* ما دام النظام في لبنان طائفياً فاختلال التوازن سيفضي حتماً إلى نزاعات. وأن تكون شهية باسيل كبيرة هذا شأنه، المهم أن يكون أداء رئيس حكومة لبنان رادعاً أمام التعدي على الدستور والصلاحيات
منذ عام 2005 تاريخ اغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري، ومن بعده مجموعة من الوزراء والبرلمانيين وقادة الرأي والأمنيين بدا واضحاً أن مُقرراً إقليمياً يريد للبلد أن يكون مجدداً صندوق بريد. وفعلاً تحول لبنان من سفينة في مهّب الريح إلى سفينة في عين الخطر. الآن البناء السياسي فيه يتداعى. لم يعد حكم الطوائف منتظماً تحت لواء اتفاق الطائف. الشارع في حال غليانٍ. الكل يدعو للإضراب، تحت أي اسم أو حجة، وهذا الأمر شبه يومي، والمفارقة أنه لم يبق قطاع، لا خاص ولا عام، إلا وشارك في الإضرابات المتنقلة والمتوزعة.
مناقشات الموازنة التي دخلت مخاضاً سياسياً ومالياً واقتصادياً لم تخرج منه بعد، خير دليل على هشاشة الوضع اللبناني برمته سياسياً ومالياً واقتصادياً واجتماعياً. والمسكوت عنه هو وجود فريق يريد فرض نفسه رئيساً لحكومة ظل. وكل جلسات مجلس الوزراء وما يتسرب عنها، وتصريحات الوزراء التي تليها، لا تظهر لا من قريب ولا من بعيد أن عمل الحكومة ملتزم بالنص الدستوري، وقاعدته الذهبية أن مجلس الوزراء يحكم مجتمعاً بوصفه السلطة التنفذية. بل على العكس من ذلك، فقد أصبح أشبه بساحة للصراعات، حيث كل فريق يريد أن يستعرض مهاراته الخطابية داخل الجلسة وخارجها.
وعلى الرغم من الخطر الذي يلف البلد وجماعاته فإن القيادة السياسية لم تثبت أنها صاحبة رؤية قادرة على الخروج من درك الانهيار الذي بلغه لبنان جراء الارتجاليات السياسية المتعاقبة ومعها التسويات السياسية التي فتحت بالدستور رويداً رويداً منذ اتفاق الدوحة وأثر «غزوة 7 أيار» التي نفذها «حزب الله» ضد أهالي بيروت والجبل. هذا القصور السياسي ليس مقصوراً البتة على الإدارة السياسية الرسمية، بل هناك ما يشبهه تماماً عند الأحزاب الطائفية لجهة تسجيل مواقف شعبوية تلقى الاستحسان لدى الجمهور وتشد من عصبه، علماً بأن غالبية الأحزاب هي المكوّن الفعلي للسلطة السياسية.
هكذا دخل وزير الخارجية جبران باسيل وبعد 12 جلسة حكومية مخصصة لمناقشة بنود الموازنة المعدة من قبل وزير المالية على حسن خليل وبيده اقتراح موازنة جديدة، مشترطاً صواب ما اقترح، والذي لم يناقشه مع أي من القوى السياسية. وعادة ما يُصار إلى تحضير كل وزارة على حدة موازنتها، لتناقشها مع وزير المال ورئيس الحكومة، ثم تعرض على مجلس الوزراء. فمن أين أتى وزير الخارجية ببدعة تقديمه لموازنة البلد؟
أمام هذا الواقع وحتى هذه اللحظة، يبدو أن رئيس الحكومة سعد الحريري غير معني بتضارب الصلاحيات، ولا حتى بالتعدي على صلاحياته من قبل ممثل العهد القوي وصهره باسيل الذي يتصرف كحاكم مطلق للبنان. هو يريد السلطة فقط. ليس لديه مشروع أو رؤية لبناء البلد أو اقتصاده. لا يمتلك أصلا تلك الصفات التي تؤهله لبلورة استراتيجية ما. ففي الأساس لم ينجح في أي وزارة تسلمها. لا الكهرباء ولا الاتصالات وقطعا ليس في وزارة الخارجية. يكاد يكون من جراء تصرفاته التي تسربها بعض الجهات على بعض مواقع التواصل الاجتماعي في أسفاره إلى الخارج عاراً على لبنان وعلى الأصول الدبلوماسية التي يضرب بها عرض الحائط في كل مناسبة. ثم أي مشروع لبناء دولة ومؤسسات يستوي بالتحالف مع حزب يمتلك سلاحاً غير شرعي ويأتمر بأوامر فيلق القدس ويقدم مصلحة إيران على مصلحة لبنان؟
يطالب باسيل بحصر تمثيل المسيحيين في وظائف الدولة بمن يختارهم هو حصراً، ويولونه الولاء، من قضاة وضباط وموظفي دولة وسفراء. ولا يقف باسيل عند هذا الحد. يريد المشاركة في اختيار الممثلين عن الطوائف السنية أيضا. الكلام هنا عن رغبته في استبدال مدير عام الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان.
المشكلة أن ما من أحد يقف بوجه الشهية الوحشية لهذا الوزير. ولا يبدو أن هناك من يعبئ جدياً بالانتهاك اليومي لاتفاق الطائف الذي كلف اللبنانيين مئات آلاف القتلى والجرحى والمعوقين والمفقودين، ناهيك بالأضرار الاقتصادية الهائلة، وتلك الاجتماعية التي لم تستطع سنوات السلم إصلاحها.
البعض يطالب الرئيس ميشال عون بالتصرف، وأن «يضرب بيده على الطاولة»، من دون أن يشرح لنا معنى «الضرب على الطاولة» دستورياً وسياسياً. ولم يبادر أحد بعد إلى التأكيد بالقول وبالفعل أن لبنان ليس نظاماً رئاسيا وهو العدف الذي يريد باسيل الوصول إليه مدعوما ومتسلحاً بـ«حزب الله»، ومُستغلاً في آنٍ ضعف أداء رئيس الحكومة.
وخير من يجيد لعبة الابتزاز السياسي في النظام اللبناني هو باسيل الذي يهادن ساعة ويشتبك ساعات مع كل من يقف بوجه «أحلامه الرئاسية». وأكثر ما يفعل ذلك مع الرئيس الحريري، حيث يذهب إلى حد الابتزاز بالاستقالة وإسقاط الحكومة.
تفادي المواجهات أو الامتناع عن ممارسة الأدوار المنوطة برئيس مجلس الوزراء لا يعني أبداً الحفاظ على الاستقرار. لا بل على العكس تماماً، لأن باسيل اليوم يعطي الانطباع لدى الرأي العام بأنه يتخطى صلاحيات رئيس مجلس الوزراء، لا بل يتعدى عليها من خلال الممارسات والتصاريح التي يطلقها والتي لا تحترم أولا توجهات الحكومة أو حتى أدوار الوزراء. يريد إسناد نفسه كمرجعية في كل الأمور. فهو كوزير خارجية لا يكتفي بتبني الدعوة لما يسميه «عودة سوريا» إلى الحضن العربي، بل خرج مراراً على بيانات الثقة للحكومات المتعاقبة بوجوب التزام سياسة النأي بالنفس. والأسوء أن مهاراته اللفظية المتواضعة جداً يستعرضها في أي مجال متاح كالكهرباء والمالية والأمن وحتى البيئة... إلخ.
طبعاً هذا من شأنه أن يولد نوعا من المرارة لدى فئة واسعة من الشعب ولو أَسعدَ من يصفق لباسيل. كما أن الخروج عن الأصول الدستورية سيجر ردّة فعل من دون أدنى شك. هناك جمهور قد يأتي من يستثمر في شعوره بالغبن، ويجرّه إلى مواجهة ما تحت عنوان استعادة صلاحيات رئاسة الحكومة مثلا.
لبنان غارق في أزمة اقتصادية كبرى وهناك شعور بين عامة الناس أن الانهيار أصبح حتمياً، فيما يبدو أن البعض يحاول الاستفادة من هذا الوضع من أجل طموحات جد شخصية غير آبهين بوضع البلد. والمرونة في التعاطي السياسي لا تعني على الإطلاق الوصول إلى حد الاستقالة من المهام كما هو حاصل حالياً. فالفراغ خاصة في منطقتنا شيء خطير، لأن من يملأه تلقائياً هو التطرف.
رفض البعض ممارسة التوازن الطائفي من قبل زعماء لبنان بعد الاستقلال كانت له تداعيات سيئة أفضت إلى حرب أهلية عام 1975 واستمرت زهاء 15 عاماً. وما دام النظام في لبنان طائفياً فاختلال التوازن سيفضي حتما إلى نزاعات. أن تكون شهية باسيل كبيرة إلى هذا الحد فهذا شأن من شؤونه، لكن ما يعني اللبنانيين هو أن يكون أداء رئيس الحكومة رادعاً أمام التعدي على الدستور والصلاحيات.