* أحمد بن طولون جمع القادة والتجار والأعيان على أول مائدة رمضانية منذ أكثر من ألف ومائة عام
* الملك فاروق أقامها في ساحة قصر عابدين بالقاهرة وتواجد عليها الأعيان بجانب الفقراء
* صاحب فكرة «التكية»: مستمرون بعد رمضان في تقديم الطعام لمن يحتاجه وسنتوسع في محافظات أخرى
القاهرة: تعد موائد الرحمن في مصر واحدة من أهم الظواهر الاجتماعية التي تنتشر خلال شهر رمضان الفضيل في طول البلاد وعرضها، حيث يمتد تاريخها لأكثر من ألف عام، ولا تنبع أهمية هذه الظاهرة التكافلية من كونها محاولة للإحسان إلى قطاع كبير من الناس ذوي القدرات المالية المحدودة فقط خلال أيام رمضان من قِبلَ عدد من رجال الأعمال أو بعض الميسورين من قطاعات الشعب المصري سواء أملا في كسب الحسنات أو لدواعٍ تفاخرية أو انتخابية، أو حتى من قبيل صرف زكاة الأموال، ولكنها تقام أيضا طوال هذا التاريخ من خلال تبرعات قطاع كبير من الشعب سواء للمساجد أو الجمعيات الخيرية أو الأفراد ممن يقيمون هذه الموائد بجهود ذاتية أملا في التعاضد، وإضفاء أجواء روحية في شهر الغفران والعتق من النار.
مائدة الرحمن
الذي يسير في شوارع المحروسة وبصرف النظر عن المحافظات السبع والعشرين المكونة للإقليم المصري سيجد في كل مكان لافتات للإعلان عن وجود «مائدة الرحمن» وخلفها أو تحتها ما يسمي «شادر» أو «خيمة رمضانية»، وهي مكان مغلق تم تدعيمه بأعمدة خشبية متينة محاط بستائر من نوع معين من قماش تصنع منه الخيام، ويكون بشكل مربع أو مستطيل وبمساحة كبيرة أو متوسطة بحسب حجم المائدة، وبداخلها عدد من المناضد حولها عدد من الكراسي، وملحق بالشادر مكان لإعداد الطعام قبل موعد الإفطار بوقت كاف حيث يحضر الضيوف ويتم تقديم الطعام لهم في وجبات، بالإضافة إلى العصائر والتمر والحلويات، ويقوم عدد من الأفراد بتقديم الخدمة للضيوف يوميا حتى انتهاء الإفطار.
أحمد بن طولون أول من نظم مائدة الرحمن
تاريخ هذه الظاهرة الاجتماعية يعود كما يتردد إلى حاكم مصر أحمد بن طولون 220 - 270 هجرية (835 – 884 ميلادية) الذي عرف بالورع الشديد ومجالسة العلماء، وهو صاحب المسجد الشهير المعروف باسمه والمشهور بالمئذنة الحلزونية، وأسس مدينة القطائع التي اتخذها عاصمة لدولته، وجمع ابن طولون في العام الرابع لولايته الأعيان وبعض القادة والتجار على مائدة كبيرة في أول شهر رمضان، وحثهم على العمل بالبر والتقوى، والتراحم بين الناس، والإحساس بالفقراء، وطلب استمرار المائدة طوال أيام شهر رمضان، ودأب أيضا المعز لدين الله الفاطمي على تنظيم موائد الإفطار للصائمين بالمنطقة بالقرب من مسجد عمرو بن العاص وامتدت إحداها قرابة 200 متر.
وأقام الملك فاروق ملك مصر قبل ثورة 52 موائد الرحمن في ساحة قصر عابدين، وكان يتواجد بها بجانب الفقراء عدد من كبار الأعيان والشخصيات الرسمية للإفطار بها في تواصل مهم بين فئات متعددة من المجتمع.
دور كبير للمساجد في التكافل المجتمعي
المساجد أيضا تضطلع بدور كبير في إقامة موائد الرحمن من خلال جهود القائمين عليها أو تبرعات أهل الخير في مصر، واشتهر كثير من المساجد مثل مسجد الدكتور مصطفى محمود في حي المهندسين في الجيزة بإقامة موائد الرحمن الكبيرة والتي تستوعب الآلاف يوميا، وكذلك عدد من المساجد في المحافظات المختلفة، ولم يقتصر دور المساجد فقط على مائدة الرحمن خلال شهر رمضان الكريم بل امتدت في بعض المساجد لتشمل حقائب الأغذية المتنوعة طوال العام والتي تقدم للأسر المتعففة من حصيلة الزكاة للأفراد الذين يعيشون في محيط المسجد والمتبرعين من أهل الخير، وكان للبنوك المصرية أيضا دور ومنها على سبيل المثال بنك ناصر الاجتماعي الذي بدأ تنظيم موائد الرحمن منذ عام 1961.
مجموعة شباب يوزعون 1200 وجبة يومياً في الزقازيق
كريم مصطفى فودة، مهندس الديكور، ابتكر فكرة لإعداد وتوزيع الطعام على من يحتاجه، ليس فقط من الفقراء والمساكين، ولكن أيضا لعابري السبيل والمغتربين وذلك في مدينة الزقازيق بمحافظة الشرقية التي تبعد نحو ساعتين شرق القاهرة وتعد ثالث أكبر المحافظات المصرية من حيث الكثافة السكانية حيث يقطن بها ما يزيد على 8 ملايين نسمة، وأطلق على المشروع اسم «التكية» والتي كانت عبارة عن مكان من العمائر الدينية التي كان يسكن بها المنقطعون للعبادة من المتصوفة ومساعدة عابري السبيل في العصر العثماني، الفكرة تواجدت في أكثر من محافظة من خلال مجموعات مشابهة من الشباب الواعد الذي أخذ على عاتقه مهمة التراحم والتعاضد بين جميع فئات المجتمع في الشهر المبارك.
كريم يعد أحد الناشطين والمتطوعين في مجال العمل الخيري بأكثر من مؤسسة خيرية ويرافقه فريق عمل كبير قال لـ«المجلة» عن فكرة «التكية»: «مشروعنا الخيري هو مائدة رحمن، لكن طول العام وليس في شهر رمضان الفضيل فقط، والهدف الرئيسي من تقديم الطعام لدينا هو الإحسان والجودة في تقديمه، وليست الفكرة خروج الطعام فقط بصرف النظر عن الشكل والجودة، فالخامات التي يعد منها الطعام لدينا تضاهي التي يتم إعداد الطعام منها في الفنادق الكبرى، ونحرص على جودة الطعام وإعداده بشكل احترافي من خلال مجموعة من الشيفات المميزين، وحتى التعبئة والتغليف تضاهي المطاعم الكبرى في مصر، ونحرص على أن تتم بأفضل طريقة».
وتابع كريم: «نعمل منذ أربع سنوات بشكل تطوعي ومعنا فريق عمل مكون من 80 شخصا، والبداية كانت بشكل مبسط من خلال طبق (شوربة عدس) ساخنة يتم توزيعها ليلا، وكان لدينا مكان صغير لإعداد الطعام، وحاليا حصلنا من أحد المتبرعين على مكان كبير، وتم تجهيزه لنا، وهو يستوعب تحضير نحو 5 آلاف وجبة يوميا، ولكنه حاليا لا يعمل بكامل طاقته، ولدينا كثير من الخامات والأدوات لإعداد الطعام، وهناك نظام أمان كامل في المكان، سواء من حيث تهيئة المكان لطعام آمن حيث يوجد متابعة لجودة الطعام، ونحرص على أن يكون طازجا، وأيضا استخدام خامات معينة أثناء إعداد الطعام لتأمين طعام صحي، وتقديمه بشكل مميز، وكذلك نظام مكافحة حريق».
فئات متعددة مستهدفة من المشروع الخيري
وعن الفئات المستهدفة من المشروع، وهل هو للفقراء أم للسائلين فقط، قال: «نستهدف فئات متعددة ومنها المغتربون سواء كانوا طلبة أم عمالة مغتربة من خارج محافظة الشرقية، وكذلك جميع الجمعيات الخيرية المشهرة في الزقازيق يتم توزيع وجبات الطعام عليها، ومعظمها يأخذ وجبات بشكل يومي من «التكية» ويتم توزيعها من خلال هذه الجمعيات على أسر مدرجة لديها ضمن قوائمها، ونقوم حاليا بتوزيع نحو 1200 وجبة طعام يوميا من خلال إعداد مميز جدا للوجبات التي تتكون من اللحوم والخضراوات والأرز والسلطة».
وأضاف كريم لـ«المجلة»: «قمنا بافتتاح (التكية) في أول يوم من رمضان الحالي، والمكان معد ومفتوح لأي شخص لتناول وجبة الإفطار، وهو مكان كبير يستوعب كثيرا بعد الانتقال للمكان الجديد، وبالنسبة للجمعيات والمؤسسات الخيرية تقوم بإرسال سيارات خاصة بها في الخامسة مساء لنقل الوجبات التي يحتاجونها يوميا خلال شهر رمضان وسيستمر الأمر بعد رمضان بإذن الله وبجهود المتبرعين».
وقف هدر الطعام من ضمن الخطط المستقبلية
وعن خططه المستقبلية لهذه الفكرة، تابع: «نهدف إلى أن يكون هناك مطبخ خيري باسم (التكية) في كل محافظة مصرية يتم من خلاله إيقاف هدر الطعام، وتقليل الفجوة بين الطعام المهدر والاحتياج في ظل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الحالية، مشيرا إلى أن الفكرة يشارك فيها عدد من الشباب المتطوعين ومن بينهم رجال أعمال يمتلكون شركات ومشروعات قائمة، ويتم التعاون ذاتيا من قبل كل هؤلاء لتنفيذ هذا العمل على أحسن وجه وبأفضل صورة ممكنة، وهناك تفاعل كبير مع الموضوع فهناك من يتبرع لنا بكيلو أرز، وهناك آخر يتبرع بألف كيلو، فالتفاعل والمشاركة موجودة بشكل جيد من جميع المستويات».
محافظة أسوان ستكون المكان الثاني للمشروع الخيري
ونهدف عقب شهر رمضان – والحديث لا يزال لكريم فودة - إلى افتتاح فرح آخر في محافظة أسوان، حيث تعد من أكثر الأماكن احتياجا، وفي نفس الوقت من أكثر الأماكن التي لا تنتشر بها الجمعيات الخيرية، نافيا وجود تواصل رسمي معهم حول هذه الفكرة، ومرحبا بأي دعم من الدولة أو من رجال الأعمال، وكل من يستطيع المساهمة في هذا المشروع الخيري من أي شخص، حيث إن الهدف من الفكرة هو عدم وجود أي جائع في مصر، ونقبل متطوعين جددا والمكان مفتوح لأي شخص يريد العمل والمساعدة في المشروع الخيري.
الأقباط من بين المساهمين والضيوف على الموائد الرمضانية
أقباط مصر كانوا من بين المساهمين في موائد الرحمن وذلك من واجب الوحدة الوطنية التي تجمع الأديان، وحرصوا على أن يكونوا عنصرا فاعلا في هذه المظاهرة الاجتماعية والخيرية بتقديم الطعام في أكثر من مكان وجهة من خلال التجار وأصحاب الأعمال الأقباط، وكانوا أيضا شريحة ممن يتواجدون للإفطار الرمضاني سواء على موائد الرحمن أو خلال المآدب التي يتم تنظيمها من قبل المؤسسات والهيئات الخاصة أو الحكومية من منطلق المشاركة المجتمعية التي تجمع كل طوائف الشعب بصرف النظر عن الديانة أو العرق، واشتهرت الكنائس المصرية بإنشاء موائد رحمن للإفطار في رمضان.
الفنانون أيضا من بين الفئات التي كانت لها مشاركات في الموائد الرمضانية، واشتهر عدد من الفنانات بتنظيمها خلال شهر رمضان، ورغم الانتقادات التي طالت ذلك من البعض إلا أن الأمر استمر وتزايد سنويا بانضمام آخرين إليه، كما تواجدت القوات المسلحة المصرية هذا العام ضمن منظومة الجهات المنظمة للموائد الرمضانية في مصر حيث أقامت كثيرا من الموائد في مراكز الشباب التابعة لوزارة الشباب والرياضة، وكان واضحا للنظر اللافتات التي تدعو إلى موائد الرحمن في مداخل هذه الأماكن.
الشوارع منافذ خيرية في رمضان
التعاضد والتراحم في مصر خلال الشهر الكريم لم يقتصر على المجموعات من الشباب أو الجهات والهيئات، وإنما امتد ليشمل الأفراد سواء من السكان أو أصحاب المحال التجارية في الشوارع بجميع المحافظات حيث انتشرت فكرة وقوف البعض في تقاطعات الشوارع أمام المحال التجارية أو في الإشارات المرورية ومعهم أكياس صغيرة من التمر وزجاجات العصير يتم توزيعها على المارة قبل دقائق من أذان المغرب، وذلك في مظهر بهيج ينم عن التواصل وتأصل عمل الخير.
حقائب رمضانية
العائلات المصرية أيضا، كل بحسب مقدرتها المالية، تأبى إلا أن تكون عنصرا فاعلا خلال الشهر الكريم من خلال «الحقائب الرمضانية» التي يتم إعدادها قبل بدء شهر رمضان، وتوزيعها على المحتاجين، والأسر المتعففة في الأحياء المختلفة والمدن والقرى، وتحتوي هذه الحقائب على بعض السلع والأغذية الأساسية من الزيت والسكر والأزر والعدس والدقيق والشاي، وتنتشر «الحقائب الرمضانية» بشكل كبير في أوساط المجتمع المصري حتى إنها أصبحت من العادات الحميدة المتوارثة والتي تنم عن التعاضد المجتمعي أيضا.
التجار وأصحاب الأعمال خاصة من الموجودين بالأماكن التي تشتهر بتجمع تجاري ضخم مثل منطقة وسط القاهرة، وأيضا منطقة السبتية ووكالة البلح القريبة من منطقة ماسبيرو كانوا من بين المنظمين لعدد من موائد الرحمن الضخمة واستقطاب الضيوف للإفطار على مقاعدها.
وتشير بعض الدراسات إلى تجاوز تكلفة موائد الرحمن في مصر مليار دولار في شهر رمضان وإلى أطعامها ما يزيد على ثلاثة ملايين مواطن يوميا، ويتجاوز عدد الوجبات في مكان واحد سواء بالمساجد الكبرى أو الموائد المعروفة في القاهرة والمحافظات الألف وجبة لكل منها.
