* تغير في المظاهر الاحتفالية على المائدة الرمضانية أبرزها التخلي عن الياميش
* أصبحت الأسر المصرية تهتم بالزينة داخل البيوت أكثر من خارجها
القاهرة: منذ 9 سنوات بدأ رمضان يحل في فصل الصيف المعروف بطول نهاره وقصر ليله ثم بات يأتي في أواخر الربيع الذي لا يخلو من ارتفاع أيضا في درجات الحرارة في بلادنا العربية، ومع هذا التغير الفلكي تغيرت أيضا عادات وطقوس المصريين الرمضانية التي ارتبطت بها أجيال كثيرة، منهم من تمرد عليها ومنهم من حاول ابتكار طقوس جديدة تلائم روح العصر، هنا نرصد أبرز ملامح وطقوس المصريين في رمضان 2019...
اختفاء المسحراتي
كان مرور المسحراتي في وشوارع وأزقة مصر مرتبطا بالشهر الكريم، وذلك على مدار عدة قرون إذ يعود تاريخ هذه المهنة للعصر الفاطمي أي قبل أكثر من ألف عام، حيث كانت مهمته هي إيقاظ النيام قبل أذان الفجر بوقت كاف لتناول وجبة السحور، وكان هذا الطقس يضفي حميمية على أجواء رمضان؛ إذ ينادي المسحراتي على أسماء أطفال الشارع كل باسمه لتشجيع الصغار على تناول طعام السحور على إيقاع الطبل، وينادي على سبيل المثال: «اصحى يا أحمد... رمضان كريم» مع النداء الشهير: «اصحى يا نايم وحد الدايم»، ويمر في كل حي بزيه التراثي، وكانت كل أسرة تخرج ما تجود به من المال تقديرا لدور المسحراتي. ومع التقدم التكنولوجي وانتشار القنوات الفضائية أصبحت الأسر تفضل السهر ومتابعة الدراما التلفزيونية حتى أذان الفجر، فلم تعد بحاجة لمن يوقظها، وتراجع دور المسحراتي مع قصر ساعات الليل ووجود الموبايلات والمنبهات الذكية؛ اختفت مهنة «المسحراتي» خاصة أنها لم تعد مجدية ماديا كما أنها لم تعد تحظى بتقدير المجتمع.
الساحل الشمالي
مع ارتفاع درجات الحرارة بات الهروب إلى منتجعات الساحل الشمالي أمرا محببا لدى الكثير من الأسر المصرية التي تستطيع أن تتابع أعمالها من خارج المدن والذين لا يرتبط أبناؤهم بمتابعة السنة الدراسية وأداء امتحانات نهاية العام. ولم يعد المصريون يتحفظون من مسألة الجلوس على شاطئ البحر بل يتابعون قراءة القرآن والصلاة على امتداد الشواطئ المصرية أو الانتظار قبل ساعة الإفطار وتنظيم مادة الإفطار على الرمال أمام البحر، حيث يمكنك مشاهدة الآلاف في شواطئ الإسكندرية والساحل الشمالي قبل أذان المغرب، وهو أمر كان مقصورا في أغلب الأوقات قبل عشر سنوات على إخوانهم المسيحيين، والسر يكمن في «البوركيني» الذي أتاح للكثيرات فرصة الاستمتاع بالبحر في نهار رمضان. يقول أحمد منعم سمسار عقارات بإحدى قرى الساحل الشمالي لـ«المجلة»: «لم يكن الإقبال على شاليهات الساحل الشمالي قبل عشر سنوات بنفس هذا الضغط فعادة كان الإقبال الكثيف يبدأ مع نهاية شهر يونيو (حزيران) ويمتد حتى نهاية أغسطس (آب) لكن مؤخرا بدأت الكثافة تظهر مع شهر رمضان حيث تحرص الأسر على الهروب من حرارة الجو في داخل المدن بالقاهرة والدلتا والصعيد والاستمتاع بالجو اللطيف في الساحل الشمالي». ويلفت: «رغم ارتفاع أسعار الإيجارات لتصل إلى 10 آلاف جنيه في الليلة الواحدة ببعض الشاليهات والفيلات المطلة على البحر إلا أن الأسر لم تعد تعير بالا للغلاء طالما أن درجات الحرارة هنا لا تتعدى 25 درجة مئوية في شهر رمضان بينما في القاهرة تتخطى الـ35»، مضيفا: «تنخفض أسعار إيجار الليلة في الفيلات والفنادق خلال شهر رمضان وهذا من أسباب إقبال عدد من العائلات على استغلال الفرصة والاستمتاع بأجواء روحانية وأجواء المرح على الشواطئ».
وحول ما إذا كانت الإقامة في الساحل الشمالي تحرم رواده من طقوس شهر رمضان المصرية، يشير منعم إلى أن «الزينة والفوانيس في كل مكان وربات البيوت أصبح في إمكانهن إعداد الولائم الرمضانية في الشاليهات أمام البحر مع توافر الخدمات ومحال الهايبر ماركت على طول الساحل الشمالي والذي لم يعد فقط منتجعا سياحيا موسميا بل تتوافر فيه مقومات المعيشة في المدن مع ازدهار مدينة العلمين الجديدة».
الخيامية
من الملحوظ تراجع بعض مظاهر الاحتفاء التقليدية والجماعية بشهر رمضان التي حفرت في ذاكرتنا الجمعية، فقبل نحو 10 أعوام كانت كل عمارة أو مجموعة عمائر متجاورة تجمع أموال الزينة لتزيين الشوارع وتبدأ هذه المهمة قبل حلول شهر رمضان بأسبوعين وتستمر حتى أول أيامه، وكانت تلك المهمة توكل لشباب الحي الذين يجوبون البيوت ويطلبون الولوج إلى الشرفة لتلقي طرف الزينة من الشرفة المقابلة وهكذا، وكان يصاحب ذاك الطقس الرائع تبادل التهاني بين الجيران وجها لوجه والشعور بالبهجة في كل الشوارع المزدانة بالفوانيس الضخمة في وسطها وتتفرع منها أشرطة لامعة أو زينة ورقية مزخرفة تحمل كلمات رمضان كريم. لم يعد الحال كذلك في غالبية أحياء مصر. فلم يعد حتى أبناء الشارع الواحد يعرفون بعضهم البعض بل هناك حالة من الانعزالية تسود في شوارع أحياء الطبقة المتوسطة والعليا، بينما لا تزال بعض الحارات الشعبية في أحياء الطبقة الفقيرة تحرص على تزيين الشوارع ولكن بشكل بسيط بالشرائط اللامعة المصنوعة يدويا؛ نظرا لارتفاع تكلفة الفوانيس الكبيرة التي تصل إلى أكثر من 500 جنيه مصري وقد تصل إلى 5 آلاف جنيه.
أصبحت الأسر المصرية تهتم بالزينة داخلها أكثر من خارجها، وتكتفي ببعض طقوس تزيين المنازل المتمثلة في ديكورات بأقمشة الخيامية المنقوشة والمزخرفة بموتيفات إسلامية ملونة وزاهية والتي يشتهر بها سوق الخيامية في حي الغورية بمنطقة الحسين بالقاهرة الفاطمية، والذي بدوره أصبح مزارا في الموسم الرمضاني.
تقول السيدة ابتهال السيد، التي تدير صفحة على «فيسبوك» لبيع ديكوارت الخيامية: «كنت أحرص على الذهاب لسوق الخيامية لشراء ديكورات لمنزلي بعد أن أعجبني ديكور أحد الفنادق في حفل إفطار، ومن هنا جاءت الفكرة وأصبحت أبيع هذه المشغولات وأستخدم أقمشة الخيامية في إعداد أكواب للعصائر الرمضانية وأطباق مزينة ومفروشات للمناضد وأفرع زينة بالشخصيات المحببة لنا في شهر رمضان مثل: بوجي وطمطم، وعم شكشك، وعمو فؤاد، وفطوطة، وبكار، إضافة إلى صور ظواهر رمضان التي لا غنى عنها، مثل: الكنفاني وبائع الفول والمسحراتي». وتشير: «أصبح المشروع مربحا حيث أقيم عدة معارض في النوادي الاجتماعية وأجد إقبالا كبيرا وحرصا من الصغار والكبار على شراء الزينة والديكورات المتنوعة إما للبيوت أو للتهادي».
هذا التغير في بعض العادات السلوكية لم تختف معه روح رمضان بل يمكن تلمسها في المطاعم والمقاهي المنتشرة بشكل كبير في كافة أرجاء مصر، ورغم ذلك تظل أجواء رمضان غير تلك التي كانت والتي يشعر المصريون بالحنين حيالها ويشاركون صورا لأبرز من تعلقوا بهم خلال شهر رمضان كالنجمتين نيللي وشريهان وسمير غانم وفؤاد المهندس، بل ويشاركون صورا أرشيفية لأجندة البرامج التلفزيونية الخاصة بـ«رمضان زمان».
ترتبط حالة النوستالجيا لـ«رمضان زمان» بالفن ودوره حيث كانت الأسر تجتمع لمتابعة المسلسلات المميزة والفوازير التي تميزت بكلمات وأشعار ورقصات راقية غرست الفن الجميل في نفوس الصغار والكبار، ذلك الوقت الذي لم يكن للحديث عن التطرف مجال لوجوده أو مكان؛ فالكل يعشق الفن الذي يسمو به. أما الآن فلم تعد الأسرة تلتف حول مسلسل بعينه مع تزايد القنوات الفضائية والترهل في كم المسلسلات التي تعرض في شهر رمضان، مع فواصل إعلانية طويلة تجعل مدة مشاهدة الحلقة ساعة ونصف الساعة، بدلا من 30 دقيقة. فتجد أفراد الأسر المتوسطة كل يمسك بهاتفه الجوال يتابع ما يود مشاهدته.
ورغم ذلك لا يمنع أن أبناء جميع الطبقات قبل حلول رمضان ينساقون لعروض التخفيضات في متاجر «الهابير» على الأجهزة التلفزيونية ذات الشاشات المسطحة والكريستالية للمرابضة أمام التلفاز بعد وجبة إفطار دسمة، فتجد الشوارع مزدحمة بمن يحملون الشاشات على الدراجات النارية أو في سياراتهم أو على أسقفها فتعرف أن رمضان على الأبواب.
طقوس رمضانية لم يدر عليها الزمن
هناك عدد من السلوكيات والعادات المصرية التي لم تتغير رغم التحولات الكثيرة في طبائع المصريين، ومنها الالتزامات العائلية التي تفرض على الزوجين الإفطار في منزل عائلة الزوج أول يوم رمضان والإفطار في منزل عائلة الزوجة ثاني أيام رمضان، وتبادل العزائم على الإفطار والسحور طوال الشهر، لكن طرأ تغير طفيف وهو أن الكثير من «العزومات العائلية» أصبحت تتم خارج نطاق المنازل بل يتم الإعداد لها في مراكب على النيل أو مطاعم كبرى.
الخيام الرمضانية
طقس بدأ في تسعينات القرن الماضي ولا يزال مستمرا بل وبات ظاهرة من ظواهر شهر رمضان الكريم ولم تعد مقتصرة فقط على مطاعم كبرى بعينها أو فنادق بل تقام في نوادٍ اجتماعية وتواكبها بعض المطاعم بتمديد فترة عملها حتى ساعات الفجر الأولى. وتقدم هذه الخيام وجبات متنوعة «أوبن بوفيه» مع فقرات فنية وطربية وترفيهية. وتتنافس الخيام التي تبدأ عملها منذ فترة المغرب حتى الفجر على جذب زوارها بالتعاقد مع أشهر الفنانين والفرق الموسيقية لإحياء الليالي الرمضانية والتي تتضمن في أحيان كثيرة رقصا شرقيا يتنافى مع روحانيات الشهر الفضيل. على الجانب الآخر، مؤخرا بدأت الدولة تهتم بفقرات فنية ذات طابع صوفي ورمضاني يتمثل في فرق الابتهالات والتواشيح. وظهرت فرق إنشاد سورية باتت تنافس كبار المطربين على إحياء السهرات الرمضانية.
ياميش رمضان
إلى جانب الكنافة والقطائف ذات الأسعار المعقولة نسبيا أمام الحلويات الشرقية الأخرى، يعد ياميش رمضان من مكسرات وفواكة مجففة ومشروب قمر الدين والخروب والعرقسوس والتمر هندي من المظاهر الاحتفالية المميزة على المائدة الرمضانية للمصريين، لكن هذا العام تخلت غالبية الأسر عن تلك التقاليد توفيرا للنفقات.
رغم الإحصاءات التي يجريها الجهاز القومي للتعبئة والإحصاء تؤكد أن استهلاك المصريين للطعام يرتفع 3 أضعاف عن الأشهر العادية، إلا أنه كان ملحوظا تغير العادات الشرائية والتحفظ في الإنفاق من قبل الكثير من الأسر وربات البيوت اللاتي أعلن على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي أن شهر رمضان يجب أن يمر كشهر عادي ولا داعيَ لإرهاق الميزانية بشراء متطلبات تفوق الاحتياج المعتاد، وكان ملحوظا أن أكثر ما تأثر هو سوق الياميش الذي خيم عليه الركود هذا العام، رغم انخفاض أسعاره التي ارتفعت عام 2018 بنسبة 30 في المائة إلا أنها هذا العام انخفضت نحو 20 في المائة مع انخفاض سعر الدولار مقابل الجنيه المصري، ما دفع عددا من كبار العطارين لتقديم الياميش في عبوات بالغرام لجذب المستهلكين لكنها لم تحظ بإقبال كبير. وربما يرجع عدم الإقبال إلى حالة الاعتياد بعد الإضراب عنه العام الماضي، مع الأخذ في الاعتبار أن بعض الأسر المصرية تمر بمرحلة نهاية العام الدراسي والامتحانات النهائية بما تتطلبه من نفقات كثيرة للدروس الخصوصية والمواصلات، بينما يحاول عدد غير قليل من الأسر الادخار لفترة «المصيف» وقضاء عطلة الصيف التي أصبحت تكاليفها لا تقل عن 5 آلاف جنيه كحد أدني لعطلة يومين فقط في الساحل الشمالي.
محال العصائر والمخللات
في شهر رمضان يغير كثير من المصريين أسلوب حياتهم اليومي، فمن مراسم شهر رمضان تحول محال بيع عصير القصب إلى محال لبيع العصائر المعلبة من مانجو وتمر هندي وخروب وعرقسوس وسوبيا وقمر الدين لتجد العشرات يتزاحمون عليها على مدار اليوم لشراء لوازم الإفطار، وينقلب يوم عمل بائعي الفول والفلافل بدلا من الصباح الباكر إلى ما قبل الإفطار وحتى ساعات الفجر الأولى، بينما تتباهى محال «الطرشي» أو المخللات بما تعرضه من إنتاجها من الخضر المخللة التي يعتبرها عامة المصريون من فواتح الشهية، وتغلق غالبية محال ومخابز العيش «الفينو» أو «الأفرنجي» كما يطلق عليه البعض، غالبية النهار وبعضهم يعتبر الشهر إجازة للإقبال الكبير على الخبز البلدي والشامي دونا عن الفينو صعب الهضم والذي لا يفضله الصائمون، لكن من الابتكارات المصرية التي لا تعرف المستحيل هناك ما يسمى «عيش الصايمين» وهو نسخة معدلة من الخبز الفينو لكن بشكل دائري وأقل سمكا وأصبح مع الوقت من مظاهر المائدة الرمضانية في مصر. وحول عادات وطقوس المصريين الاستهلاكية، يقول الباحث في علم الاجتماع الدكتور فتحي الجمل أبو عقيل لـ«المجلة»: «نعم تغيرت العادات السلوكية في رمضان فيما يتعلق بالعادات الغذائية فنمط استهلاك الطعام أصابه تغيير جزري وذلك لأسباب عدة منها ما يتعلق بتغير نمط الإنتاج السلعي فالأسرة تحولت من أسرة منتجة إلى أسرة مستهلكة في كافة أنواع أنشطتها وهذا يؤثر سلبا على عجلة التنمية، فالأسرة كانت تعتمد على المنتجات المعدة في المنزل بينما الآن أصبح اعتمادها الكلي على السلع والمنتجات الاستهلاكية المعروضة في المحلات (الهايبرات)».
ويضيف مؤلف كتاب «ثقافة استهلاك الدواء في مصر»: «نمط استهلاك الطعام يعد أكثر المجالات التي يظهر فيها النهم الاستهلاكي، كما يكشف في كينونته عن التغير الاجتماعي والتفاعل بين الطعام والثقافة والرموز والممارسات والطقوس والعادات وأساليب التفكير في الطهي والتسوق. كما أنه جزء هام من الموروث الثقافي، ويمكن من خلاله فهم ديناميات العلاقات الاجتماعية وأشكال المفاوضات واتخاذ القرار، وهوية الأسرة، ومدى تماسكها، وكذلك فهم السياق الاجتماعي والثقافي وديناميات الرفاهية والحيز المرتبط بمكان تناوله ومدى تميزه بالدينامية والاستاتيكية والطقوس المرتبطة بهذا المكان». ويلفت الجمل إلى أن: «تغير نمط استهلاك الطعام ترتب عليه حدوث تحول وتفكك في مفهوم المائدة التقليدية، وتحولها إلى أشكال جديدة من الموائد، أطلق عليها الموائد المتنقلة، والتي تتمثل في الدليفري. كما انتشرت أيضا المائدة القابعة خارج المنزل والمتمثلة في مطاعم الوجبات السريعة والمطاعم الشعبية».