكنها كانت وما زالت بلد استهلاك وعبور للمخدرات القادمة إليها من خارج الحدود، ولكن خلال السنوات الأخيرة تفاقمت المشكلة وزاد من حدتها دخول أنواع جديدة من المخدرات للبلاد لأول مرة وتنوعت طرق تعاطي المخدرات وزاد من خطورتها تعاطي مخدر الهيروين عن طريق الحقن في الأوردة مما تسبب في إصابة كثير من المدمنين على المخدرات بالأمراض الخطيرة المرتبطة بالتعاطي عن طريق الحقن وهي مرضي التهاب الكبد والإيدز».
تحسست الدولة الليبية خطر المخدرات مع بداية شهر أكتوبر (تشرين الأول) عام 1992م، حين تم افتتاح مستشفى قرقارش للأمراض العقلية بالعاصمة طرابلس، وبها قسم لعلاج الإدمان الذي شرع في استقبال وإيواء وعلاج المدمنين على مخدر الهيروين من الجنسين. بعد سنوات قليلة وقبل أن ينصرم عقد التسعينات، افتتحت الدولة قسما آخر لعلاج المدمنين على المخدرات بمستشفى الأمراض النفسية ببنغازي المدينة الكبيرة الواقعة في شرق ليبيا. وبسبب عجز قسمي بنغازي وطرابلس لاستقبال الأعداد المأهولة التي تتوافد لتلقي العلاج والتأهيل أنشأت الدولة معسكرا كبيراً، تحت إشراف (لجان التطهير ومكافحة المخدرات) مقره في ضاحية (تاجوراء)، الواقعة على شاطئ البحر، والقريبة من طرابلس العاصمة، وفي هذا المعسكر تم ضبط وحجز وعلاج وتأهيل كثير من المدمنين على مخدر الهيروين والكوكايين وغيره من أصناف المخدرات الشديدة الخطورة. مع بداية عام 2000م، قررت الدولة الليبية تحويل المعسكر إلى مركز متخصص، وعيادة متكاملة بإشراف الاختصاصيين النفسيين والاجتماعيين، تم تأهيلهم محليا وخارجيا، وشرع المركز في استقبال المدمنين على المخدرات للعلاج.
وفي عام 1994م تأسست الجمعية الوطنية الليبية لمكافحة المخدرات، برئاسة سيف الإسلام معمر القذافي، وبحسب قرار إنشائها فهي جمعية أهلية خيرية تطوعية لا تهدف للكسب المادي وتنطوي تحت مؤسسات المجتمع المدني، وتخضع لقوانين مؤسسات المجتمع المدني، ولديها فروع في عدد من المدن الليبية، وتقدم خدماتها في مجالات التوعية والوقاية لغير المدمنين على المخدرات وخدماتها العلاجية للمدمنين على المخدرات وهي بذلك تقدم خدماتها لكل شرائح المجتمع، ثم انطوت في 2003م للعمل تحت مظلة مؤسسة القذافي للتنمية وحقوق الإنسان.
لماذا تحولت ليبيا لبلد عبور لسلعة المخدرات؟
يشير الدكتور رجب أبو جناح في إحدى محاضراته التوعوية، التي يحرص منذ أعوام ومعه فريق متخصص على تقديمها في عدد من المراكز الشبابية والمدارس والجامعات الليبية، على أن ثمة أسبابا متعددة، جعلت من ليبيا بلد عبور للمخدرات، وتحديداً بعد عام 2011م، وأن هذه الأسباب أو العوامل منها أسباب خارجية أو عالمية، ومنها أسباب محلية أو داخلية، فعالميا يرى أبو جناح: «أن التطورات الجديدة التي حصلت في العالم والمتعلقة بجغرافيا المخدرات، وانتشارها، وتجارتها وتهريبها، انعكست بشكل مباشر على ليبيا، وحولتها إلى بلد عبور رئيسي للمخدرات، وبالضرورة إلى بلد ارتفعت فيه حالات الإدمان على المخدرات، من هذه التغييرات قفل طريق المخدرات بين إسبانيا والمغرب، فلم تعد تهرب المخدرات المغربية لأوروبا عن طريق إسبانيا إلا نادراً مما جعل تجار المخدرات يلجأون لاستخدام الطرق الليبية الطويلة السهلة، الأكثر أمانا لهم لتهريب المخدرات. وأيضا قفل الطريق بين أميركا والمكسيك التي تنتج ربع الإنتاج العالمي من الحشيش، وبسبب قوانين الهجرة أثر على تهريب المخدرات من المكسيك لأميركا، فكان البديل طريق موريتانيا عبر المحيط إلى الحدود الجزائرية الليبيية مباشرة، ليدخل إلى ليبيا ومنه إلى أوروبا وبذلك تحولت البلاد الليبية لمنطقة عبور سهله لهذه التجارة المحرمة.
كما أن ما شهدته دول غرب أفريقيا (بنين وموريتانيا وتوجو والسنغال) خلال السنوات الأخيرة من توسع في زراعة الحشيش وخشخاش الأفيون، وهذه الزراعة للمخدرات ليست للاستهلاك المحلي ولكن للتجارة العالمية غير المشروعة لأن أصحاب هذه الزراعة ليسوا من هذه الدول ولكن من دول أخرى معروفة بتجارة المخدرات مثل دول أميركا اللاتينية وسوف تهرب هذه المخدرات لأوروبا على نفس طريق المخدرات المغربية التي تتخد من ليبيا محطة عبور.
أما محليا فالدكتور رجب أبو جناح يرى، أن تغير أسعار المخدرات وتحولها من سلعة غالية، إلى سلعة يتم تداولها في ليبيا بمبالغ زهيدة جداً وقد شهدت الكثير من الأنواع منها الوجود في سوق المخدرات الليبية خلال السنوات الخمس الأخيرة وشهدت ضبطيات المؤسسات الأمنية بمختلف تسمياتها كمية من هذه المخدرات الخطيرة. كما أن الانفلات الأمني في كل من ليبيا ومصر وتونس وتوقف رجال الأمن والجمارك عن العمل بالمنافذ خلال فترة الثورات ومساحة ليبيا الكبيرة والشاسعة جعلت منها طريقا آمنا لعمل تجار وعصابات المخدرات بسبب خلو الكثير من الأراضي من السكان تماماً، مما ساعد في دخول كميات كبيرة من المخدرات للأراضي الليبية. ومع توافد أعداد كبيرة من العمالة الأجنبية والأفريقية (خاصة المهاجرين غير الشرعيين) التي دخلت ليبيا قبل الثورة وبعدها، والتي كانت تقوم بتهريب المخدرات لبيعها والإنفاق على معيشتها حتى تتمكن من مغادرة البلاد والهجرة إلى أوروبا. كما أن ضعف القوانين الخاصة بالمخدرات والتلاعب بالقوانين والتشريعات الخاصة بالمخدرات وعدم إدراج بعض المخدرات في جداول المخدرات في ليبيا كلها عوامل ساعدت على تفاقم المشكلة وتضاعف مخاطرها.
أسعار رخيصة واستهلاك وفير
المخدرات بأنواعها في ليبيا تعتبر الأرخص سعراً من أي مكان آخر في العالم، حتى إن بعض الأقراص المخدرة أو المهلوسات سعرها في ليبيا، أرخص من سعرها في بلاد المنشأ، بحسب دراسة نشرها مركز السلام والتنمية الليبي، فإن قطعة الحشيش التي طولها ثلاثة سنتيمترات، يمكن الحصول عليها بخمسة دينارات ليبية أي أقل من دولار بحسب سعره في السوق السوداء، بينما سعر شريط الترامادول المصنوع في الهند والمحتوي على اثنتي عشرة حبة فإن سعره فقط ثمانية دينارات، أما الترامادول المصري نفس الشريط فسعره في ليبيا أرخص من سعره في مصر، حيث لا يتجاوز سعرة خمسة عشر دينارا ليبياً. وبينما سعر قرش مخدر الأفيون في ليبيا أقل من نصف دينار، يصل سعر جرعة الكوكايين من ثلاثمائة دينار إلى خمسمائة دينار ليبي. أما سعر الكيلوغرام الواحد من مسحوق الهيروين المخدر، والذي يطلق عليه تجار المخدرات في ليبيا اسم الغبرة البيضاء، فيصل إلى مائة ألف دينار ليبي. ويعد ما يمكن تسميته بانعدام التوعية المنظمة والمدروسة، بأضرار المخدرات ومخاطرها، بين أفراد المجتمع الليبي أحد العوامل التي ساهمت في انتشارها بسرعة وسط هذا المجتمع المنكوب بالفوضى والحروب وغياب الدولة ومؤسساستها الرسمية.
المنحى التصاعدي للمخدرات في ليبيا ما بعد القذافي
لم تكن المخدرات في ليبيا تشكل خطراً كبيراً، خلال فترة حكم معمر القذافي للبلاد، وربما بسبب أن أجهزة الأمن كانت تعرف وبالأسماء تقريبا، من يسمح ويسهل ويقوم بإدخالها للبلاد، فالدولة التي كانت قائمة آنذاك، كانت تعرف عدوها وتعرف قدراته وربما هي من صنعته أيضاً، لذلك كانت تعرف متي تسيطر وتقلل من حجم وخطورة الظاهرة بالشكل الذي يناسبها، فبكبسة زر من مكان ما تتوقف اللعبة ويستريح اللاعبون، ليعاودوا اللعب بكبسة زر أخرى حسب مصالح الحكومة، التي كانت تقيس بالمسطرة مدى الفساد الذي لا تريد أن تتعداه. وإضافة إلى التشديد في منظومة القوانين الليبية المتعلقة بالاتجار والتعاطي والتهريب للمخدرات بكافة أنواعها، والتي تصل إلى الإعدام، مع موافقة الشركات الأوروبية، خصوصا الإيطالية على تقديمها لمعدات متطورة مراقبة الحدود الليبية. كل ذلك ساهم بشكل كبير في حدوث تراجع حاد في تهريب المخدرات من الشواطئ الليبية إلى أوروبا والعالم والعكس، وخاصة بين عامي 2008 و2010م.
وبعد سقوط حكم معمر القذافي، ومع انهيار الجيش وقوات الشرطة، وسيطرة القبائل الحدودية على المنافذ القريبة منها، فيما احتلت ميليشيات محددة مطار طرابلس العالمي، وتولت تسييره، خارج سيطرة الدولة، وأيضا ميناء ومطار مصراته وقع تحت سيطرة ميليشيات أخرى، وهكذا لم تتمكن الحكومات المتعاقبة من التحكم حتى في أبواب بيوتها ومكاتبها، كل الحكومات الليبية بعد أكتوبر 2011م فشلت بشكل كامل في ترتيب بيت الدولة الداخلي، واكتفت بعض الشخصيات المحسوبة على «فبراير» بترتيب أرصدتها في البنوك التي تهرب إليها أموال الليبيين، وتغافلت عن السم الذي ينخر ليبيا وشبابها.
غادرت المشهد حكومة النظام الجماهيري، لكنها أثناء رحيلها وبعده خلفت وراءها أطناناً من المخدرات الفتاكة، وآلافاً ممن كانوا يروجون لها خارج السجون. وقعت تحت أيديهم المصارف المرصوصة بالأموال، والثكنات العسكرية التي تغص بكل أنواع الأسلحة، فلا حسيب ولا رقيب في غياب الحس الوطني والوازع الأخلاقي. ودخلت ليبيا في نفق مظلم، بينما يتجاهل أصحاب القرار حجم الكارثة، ويتسابقون على نهب المال الحرام، فيما يعمل بارونات الهيروين والترامادول على أن تبقى ليبيا حبيسة هذا النفق حتى حين، فذوو النفوس المريضة ممن همهم تأخير قيام الدولة، جعلوا شباباً في عمر الزهور حطباً لأتون حرب مستعرة، وبعض وقودها مسحوق الهيروين وحبوب الترامادول.
مع اندلاع انتفاضة فبراير 2011م، استخدمت المخدرات كأداة لقمع هذه الانتفاضة، سواء من خلال اتهام معمر القذافي وسيف الإسلام معمر القذافي كل من خرجوا مطالبين بإسقاط النظام بأنهم متعاطون للمخدرات وحبوب الهلوسة، أو من خلال ما تم تداوله في ذلك الوقت، من فرار أو إطلاق سراح آلاف المتهمين بقضايا تعاطي وتجارة وتهريب المخدرات، وما أشيع من أن نظام القذافي، وزع كميات كبيرة جداً من المخدرات على الشباب وعلى الجنود كان متحفظا عليها في مخازن بتاجوراء القريبة من العاصمة طرابلس في مخازن الضبطيات بجهاز مكافحة المخدرات بمنطقة تاجوراء إحدى ضواحي شرق العاصمة طرابلس.
في عام 2012م أصدر مجلس الوزراء الليبي التابع للمجلس الانتقالي قراراً، قضى بحل جهاز مكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية، هذا الجهاز الضخم الذي كان شوكة حادة تحبط محاولات المهربين والمتاجرين بكل أنواع المخدرات، وكان يشرف وينسق ويتواصل بشكل مباشر، مع مصحات حكومية متخصصة في علاج الإدمان، منها مستشفى الرازي للأمراض النفسية في العاصمة طرابلس (قسم زياد لعلاج الإدمان)، ومركز علاج ورعاية المدمنين، ومصحة الإرادة لعلاج الإدمان التابعة لمستشفى الأمراض النفسية بمنطقة الهواري في مدينة بنغازي شرقي ليبيا، وكلها أُقفلت ولم تعد تعمل منذ صدور هذا القرار.
مؤشرات مخيفة ودلالات كارثية
على مدى عقود طويلة، اختفت بشكل تدريجي منذ بداية سبعينات القرن الماضي تقريبا، ملامح منظومة العد والإحصاء في ليبيا، فالمباني بلا أرقام، والشوارع بلا أسماء، وكل شيء تقريبا يخضع للتقدير، من حصر عدد السكان إلى تحديد مناشطهم واهتماماتهم، والأمراض التي تصيبهم. وبسبب اختفاء منظومة العد والإحصاء، وضعفها وتلاشيها في ليبيا خصوصاً بعد فبراير 2011م، هذا الغياب لمنظومة العد والإحصاء، أربك مرافق الدولة التي تقدم خدماتها للمواطن، وصار من الصعب حصر الليبيين ومعرفة عدد الأحياء منهم وعدد الأموات، كما أصبح من المستحيل تحديد عدد المخطوفين وعدد المفقودين خلال الحرب، وعدد المسجونين في السجون العامة، وعدد المسجونين في السجون الخاصة. وعدد المدمنين على المخدرات، وعدد المتاجرين بها، وبذلك فمن المستحيل أن يتمكن أي مسؤول من أن يعطي رقماً صحيحاً عن أي شيء يخص المجتمع الليبي. خاصة أن ليبيا لم تقدم أي إحصاءات عن المخدرات لمكتب الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات ومنع الجريمة منذ عام 1994.
ورغم ذلك أشارت بعض الإحصائيات التي تعتمد على التقدير والتقريب، وتحصلت عليها «المجلة» من أرشيف جهاز مكافحة المخدرات، ومن مصادر موثوقة ومختلفة إلى أن ما تم ضبطه خلال الفترة من سنة 2000م إلى 2009 م إلى ضبط (101.095) كيلوغرام من مخدر الحشيش وضبط (309) كيلوغرامات من مخدر الهيروين وضبط (43) كيلوغراما من مخدر الكوكايين وضبط (5.190.543) قرصا من الأقراص المخدرة وضبط (248.216) لترا من الخمور... ونفس الإحصائيات تشير إلى أنه وخلال نفس الفترة 2000 - 2009 فإن عدد قضايا المخدرات بلغ (20.992) قضية مخدرات وإن عدد المتهمين في هذه القضايا بلغ (30.926) متهما من الجنسين ومن مختلف الأعمار.
وفي دراسة نشرها مركز السلام والتنمية للبحوث الاستراتيجية، أشارت إلى مصادرة سفينة رست في ميناء زوارة في الغرب الليبي، في عام 2012م محملة بكمية تقدر بمئات الأطنان من المخدرات، جرى بحسب الدراسة المنشورة تسديد جانب من قيمة ما تحمله ببراميل نفط مسروقة من الحقول الليبية، بحساب سعر البرميل 70 دينارا، إضافة إلى بضعة آلاف من صناديق زيوت المحركات المَنْهُوبة من مخازن الدولة بسعر 40 دينارا ليبيا للصندوق. وحسب التقديرات الإحصائية، التي صدرت عن مركز مكافحة المخدرات في العاصمة طرابلس، فقد ارتفع عدد المدمنين على المخدرات بأنواعها في عام 2013م، إلى ما يقارب عشرين ألف مدمن معظمهم من فئة الشباب ومن الجنسين.
وبتكاثف الجهود بين اللجنة الأمنية العليا في العاصمة طرابلس ولجنة مكافحة الجريمة وجهاز مكافحة المخدرات، تم ضبط عائلة في 2014م بحوزتها أربعة عشر قنطارا من مخدر الحشيش (القنطار يعادل 100 كيلوغرام)، وفي نفس العام في مصراتة، تمت مصادرة خمس حاويات في الميناء البحري، بداخلها خمسة عشر طنا من مخدر الحشيش مخبأة بصناديق خشبية قادمة مع شحنات فاكهة جوز هند من السنغال.
وخلال الفترة بين عامي 2013م و2014م تم ضبط ما يقارب 50 طنا من مخدر الحشيش، وضبط ما يقارب 48 كيلوغراما من مخدر الكوكايين، وضبط 25 كيلوغراما من الهيروين، وأيضا ضبط كمية مخيفة من الأقراص المخدرة تقدر بـ186 مليون قرص مخدر خلال سنتين فقط!!
وخلال الأسبوع الأول من شهر يناير (كانون الثاني) عام 2015م، ضبطت جمارك ميناء طرابلس البحري، في قضية واحدة 10 ملايين قرص ترامادول، وبحسب تصريح المقدم علي النفاتي المتحدث باسم إدارة مكافحة المخدرات بمصلحة الجمارك لمجلة «صدى» الجمارك الليبية، فإنه خلال الفترة بين سنة 2014 و2015م تم ضبط 170 طنا من مخدر الحشيش (الطن يعادل 1000 كيلوغرام)، وأكثر من خمسين مليون حبة. وبحسب دراسة صدرت عام 2016م عن جهاز مكافحة المخدّرات في ليبيا، وشملت 229 تلميذاً تتراوح أعمارهم بين 12 و17 عاماً في 14 مدرسة، تبيّن أن نسبة مدمني الكحول هي 2 في المائة، والحشيش 1 في المائة، والحبوب المخدرة 3 في المائة، ما يشير إلى ارتفاع نسب الإدمان بين تلاميذ المدارس، ولوحظ زيادة إقبال الأطفال على حبوب الترامادول لأن أسعارها رخيصة، ومفعولها سريع، كما أنها منتشرة بكثرة، وفي إحصائيّة لمركز مكافحة الإيدز، كان لافتاً وجود إناث بين المدمنين على المخدرات.
وفي يناير 2016 اعترضت السلطات التركية باخرة تحمل العلم البوليفي، في طريقها إلى ميناء طبرق وعلى متنها ثلاثة عشر طنا من المواد المخدرة، وفي يونيو (حزيران) من نفس العام ذاته اعترضت البحرية الإيطالية باخرة كانت متجهة إلى أحد الموانئ الليبية. وعلى متنها عشرون طنا ونصف الطن من الحشيش.
في عام 2017م أشارت التقارير الصادرة عن وزارة الداخلية بحكومة الوفاق، إلى تسجيل 345 قضية تجارة بالأقراص المخدرة، وضبط نحو 34.641 قنطارا من الحشيش، و162 كيلوغراما من مادة الهيروين، و362 كيلوغراما من مادة الكوكايين. وفي نفس العام ضبطت السلطات الجمركية بميناء مصراتة 12 مليون حبة ترامادول وكانت على متن باخرة أفرغت حمولتها بالميناء وكانت قادمة من الهند. الدكتور محمد عبد الرحمن الفيتوري رئيس اللجنة الوطنية للوقاية من المخدرات صرح في مؤتمر صحافي أنه ما بين عام 2012م إلى 2017م ضبطت المؤسسات الأمنية الليبية ما يقارب من 220 طن من مخدر الحشيش، وكميات أخرى بلغت 94 طنا ضبطت من قبل دول أخرى وهي متجهة نحو ليبيا، وأيضا 25 كيلوغراما من الهيروين، و46 كيلوغراما من الكوكايين.
السلطات الجمركية بميناء مصراتة صادرت في أكتوبر (تشرين الأول) 2018م، نحو 38 مليون حبة مخدر قادمة من تركيا، قالت إنها أكبر شحنة من الحبوب المخدرة يتم ضبطها من قبل السلطات الليبية. فيما نجح في نفس العام مكتب مكافحة المخدرات فرع أجدابيا، في مصادرة شاحنة قادمة من مصر، وعلى متنها 300 ألف قرص ترامادول.
مطلع هذا العام 2019م، ضبط مكتب مكافحة مخدرات طرابلس كيلوغرام واحد و700 غرام من مخدر الكوكايين، كانت مخبأة في أكياس دقيق، وفي نفس الشهر صادرت سلطات جمركية في ميناء مصراتة البحري، 8 أطنان من مخدر الحشيش كانت في طريقها للاستهلاك في الشارع الليبي.
جهود متواضعة وإمكانيات فقيرة للحد من الكارثة
بعض ورش العمل والمحاضرات التوعوية الشبابية بجهود فردية خالصة، يقوم بها مختصون في بعض مؤسسات المجتمع المدني في ليبيا، مع بعض البرامج الإعلامية وعبر منابر المساجد، هي حملات هدفها التوعية للحد من خطورة المخدرات وتعاطيها والمتاجرة بها والإدمان عليها، تستهدف طلبة وطالبات المدارس والمعاهد والجامعات ومقار أعمالهم. وهي أهم وأنجع الوسائل لحد الآن والتي تسهم بشكل متواضع جدا في التقليل من خطورة آفة المخدرات، في غياب كامل تقريبا لمؤسسات الدولة الرسمية والتي وإن وجدت فبشكل محتشم جداً، في ظل غياب الإمكانيات المادية، والوسائل المساعدة، وانعدام الأمن والأمان وعدم تفعيل القوانين التي تجرم التعاطي والاتجار بالمخدرات، وضعف المحاكم المختصة بالنظر في هذه القضايا، وعدم توفر الضمانات التي تكفل وتحمي الشرطي والقاضي ومأمور الضبط القضائي ورجل الأمن وحتى المواطن الذي يرغب في التعاون من أجل الإبلاغ عن المروجين لهذه الآفة أو يسعى لمواجهتها، لكنهم يخافون على حياتهم التي تهددها الميليشيات والعصابات الإجرامية المنظمة والتي سطوتها أعلى من سطوة الحكومة ومؤسساتها الأمنية والرقابية والقضائية.