* عارض عون اتفاق الطائف. وكان وحيداً بين القادة المسيحيين الذين اتخذوا ذلك الموقف آنذاك. فيما وجد البطريرك صفير في الاتفاق فرصة للمّ شمل اللبنانيين ووضع حد للحرب
* صفير: هناك أمور من مقومات البلد لا يمكن أن تكون موضع جدل وهي الاستقلال والسيادة والقرار الحر
لندن: في تاريخ الشعوب رجال يعبرون فيتركون بصماتهم، وآخرون ينساهم الزمن حتى من قبل أن يعبروا. قد يقال إن الظروف تصنع الرجال، لكن الظروف إن لم يحسن استخدامها أو الإفادة منها، تمر هي الأخرى من دون أن تترك أي أثر في حياة الشعوب.
إلى جانب أصحاب الأدوار التاريخية، يمكن أن يوضع بطريرك الموارنة السابق نصر الله صفير. رجل تاريخي في ظرف تاريخي من عمر لبنان. شاءت الأقدار أن يتم انتخابه عام 1986 والحرب اللبنانية على أشدها. كان الاحتلال الإسرائيلي لا يزال قائماً في الجنوب، والتدخل السوري طاغياً في الشأن السياسي اللبناني، وأمام الرئيس أمين الجميل سنتان قبل انتهاء ولايته. تلك النهاية التي فتحت الباب أمام اختيار العماد ميشال عون (الرئيس الحالي) رئيساً لحكومة موقتة، بعدما عجز النواب عن انتخاب رئيس جديد للجمهورية. ذلك الاختيار عمّق الصراع السياسي في البلد، قبل أن تلعب المملكة العربية السعودية دوراً إيجابياً في جمع النواب اللبنانيين في مدينة الطائف سنة 1989. حيث توصلوا إلى اتفاق تحول فيما بعد إلى دستور جديد.
عارض عون اتفاق الطائف. وكان وحيداً بين القادة المسيحيين الذين اتخذوا ذلك الموقف آنذاك. فيما وجد البطريرك صفير في الاتفاق فرصة للمّ شمل اللبنانيين ووضع حد للحرب. معارضة عون أدت إلى صدام بين الجيش الذي كان يقوده و«القوات اللبنانية» التي كان سمير جعجع على رأسها ولا يزال، ثم كان صدام آخر بين الجيش والقوات السورية، أطلق عليه عون «حرب التحرير» التي انتهت بهزيمة صعبة لوحدات الجيش اللبناني التي كانت تقاتل القوات السورية وباضطرار عون إلى الخروج منفياً إلى فرنسا. وكان من نتيجة ذلك أيضا أن التدخل السوري أصبح أكثر وضوحاً في الحياة السياسية اللبنانية، وهي المرحلة التي صار يطلق عليها خصوم سوريا «زمن الوصاية».
حقبة صعبة تختصر بأسطر قليلة. كان البطريرك صفير في قلب الحدث، من زاويتين: زاوية موقفه من الصراع بين كتلتين مارونيتين كبيرتين، وزاوية موقفه من الصراع بين سوريا وحلفائها اللبنانيين والقوى التي عارضت التدخل السوري، والتي كان صفير راعياً أساسياً لها ومظلة لمواقفها، من خلال الشعار الشهير الذي أطلقه: ليس لسوريا حلفاء في لبنان، بل لسوريا عملاء.
أتيح لي في تلك الفترة التي لعب فيها صفير دوراً مفصلياً في المواجهة مع التدخل السوري في شؤون لبنان أن ألتقيه في أكثر من مناسبة أجريت خلالها حوارات وأحاديث مستفيضة معه نشرت في «المجلة»، رغم أنه كان مقلاً في أحاديثه الصحافية، يختصر آراءه بجمل مختصرة ولا يحب الإطالة في عرض مواقفه.
بالعودة إلى تلك الأحاديث الآن بعد وفاة صفير يظهر من كلامه كم كان موقفه واضحاً في الدعوة إلى وفاق اللبنانيين، وكم كان ثابتاً في رفض الدور السوري في لبنان، انطلاقاً من حرصه، كما قال لي مرة، على الدور التاريخي الذي لعبته البطريركية المارونية منذ إعلان قيام الدولة اللبنانية سنة 1920 (السنة التي ولد فيها صفير).
في حديث أجريته معه في صيف العام 2001، ونشر في العدد 1125 من «المجلة» في 2 سبتمبر (أيلول) من ذلك العام، قال: «نحن لم نبحث عن هذا الدور وإنما هو دور كان يقوم به تقليدياً البطاركة الموارنة. وعندما استقل لبنان كان البطريرك الماروني إلياس الحويك آنذاك هو من فوض إليه اللبنانيون أن يذهب إلى مؤتمر السلم في فرساي سنة 1919. لكي يطالب باستقلال لبنان وإعادته إلى حدوده الطبيعية. وهذا ما حصل».
أما ملاحظاته على الطريقة الانتقائية التي تم بها تطبيق اتفاق الطائف بعدما انفرد السوريون بالسيطرة على القرار في لبنان، فأكثر من أن تحصى. في حديث في 21 سبتمبر 1997. أبدى استياءه من التطبيق العشوائي للاتفاق، وانتقد طريقة تشكيل الحكومات من لون واحد يبقي فئة من اللبنانيين مبعدة عن المشاركة في القرار السياسي، وهو أمر مخالف لوثيقة الوفاق الوطني ولاتفاق الطائف.
أما عن المعاهدة التي تمت بين سوريا ولبنان في عهد الرئيس إلياس الهراوي وأطلق عليها «معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق» فكان رأي صفير أن المعاهدات تتم عادة بين دول تتمتع بكامل السيادة على قرارها السياسي وهو أمر غير متوافر في لبنان عند توقيع المسؤولين فيه على هذا الاتفاق.
كما كان صفير واضحاً أيضاً في تأكيده على الشراكة مع المسلمين في لبنان وعلى العلاقات الطبية مع العرب. قال لي في أحد الأحاديث أن اتصالاته مع القادة المسلمين في لبنان من سياسيين وروحيين تؤكد له بما لا يقبل مجالاً للشك حرصهم على بقاء لبنان على ما هو عليه من تعايش حقيقي قائم على المساواة الكاملة. فالمسلمون في لبنان أو في المنطقة المحيطة به لا يقبلون ولا يوافقون على أي تغيير في وضع لبنان.
سألته مرة عن رأيه في العلاقات اللبنانية السورية بعدما رفض مراراً زيارة دمشق فقال: «نحن لا نكن إلا كل الصداقة للشعب السوري. فنحن جاران والجار قبل الدار كما يقول المثل. كل ما نريده هو احترام سيادة بلدنا وعدم التدخل في شؤونه الداخلية وفي قراراته الخاصة به، وهذا أمر لا نقوله نحن فقط بل يقوله من هم حلفاء لسوريا ويذكرون كيف يجري التدخل في القرارات وأحياناً فرض قرارات معينة على المسؤولين في لبنان».
كان البطريرك صفير على تفاهم مع الرئيس رفيق الحريري بعد تكليفه للمرة الأولى تشكيل الحكومة عام 1992 في عهد الرئيس إلياس الهراوي واستمر في منصبه في تلك المرحلة حتى عام 1998. سألت صفير في أحد لقاءاتي معه (عام 1997) عن علاقته بالحريري فقال إنه لا يشك في نوايا رئيس الحكومة وفي جديته وقدرته كما أنه يتوافق معه على الأمور الأساسية، لكنه يعرف أن الوعود شيء والإمكانات المتوافرة شيء آخر. وكان صفير يشير بذلك إلى الضغوط التي كان الحريري يتعرض لها من القيادة السورية آنذاك.
الخطوة المهمة التي أقدم عليها صفير والتي يذكرها كثيرون اليوم هي زيارته لمنطقة الشوف ولقاؤه مع الزعيم الدرزي وليد جنبلاط (في صيف سنة 2001) لإتمام ما سمي «مصالحة الجبل» التي فتحت الباب أمام عودة المهجرين المسيحيين إلى قراهم في تلك المنطقة. تصادف أن التقيته بعد شهر من تلك الزيارة وسألته إذا كان يهدف إلى قيام تحالف أو علاقة ثنائية مسيحية - درزية على حساب الطوائف الأخرى. فقال: «ليس صحيحاً أننا نسعى إلى ثنائية في الجبل. وليد جنبلاط قال إنه ليس هناك ثنائية ونحن أيضاً أشرنا إلى ذلك. ونحن نرغب أن يتصالح جميع اللبنانيين وليس فقط المسيحيون والدروز كي يقفوا صفاً واحداً في سبيل استقلال لبنان وسيادته واستعادة قراره الحر».
وأضاف شارحاً مفهومه للسيادة: «هناك أمور من مقومات البلد لا يمكن أن تكون موضع جدل وهي الاستقلال والسيادة والقرار الحر وما تبقى هو موضوع خيار».
قلت للبطريرك صفير في ذلك الحديث: «أنت الوحيد بين رجال الدين إلى جانب أمين عام حزب الله حسن نصر الله تقومان بدور سياسي. هل توافق على دور رجال الدين في السياسة؟»...
أجاب: «نحن دورنا معروف. فنحن ليس لدينا سلاح ولا ميليشيات ولا مواقف حربية. نحن موقفنا مبدئي فقط».